الأحكام الاخلاقية والاختيار الطبيعي
حاتم حميد محسن
2020-07-26 04:30
منذ ظهور كتاب دارون (أصل الانواع) عام 1859، جرت وبشكل موسّع مناقشة السؤال حول ما يقوله لنا التطور عن القضايا الاخلاقية. الدارونية الاجتماعية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تعطي جوابا واحدا لهذا السؤال، اما فكرة المغالطة الطبيعية (للفيلسوف G.E.Moore عام 1903)، والنظريات الاخيرة من جانب البايولوجيين التطوريين امثال (ريتشارد الكسندر 1987، روبن دونبر 1996، ومات ردلي 1997) فانها عرضت أجوبة مختلفة جدا لهذا السؤال.
الدارونية الاجتماعية
كان هربرت سبنسر هو المؤلف الرئيسي للدارونية الاجتماعية وليس دارون، وقد طوّر هذه النظرية كنظرية اخلاقية وفلسفة سياسية. بعد ظهور (أصل الانواع)، قام سبنسر وبسرعة بإعادة صياغة نظريته الاخلاقية كنتيجة منطقية لعملية الاختيار الطبيعي. الفكرة الجوهرية للدارونية الاجتماعية هي ان الأثرياء والأقوياء يتمتعون بالامتيازات لأنهم اكثر لياقة من غيرهم من حيث الصفات التي يفضّلها الاختيار الطبيعي. الفقراء والضعفاء لديهم صفات أقل لياقة ولذلك من الأفضل تركهم ينقرضون طالما ان القضاء عليهم يمثّل اختيارا طبيعيا يفضّل السمات الأفضل وان انتشار السمات الأفضل هو شكل من التقدم.
هذا الخط من التفكير حول القضايا الاخلاقية، السياسة، والاجتماعية اُستخدم لتبرير الكولنيالية، الرأسمالية الشديدة التحرر، والعسكرية القمعية. في أي صراع عسكري فان الجيش الأكثر لياقة سيسود وهذا سيشكل شكلا من التقدم. انه ايضا يبرر سحب المساعدة من الفقراء وتقييد الهجرة الى الولايات المتحدة من المناطق التي اُعتبرت أقل لياقة سكانية. الدارونية الاجتماعية ارتبطت بقوة بتحسين النسل، وهي الفكرة القائلة بأن المجتمع (عادة الحكومة) يجب ان تمنع (غير اللائق) من التكاثر. هذا قاد الى سن قوانين، في العديد من الولايات الامريكية وفي السويد، قوانين تأمر بإجراء العقم لأولئك المرضى ذهنيا واخلاقيا. النازيون حملوا منطق الدارونية الاجتماعية الى أقصى حد، وفهموها كرسالة لهم لخدمة رفاهية العرق الألماني الأرقى على حساب الأعراق الأقل لياقة وحتى التخلص من الأعراق الاخرى التي اعتبروها معادية للعرق الألماني.
وهكذا أعطت الدارونية الاجتماعية في المانيا، اثناء حكم الرايخ الثالث تبريرا علميا للأشكال المتطرفة من العنصرية والقومية. من المهم ملاحظة ان دارون ذاته صرّح انه ليس دارونيا اجتماعيا وان العديد من مؤيدي الدارونية كنظرية علمية مثل توماس هكسلي الذي هو اكبر المؤيدين لنظرية التطور، ايضا رفضوا الدارونية الاجتماعية. الآن ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين لم يعد هناك اي مناصر للدارونية الاجتماعية.
مغالطة الطبيعية The Naturalistic Fallacy
الفيلسوف G.E.Moore صاغ مفهوم المغالطة الطبيعية في كتابه مبادئ الاخلاق الصادر عام 1903. المغالطة الطبيعية في شكلها المعاصر تؤكد ان لا احد يمكنه تبرير اي سلوك اخلاقي بحجة انه طبيعي او انه يُفضّل من جانب الاختيار الطبيعي. التطور المسترشد بالاختيار الطبيعي يعطي توضيحات عن خصائص الكائنات الحية لكنه لا يستطيع ان يقول لنا كيف يجب ان نتصرف. يستطيع المرء بسهولة الجدال بان أسوأ حالات السلوك الانساني كجريمة القتل مثلا، هو طبيعي او انه يبرز من عواطف الانسان التي هي نتاج الاختيار الطبيعي في العصور الماضية، لكن هذا التبرير لن يجعل الجريمة أخلاقية. الاخلاق والعلوم تمثل طرقا مختلفة جدا للتفكير ولا يجب الخلط بينهما.
النظريات المعاصرة لأصل تطور الاخلاق يمكن ان تساعدنا في توضيح لماذا يجب ان يكون الموقف بهذا الشكل.
الأصل التطوري للأخلاق
طوّر عدد من المنظرين التطوريين نظريات في الاخلاق تؤكد ان ميول الانسان تحكم على أشكال معينة من السلوك كجيد او يستحق التقليد والمكافأة، واشكال اخرى كسيئة ولا تستحق التقليد وجديرة بالعقوبة. هذا هو اساس الاحساس بالصواب والخطأ الذي يحدث لدى كل الناس وهو عرضة لمزيد من النقاش في كل المجتمعات. العواطف القوية منخرطة في هذه الأحكام من الصواب والخطأ. مختلف المجتمعات لها مختلف المعايير من الصواب والخطأ وتلجأ الى مصادر مختلفة، وعادة ما تكون مختلف التقاليد الدينية هي المصدر لتبرير تلك المعايير.
هناك البعض من المؤلفين يجادلون انه رغم التباينات الثقافية الكبيرة في القواعد الاخلاقية لكن يمكن للمرء ان يجد بعض المبادئ الاخلاقية العالمية الواسعة. المثال الأبرز عن هذه المبادئ الواسعة هي القاعدة الذهبية: إعمل للآخرين ما ترغب ان يعملوا لك. غير ان هناك ايضا اختلاف كبير. العبودية حُكم عليها بشكل واسع انها مقبولة اخلاقيا، كذلك في العديد من المجتمعات التقليدية اُعتبر من المرغوب للآباء ترتيب زواج لأولادهم وهم لازالوا صغار جدا. في المجتمعات المعاصرة، هذه الممارسات تُعد غير مقبولة. مع ذلك، هناك حتما اخلاق عالمية، الناس في كل مكان في العصور الماضية يعتبرون الأحكام الاخلاقية ذات أهمية عظمى ويبذلون جهدا كبيرا في تعليم وتوجيه ونقاش المبادئ الاخلاقية.
البايولوجي ريتشارد الكسندر (1967) عرض نظرية تفيد بانه في عملية التطور الانساني، فضّلت المنافسة بين الجماعات تكوين جماعات أكبر، لكن تكوين مثل هذه الجماعات كان امراً صعبا. عندما تصبح الجماعة اكبر فانها باستمرار تميل للصراع الداخلي. لذلك، كان الاحساس بالأخلاق مفضلا من جانب الاختيار الطبيعي لأنه يقلّل المنافسة ويعزز التعاون بين الجماعات الاجتماعية المتنافسة. لاحقا طوّر المتخصص بالثدييات روبن دونبر (1996) نظرية مشابهة للتأثير الذي أحدثته اللغة كطريقة لتعزيز التعاون وتخفيف الصراع بين الجماعات الاجتماعية في سياق من المنافسة الداخلية الشديدة بين تلك الجماعات. اللغة والاخلاق كانا مترابطان بإحكام.
المتخصص في الثدييات فرانس دي ويل (1996) عالج السؤال ما اذا كان اقربائنا من الشامبانزي لديهم أخلاق معينة. استنتاجه المبني على ملاحظات مكثفة للشمبانزي كان ان الشمبانزي امتلك العديد من عناصر الأخلاق الانسانية. قرود الشمبانزي لديها إحساس بالإعتماد المتبادل، وهي الفكرة بان الأعمال الصالحة يجب ان تكون متبادلة وكذلك بالنسبة للأفعال السيئة. كان لدى جماعات الشمبانزي احساس بالتعاطف مع الأعضاء الآخرين ضمن نفس الجماعة، هناك إحساس بأن هناك قواعد اجتماعية يجب ان تُطاع من جانب أعضاء الجماعة، وان الشمبانزي الأقدم والمسيطر عادة يتصرف بطرق معينة مثل حل النزاعات القائمة من أجل المحافظة على السلم ضمن الجماعة.
اخيراً، يستنتج فرانس ان اللغة هي العنصر الحاسم في الاخلاق الانسانية والتي كانت الحيوانات تفتقر لها. بدون لغة لا تستطيع الحيوانات تعليم وتشجيع ومناقشة المبادئ الاخلاقية وفق الطريقة التي يقوم بها الانسان. اللغة، بالطبع، تساعد في انجاز عدة وظائف بين الناس، لكن الوظيفة الأكثر أهمية هي المقدرة على صياغة ومناقشة المبادئ الاخلاقية.
بما ان وظيفة الأخلاق هي منع الصراع وتعزيز التعاون بين الناس، يتبع ذلك ان الدارونية الاجتماعية ليس لها معنى. يتبع ايضا، ان ما يفضّله الإختيار الطبيعي، من منافسة قاسية بين الافراد، لايمكن ان يكون مرشدا للمبادئ الاخلاقية التي تحفظ السلم وتشجع السلوك التعاوني ضمن الجماعة الاجتماعية الانسانية. الهدف من الدارونية الاجتماعية كان تعزيز المنافسة سواء بين الطبقات الاجتماعية او بين الامم. بهذا المعنى انها كانت المضاد للأخلاق.
هناك جانب سلبي للأخلاق كما وُصف في هذا العرض النظري. انه يقترح بان الأخلاق عادة محدودة بأعضاء من نفس الجماعة الاجتماعية. هذا يتفق مع الاستنتاج الانثربولوجي، بانه في المجتمعات التقليدية يكون المجال الاخلاقي مقتصرا على أعضاء الجماعة فقط ولا يمتد الى ما وراء هذه الجماعة. هذه النزعة سُميت بالقبلية. معظم الفكر الأخلاقي منذ عصر التنوير جادل باننا يجب ان نذهب الى ما وراء القبلية، وان الكثير من الفكر المعاصر يؤكد على إزالة القبلية والإعتراف بمبادئ حقوق الانسان العالمية لأن الكائن البشري هو كائن ذكي ومرن في سلوكه، هناك سبب جيد للإعتقاد اننا كنوع يمكننا التحرك الى ما وراء القبلية ونضع كل البشر ضمن المجال الأخلاقي. الكثير من التقدم تحقق في إزالة القبلية لكن الكثير لازال بحاجة للعمل.