نظرية "صدام الحضارات" وإنتاج التطرف الديني
محمد علي جواد تقي
2015-06-11 03:36
عندما طرح المنظر الاميركي والاستاذ الجامعي، صامويل هنتغتون نظرية "صدام الحضارات" في كتاب صدر عام 1996، لم يكن العالم يشهد الصراعات الاقليمية والدولية المتشابكة كالذي يحصل اليوم، إنما كان الهدوء النسبي سيد الموقف، فقد كانت روسيا مشغولة بالرد على الطموحات الانفصالية داخل اتحادها، من قبل "الشيشان"، ولم ترق تلك الحرب الى مستوى التدويل، فيما كانت اوربا خالية من الازمات الاقتصادية والسياسية والمالية، حتى الشرق الأوسط، كان يراوح في قضيته العتيدة تحت عنوان "السلام في الشرق الاوسط" حيث تجري المفاوضات الماراثونية بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني حول بعض الملفات التي هي الاخرى لم تشهد التدويل، مثل المستوطنات وعودة اللاجئين وعائدية القدس الشريف. مما يعني أن النظرية التي أسست لـ "بناء النظام العالمي الجديد"، جاء في توقيت معد له سلفاً، ليعلن للعالم – بالنيابة عن اميركا كلها- بأن من يريد الوجود في هذا العالم، عليه الاستعداد للصراع والحرب لإثبات وجوده وهويته، وإلا فانه زائل لا محالة!
وعندما نتحدث عن الهدوء النسبي في العالم، فإنما نجري مقارنة بين تلك الفترة، وما يعيشه العالم اليوم من حرب عالمية غير معلنة ضد هدف محدد هو "الإرهاب" لكنه خارج الإطار الجغرافي، وهذا لم يكن لولا وجود بذور هذه الحرب والصدام الموعود، في تلك الفترة بالذات، حيث شهد العالم لأول مرة ظهور اسم "تنظيم القاعدة" وصعود "طالبان" في افغانستان واستيلائهم على الحكم وتقديمهم أول نموذج للتطرف الديني في أكثر صوره ظلامية.
ويبدو ان "القاعدة"، كتنظيم وافراد وقيادة، ربما قرأوا الكتاب، قبل صدوره، او وهو في طريقه الى الطبع...! فقد بدأوا تحركهم باتجاه الوجود الاميركي في المنطقة، فاستهلوها من اليمن، وتحديداً من ميناء عدن باستهداف المدمرة الاميركية "كول" ومقتل اول وجبة من الجنود الاميركان في مسلسل الصدام والحرب التي تمدّ أذرعها اليوم في كل مكان، ثم جاءت احداث تفجير السفارتين الاميركيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998. ومنذ تلك الفترة بدأت "القاعدة" تنشر افكارها المعادية ليس فقط لأمريكا ضمن العنوان السياسي، إنما ضمن العنوان الحضاري، وهذا ما قصده تحديداً "هنتغتون عندما وضع أسس جديدة للسياسة بأنها "لاتستعمل فقط في دفع الشعوب لمصالحها قدماً، إنما من أجل تحديد هويتها..."، وفي الوقت ذاته يبين رؤيته (الاميركية) في هذا الصراع بأن "ليس هناك أصدقاء حقيقيون بدون وجود أعداء حقيقيين. إننا ما لم نكره الآخرين فلن نستطيع أن نحب أنفسنا...".
لكن السؤال في كيفية فرض هذا الصراع على الشعوب والامة دون وجود مبادئ وقيم ذاتية تؤسس لهذا الصراع، كما هو الحال لدى الاميركيين او الغربيين بشكل عام؟ إذ من المعروف أن الاسلام، هو دين السلام والمحبة والتعايش، وهذا ما لا ينكره المسلمون بكل طوائفهم، في حين نلاحظ الغرب هو الذي ينظر للحرب والصراع بدافع من ايمانه بأن التحضّر الذي يدعيه إنما جاء بجهد خاص منه، ولا دخل للدين والشعوب والتلاقح الحضاري في القضية.
وهذا يدلنا على اجابة، ضمن اجابات عن هذا السؤال، وهي عامل "التفوق الحضاري" التي يشير اليها صاحب نظرية "الصدام"، على أن من اسباب هذا الصدام هو "مشاعر التفوق نحو شعب يعتقد أنه مختلف جداً عن الشعوب الأخرى"، كما يشير الى اسباب اخرى في كتابه. وهذا بحد ذاته أثار مشاعر الحقد والكراهية في نفوس وعقول لم تكن مؤهلة بالأساس لاستيعاب القيم الحضارية للاسلام التي كانت تقف بالضدّ مما بشّر به هذا المفكر الاميركي. وربما يمكننا القول: أن كتابه ونظريته هذه، كان لها الدور الكبير في تغييب تلك القيم عن الساحة الثقافية في البلاد العربية على وجه التحديد، واستبدالها بقيم الصراع والصدام، ولا ننسى التأثير الذي لقيه الكتاب المترجم الى العربية عام 1999، والاصداء التي تركها في الاوساط الثقافية والدينية، فكانت المادة الاساس لمن يسموهم بـ "الدعاة" ورجال الدين من كتاب ومفكرين وأئمة جماعة وغيرهم، لأن يرتقوا المنابر العالية وقوفاً ويرفعوا اصواتهم بالحديث عن الاسلام والمسلمين المهددين من قبل الغرب. وهذا تحديداً ما دعا بعض المفكرين والمتابعين للتساؤل عن سبب عدم استهداف "القاعدة" للأنظمة السياسية العربية او الاسلامية، مع معرفتها بعمالتهم وانهم السبب الرئيس في معاناة وويلات الشعوب.
ان الشعور بالضعة على الاصعدة كافة، لدى شريحة ممن تحمل شيئاً من الثقافة والعلوم الدينية من خريجي المدارس الدينية في باكستان ومصر والسعودية، جعلهم ينتجون فكراً لا يخدم النمو الانساني ولا يدعو الى الإصلاح والتقدم، بقدر ما يحمل شعار الانتقام من كل شيء بسبب شعورهم المفاجئ بفقدانهم الهوية التاريخية والثقافية وهم في بلدانهم الاسلامية، فجاءت هذه النظرية (الصِدامية) لتزيد رؤيتهم ظلامية وتهيج في نفوسهم نزعة العنف والدموية والكراهية لكل ما هو اجنبي وغربي حتى وإن كان فيه شيئاً من الفائدة.
لقد كرّس الغربيون مشاعر الحقارة والضعة في نفوس عدد كبير ممن تصوّر انه يمثل الاسلام الحقيقي وانه بقتاله في افغانستان خلال فترة الثمانينات ثم التسعينات، إنما يستعيد أيام صدر الاسلام، بل ويتقمّص البعض بعض الشخصيات التي كانت تحوم حول رسول الله، صلى الله عليه وآله، وبكل فخر واعتزاز، واذا به يجد نفسه، أمام العالم عارٍ من أي هوية تاريخية وحضارية، يجره الفشل الى حتفه، وهذا ما حصل بالضبط في تجربة حكم "طالبان"، التي يمكن عدّها تجربة غاية في المرارة على التنظيمات والحركات التي تبنت الفكر السلفي والوهابي. ومنذ ذلك الوقت حزمت تلك التنظيمات أمرها على خوض الصدام الذي لم ينتظره "هنتغتون" طويلاً، كما لم ينتظره الغرب طويلاً ايضاً.
ولعل قمة الصدام الذي تنبأ به "هنتغتون"، تحقق منذ الايام الاولى لاجتياج القوات الاميركية للاراضي العراقية للإطاحة بنظام صدام، حينها أسفر الاميركيون ومعهم الغربيون ضمن التحالف العسكري والسياسي، والحضاري ايضاً، عن نواياهم الحقيقية بأنهم يشهرون اسلحتهم في حرب حضارية أمام عدو صنعوه هم بأنفسهم ليبحثوا من خلاله عن الانتصار الذي سيشمل قطعاً، المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، وكل ما تتضمنه الحضارة.