كاميرا السبت: ماذا تفضِّل التعليم أم المهارات؟
علي حسين عبيد
2020-11-07 08:35
يقارن الأب الآن بين طفولته القاسية، وبين طفولة ابنه (عمّار) المرفّهة، ويقارن أيضا بين المهارات التي اكتسبها في طفولته ومطالع شبابه، وبين الخمول والكسل الذي خيّم على حياة ابنه عمّار، ومن المؤسف حقّاً أن الأب يكتشف بعد سنوات طويلة، أنه أسهم في تكريس العجز والتكاسل في شخصية ابنه من دون أن يقصد، ولكن ما حصل بالنتيجة أن الابن لا يتقن مهنة محدَّدة، ولا حرْفة بسيطة، وغير قادر على إنتاج أي فعل مفيد لنفسه وللمجتمع.
مما زاد من قلق الأب وضاعف من حزنه، أن ابنه عمّار أخذ يلومه مراراً على هذه التربية التي جردْتهُ من القدرة على العمل، وحرمتهُ من المهارات، وجعلته يديم حياته بالاعتماد على أبيه الذي بالغ كثيرا في مراعاته وتدليله أيضاً، لم يعِ عمّار خطورة تربية أبيه له في طفولته، لكنه اكتشف في شبابه أن تلك المراعاة المبالَغ بها لم تكن في صالحه.
ذات يوم فزَّ عمّار مرعوبا من الصراخ العالي الذي اندلع فجرا من بيت الجيران، كان صديقه (حمزة) الذي يقاربه بالعمر يصرخ بشدة من ألم الصفعات المتتالية التي يتعرض لها من أبيه، حدث هذا قبل بزوغ الشمس، وبدأت الكلمات تتضح له، كان الأب الجار يصرخ على ابنه حمزة للنهوض إلى العمل، وحين تكاسلَ حمزة تصاعدَ صراخ أبيه وتضاعفَ ضربه لابنه، بالنتيجة نهض حمزة وغادر بيتهم إلى مركز المدينة البعيد، ولم يعدْ إلا مع غروب الشمس، محمَّلا بأكياس الفواكه والخضرة.
حين كان عمّار يلتقي بحمزة لمدّة وجيزة، كان يسأله بلهفة عن عملهِ وكم هي الأجرة التي يحصل عليها لقاءَ عمله، وهل هو متعب أم لا، أسئلة كثيرة كانت تخرج من فم عمّار، لكنه لم يسألهُ ولا مرة واحدة عن إمكانية أن يعمل معه، لم يخطر في باله مثل هذا السؤال، لأن أباه لم يحثّه على العمل ولا على كسب المال، بل كان يطلب منه الراحة والاستجمام والتركيز على الدراسة وحدها، في حين أن حمزة بدأ حياته مع دوّامة العمل، ولم يسمح له أبوه بالدراسة.
ورغم أن عمّار وحمزة قضيا طفولتهما معا صديقان منسجمان، لكنهما عاشا حياة متناقضة، فعمّار لم يدخل في معترك الخشونة والبحث عن العمل، ولم يشعر في يوم أو لحظة ما بأنه يجب أن يتعلّم مهارة أو حرفة، لأنه كان مكتفيا بأبيه الذي لم يضغط عليه كي يعمل أو يتدرّب أو يواجه مصاعب الحياة، بل على العكس كان يمنعه من مجرد التفكير بالعمل، وكانت حجته الدراسة، فكل ما يطلبه من ابنه عمار التفوّق بالدراسة.
وحصل هذا بالفعل، فقد كبر عمّار، تجاوز المتوسطة والإعدادية، ودخل المرحلة الجامعية، ودائما كان يأتي بعلامات التفوّق الدراسي، وكانت إحدى المراتب الثلاث الأولى محجوزة له في جميع السنوات الدراسية، لكنه حين وصل المرحلة الجامعية الأخيرة، اكتشف أنه لا يجيد عمل أي شيء سوى القراءة والكتابة والتفوّق في الدروس النظرية، ومن الغريب حقا أنه لا يستطيع أن يمسك بمطرقة أو مفك بطريقة صحيحة.
إنه عاجز عن الإتيان بأي عمل منتِج على الرغم من بلوغهِ العشرين، والغريب أيضا أن أباه أمضى طفولته في العمل، فتعلَّم مِهَناً متنوعة، وتزامن ذلك مع مواصلته للدراسة وحصوله على شهادة جامعية، لكنه لم يضغط على ابنه عمار قيد أنملة، وكان يردد بينه وبين نفسه (لا أريد لابني أن يتعرّض للعذاب الذي واجهته في حياتي)، وأخيرا اكتشف بأنه لم يكن على صواب في تربيته لابنه عمار وحرصه المبالغ به عليه.
تجاوز عمار سقف العشرين، ومثله صديقه حمزة، الأول لا مهارات لديه، ولا جرأة على العمل من أي نوع كان، على خلاف الثاني الذي خبرَ مهارات كثيرة حتى يكاد يقضي ساعات نهاره كلّها في العمل والحصول على موارد مالية جيدة، فيشعر أنه حقّق ذاته، لكن النقص الوحيد والمؤلم لحمزة، أنه لم يعرف القراءة والكتابة لأنه لم يدخل المدرسة قطّ.
أما عمّار فإنه حصل على شهادة جامعية مرموقة، وبإمكانه مواصلة الدراسة للحصول على شهادة عليا، لكنه يتألم ويلوم أباه كثيرا، لأنه لا يتقن أية مهارة، ولا يجيد أي عمل، بل من الغريب أنه حتى اللحظة لا يمكنه مسك المفك (الدرنفيس) بصورة صحيحة.
في جلسة جمعت عمّار وحمزة بوالديهما، تكلّم أبو عمار موجّها كلامه لابنه:
- أعتذرُ لك يا ولدي، لقد أخطأتُ في حقك، كنتُ أظن أن الدراسة وحدها تكفي وتعوِّض عن اكتساب المهارات وإجادة العمل، وكنت حريصا على أن تعيش حياتك بلا تعب، لكنني اكتشفت خطئي متأخرا...
بعد ذلك جاء دور أبي حمزة، فقال لابنه:
- أعتذرُ لك يا ولدي، كنت أعتقد أن إتقانك للعمل هو أهم شيء في الحياة، ولم تكن التعليم يعنيني بشيء، كنت أظن أن المدرسة ضربٌ من الترف لا غير، فضغطتُ عليك بشدة كي تكتسب المهارات مبكرا، لكنني أقرّ الآن لك بخطئي، كان يجب أن أساعدك على التعليم وإتقان العمل والمهارات في نفس الوقت....