وسائل الإعلام ومهنة صناعة المصطلحات المضللة

محمد علي جواد تقي

2015-05-28 11:11

اذا كان من مهام وسائل الاعلام، إيصال المعلومة والفكرة الى الجمهور، فان هذا يحتاج الى أدوات ذكية تختصر المسافات وتؤدي المهمة بأسرع وقت وبنجاح، لاسيما وأن الاعلام بالأساس، يُعد قطاعاً غير ربحي مئة بالمئة، عندما تحول خلال العقود الماضية الى مشروع سياسي بامتياز، يبحث عن افضل الطرق للتأثير وصنع الرأي العام ثم تحقيق الهدف في تحقيق مكاسب سياسية وربما اقتصادية ايضاً.

لذا كانت "المصطلحات" أحد أهم أدوات وسائل الاعلام لتسويق افكارها ونقل معلوماتها بالطريقة المرضية لمصالحها. وهذا يصدق بالدرجة الاولى على المسموع في سالف الأيام، ثم على المرئي هذه الايام، لان وسم حدث معين، بأبطاله أو ظروفه الزمكانية، وكذلك وسم أي قضية ما، بمصطلح معين، فانه يمثل العنوان العريض الذي سيحمله دائماً ويتذكره المتلقي في المرات القادمة، او بالاحرى؛ فانه يمثل هوية المعروض في وسائل الاعلام، وغالباً ما نلاحظ اصطدام هذه العناوين (المصطلحات) مع أصحاب الحدث او القضية المستهدفة من قبل الوسيلة الاعلامية، وفي الأغلب تكسب الجولة هذه المحطة الاذاعية او تلك القناة التلفزيونية، مستفيدين من مبدأ حرية التعبير المكفولة عالمياً. وتكون المساعي مركزة في معظم الاوقات على الجانبين: السياسي والاجتماعي.

مصطلحات، عناوين لحروب

في عقد الثمانينات، كان جهاز "الراديو" يمثل الوسيلة الوحيدة والسريعة آنذاك لإيصال المعلومة، في مقدمتها الاخبار أول بأول عن آخر الاحداث السياسية والامنية والاقتصادية، علماً أن تلك السنوات كانت، ربما أكثر عقود القرن العشرين، صخباً بالحروب الاهلية والحروب بين الدول في عديد بلدان العالم، ولاسيما في منطقة الشرق الاوسط، ومثالنا الأبرز؛ الحرب العراقية – الايرانية، فقد كانت المحطات الاذاعية الكبرى الناطقة بالعربية آنذاك، التي كانت تمثل مصدر الخبر الأول للمستمعين العرب، تطلق على هذه الحرب بـ "حرب الخليج"، في حين إن على خطوط القتال كان الذي يقاتل ويقتل، الجندي العراقي والآخر الايراني، فيما الدول الخليجية لم تكن في خضم المعركة، ولم يشارك مواطن خليجي واحد في المعارك. بيد ان تقادم الأيام وتأثير هذا المصطلح على نفوس المواطن الخليجي الذي يعيش في بلاده الآمنة، جعلته يعيش ظروف الحرب بشكل غير مباشر، فهي "حرب خليجية"، وهو معني بها، شاء أم أبى، ثم لتذكيره بأن الموقف الرسمي للعواصم الخليجية كان على الأغلب الى جانب نظام صدام، ولا ننسى دور الاعلام الخليجي آنذاك، والمجند كليةً للمشاركة في حملة الدعم والمساندة، بمعنى أن "حرب الخليج" كان المصطلح، والعنوان الاول لحديث الشارع الخليجي، والهدف كان واضحاً؛ إشراك هذه المواطن بشكل غير مباشر الى جانب الجندي العراقي لمحاربة ايران.

وأما عن الوقت الحاضر، فان تقدم وسائل الاعلام والتطور التقني الهائل في نقل المعلومة، والذي واكب سرعة الاحداث والتطورات السياسية، فان "المصطلح" بات أكثر تأثيراً في صنع الرأي العام. لعل في مقدمتها مصطلح "الحرب الطائفية" التي تكون عنواناً لأي خبر او عن عملية ارهابية تقوم بها الجماعات التكفيرية، علماً إن جوهر الحدث أو جواب السؤال "ماذا"، هو دائماً: "جماعات ارهابية تكفيرية تقتل الشيعة في العراق"، بمعنى أن الجاني دائماً – او لنقل على الاغلب- هم التكفيريون، فيما الضحية هم الشيعة. وما أراده الاعلام الغربي وتبعاً له، العربي، هو تعميم الاعمال الاجرامية والدموية التي يرتكبها التكفيريون على جميع اللاعبين في الساحة، وهذا ما لم يحدث بالشكل الذي ارادته الجهات الممولة والمخططة لهذا الاعلام، فلم يحصل أن ارتكب الشيعة مجازر وإبادة بشرية كالذي فعلته مثلاً عناصر "داعش". علماً إن الجهد الجهيد الذي بذلته القنوات الفضائية، بكتابها ومراسليها ومحرريها ومصوريها، انطلق من حادثة الاعتداء الارهابي على مرقد الامامين العسكريين في شباط عام 2006، ليساعد ذلك على تكريس مصطلح "أعمال عنف طائفية" وايجاد مصداقية له على الارض ، بتسليط الضوء على بعض الاعمال الانتقامية هنا وهناك.

وفي الوقت الذي تزدحم الاحداث، بمختلف اشكالها، وتتقاطع مع المصالح السياسية والاقتصادية، فإنها تولد بالقدر نفسه، بل وأكثر، مصطلحات ومفردات خاصة لعنونة هذه الاحداث، فهناك مصطلح "الشهيد" في مقابل "القتيل"، كما هنالك مصطلح "داعش"، في مقابل "تنظيم الدولة الاسلامية". وقد بلغ المشاهد والمتابع درجة من الحصافة أن يجد خلف هذه المصطلحات الاهداف السياسية الواضحة لأصحاب هذه القناة الفضائية وتلك.

تطبيع الانحراف الاجتماعي

على الصعيد السياسي ايضا، فان الجانب الاجتماعي يمثل ساحة واسعة يمارس الاعلام دوره الكبير فيها والمؤثر في صياغة رأي عام، والتوجيه والتثقيف، من خلال صناعة مصطلحات خاصة تعنون حالات وقضايا اجتماعية ذات حساسية خاصة، يقف "الجنس" في مقدمتها. فمع ملاحظة سوء التعامل الفظيع مع هذه الغريزة الطبيعية لدى الانسان في معظم دول العالم، ولاسيما في العالم الغربي، ونشوء ظواهر سلبية كإفراز من هذه الازمة المختلقة، عمدت وسائل الاعلام هذه المرة الى ابتكار المصطلحات الخاصة التي تخفف من وطأة هذه الافرازات، وسهولة التعامل معها في المواد الخبرية والتغطيات الاعلامية، بما لاتخسر معه هذه القناة او تلك، شريحة واسعة من جمهورها المحافظ على التقاليد والذوق العام.

ومما ابتكره وابتدعه لنا الاعلام العربي، و"واجهته الفضائية"، للتخفيف من حدّة السلبية والخطورة في ظواهر جنسية غير سوية غزت البلاد الاسلامية، مصطلح "المثليّة" ليكون بديلاً عن الشذوذ الجنسي، وواضح من المصطلح، حرصه على الجانب الجمالي في اللغة، وإخفاء الجانب السلبي (الشذوذ) وما يثير الحفيظة (الجنس)، وكذا الحال في مصطلح "التحرّش الجنسي" مقابل الاغتصاب، وهو الآخر، تخفيف بحرص شديد لعمل شائن وعدواني. وربما يقول البعض إن الميل الجنسي غير الطبيعي للذكر نحو الأنثى، ربما يكون بحالات مختلفة، لا تصل دائماً الى الممارسة الجنسية، والمصطلح، يفيد لحالات عديدة بدافع مشترك، كأن يكون ملامسة بدنية – مثلاً- بيد أن هذا المصطلح، لا يعد اليوم عنواناً لخبر، إنما هو سمة لمفهوم يتعلق بالجنس، ومن أجله تكتب البحوث والدراسات الاجتماعية المتخصصة، وتقام الندوات التلفزيونية، ويتحدث ويكتب المثقفون عن شيء اسمه "التحرّش الجنسي".

المحصلة؛ أن أي رد فعل إزاء هذه الظواهر الاجتماعية، لن يرقى بأي حال من الاحوال الى مستوى التغيير مهما كانت العواقب والافرازات. فالمثليين – مثلاً- أناس يعيشون مع أمثالهم، سواء على صعيد الذكور أو الإناث، ولا مبرر لإطلاق "الشذوذ" على هذا سلوك يرتضيه الانسان بنفسه! هذا المفهوم هو الذي مهّد الطريق لبعض القنوات الفضائية العربية، لأن تصل الى اشخاص يمارسون هذا العمل في البلاد العربية، ثم ليحصل هؤلاء على صوت عالٍ في مناهج هذه القنوات، على "أن لهؤلاء الحق في العيش بعيداً عن القمع والتنكيل..."!

والسؤال المطروح امامنا سلفاً؛ ما الذي يجعل هكذا مصطلحات سريعة التداول والتأثير في الشارع العربي والاسلامي؟. بما أن الساحة الاعلامية مفتوحة على الابداعات والمنافسات والمفاجآت، لن يكون هنالك معنى لمنطقة فراغ في اوساط الجمهور المتلقي، وإلا ما الذي يدفع الممولين بمليارات الدولارات لإثقال الاقمار الصناعية بمئات وربما آلاف القنوات الفضائية، التي لم تترك شأناً في الحياة إلا وسلطت الضوء عليه؟ مما يتعين بالمقابل، الوقوف بشجاعة عند حالات وظاهر اجتماعية، ربما تكون افراز لازمات معينة او حالات خاصة، سواء ما يتعلق منها بالجنس او المال او أي شيء آخر يتعلق بالسياسة او الدين او الاقتصاد وغيرها، وتحديد المصطلح المناسب لتداوله، في خطوة اولى لتسليط الضوء عليه ثم معالجته بشكل جذري ونهائي.

لنأخذ مثالاً في القضية الطائفية، فقد كان دراجاً في الادبيات الشيعية، مصطلح "الأخوة السنة"، وهو اليوم في غياب تام عن وسائل الاعلام بشكل عام. وقد اشار اليه ذات مرة الشيخ المستبصر "التيجاني السماوي" من على المنبر في العراق، عادّاً ذلك نقطة قوة كبيرة من لدن الشيعة، فيما يفتقد السنّة هكذا مصطلح او سمة تحدد العلاقة بين المذاهب الاسلامية. بما يعني ويؤكد حاجتنا الى صناعة مصطلحات تسمّي الاشياء بمسمياتها الحقيقية، بعيداً عن التضليل والتدليس، بما يسد الطريق على كل الساعين للتصيّد في الماء العكر.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي