جدلية الانفتاح والانغلاق بين إفراط متشدد أو تفريط منفلت
مرتضى معاش
2017-05-03 06:40
الإسلام وجوهرية الانفتاح
إذا كان الانفتاح الإنساني ضرورة معرفية وحتمية اجتماعية، فان الانفتاح الذي يهدف الى التواصل من أجل العطاء المعرفي والأخلاقي هو جوهر حركة الإسلام في هداية الناس الى القيم الإلهية والأخلاقية، من أجل بناء الحياة في اتجاه مستقيم بعيداً عن الانحراف والسقوط. فالإسلام دين قام أساسا على التوسع المعرفي تجاه الآخرين، عبر مفاهيم الاهتداء والحوار والاحتجاج؛ لذلك فإن أغلب آيات القرآن هي صور حوارية بين مجتمعات تختلف في اتجاهاتها وتلتقي في حاجاتها للوصول إلى الحقيقة، فمن جهة نجد أن هناك دعوة قرآنية للانفتاح في الأرض عبر الحركة الجغرافية المتمثلة بالهجرة، وعبر الحركة التاريخية والمعرفية التي تمثلت بالدعوة نحو السير ودراسة الأمم واكتساب العبر والتأمل في آيات الله، حيث يقول تعال: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (الحج46).
الانفتاح كظاهرة سلبية
إذا كان الانفتاح حقيقة اجتماعية محتومة تفرضها الحركة التغييرية المنبعثة من جوهر الحياة الإنسانية، فان ذلك لا يعني أن الانفتاح يمثل حالة مطلقة في ايجابيتها؛ إذ هي كمفهوم مجرد تمثل حالة محمودة في قيام المجتمع البشري، ولكن عندما تدخل ميدان العمل التطبيقي، فإنها قد تتدثر ببعض الصور السلبية التي تعكسها الممارسة السيئة، فتنتج ظواهر سلبية بحيث لا تتحقق الغاية الأساسية من عملية الانفتاح؛ خصوصاً عندما يستخدم البعض الانفتاح كوسيلة للانسلاخ من الأصول والثوابت التي قامت عليها حضارتنا، إذ إن الارتداد العنيف الذي حصل بسبب الاحباطات والهزائم جعل البعض يحمّل التراث الأصيل جميع تبعات التخلف والانتكاسة، وهذه الهزيمة الحضارية في معترك الفكر والحضارة هي أسوأ الهزائم، لأنها هزيمة نفسية وحضارية تجعل الفرد أو الجماعة تنسلخ من واقعها لتذوب في حضارة الأمم الغالبة.
وتشكل الانتكاسات عنصراً أساسياً في الانفتاح المنفلت الذي لا يقوم على شروط موضوعية؛ فيفقد الانفتاح خصائصه الجوهرية البناءة وغايته الإنسانية، ليتحول إلى عبء يثقل كاهل المجتمع باختراقات وانشقاقات؛ إذ إن الانفتاح في صور الانفلات، وفي حضور الهزيمة، يتحول إلى حالة تبعية عمياء لاشعورية، تقود للقبول المطلق بكل تراث القوى الغالبة، دون وجود حالة تمحيص أو نقد أو وعي، لذلك فإن التبعية لا تتفق مع الانفتاح لأنها لا تحقق التفاعل المتبادل.
يمكن اكتشاف الانفلات التبعي من خلال ذلك الانفتاح الاستهلاكي الذي تحول إلى حالة محمومة يعيشها العالم بشكل عام وبلادنا بشكل خاص، إذ لم يكن الانفتاح الاستهلاكي سوى انفتاح سلبي يكرس التبعية، ويستورد القيم الإباحية والمنفلتة، ويربي الفرد والمجتمع على الحالة النهمية في عادات السلوك والطعام والشراب، عبر دعايات إعلانية مكثفة تغسل أفكار الناس لتسويق سلعها بأية صورة كانت؛ فالانفتاح الاستهلاكي بالإضافة إلى تكريسه لقيم الاستهلاك الأعمى، يكرس قيماً أخلاقية ترتكز على الكسل والرخاء والترف وعدم الفاعلية؛ وهذا كله ينفي الغاية من الانفتاح البنّاء، لأن الهدف الأساسي منه هو تحقيق التواصل من أجل الإثارة المعرفية، والتنافس الحركي، والاستفادة الإيجابية من عناصر التقدم التاريخي، وكل هذا لا يتحقق في الانفتاح الاستهلاكي، إن هذا النوع من الانفتاح يقود إلى الانحطاط والتفسخ.
الانغلاق والانكفاء عن العالم
ما الذي يجعل بعض الأفراد أو المجتمعات أو الحكومات تحارب الانفتاح وتغلق الأبواب على نفسها في حصون منيعة، وتقطع كل أنواع التواصل البشري والاجتماعي مع العالم..؟
إنها لحظة خوف اعتصرتها الهزيمة فتحولت إلى هاجس وسْواسي، ونوبات شعور شديد بالضعف والمرض، وعجز متراكم عن فهم العالم والتكيف مع تطوراته المتتالية، لينتج كل ذلك صدمة نفسية ارتدت بشكل عنيف إلى انغلاق متشدد يرفض الانفتاح في حياة تأبى على الإنسان أن يعيش دون أخيه الإنسان.
إن الحضارات والمجتمعات التي تنمو في ظرف الانغلاق، تصبح ضعيفة غير قادرة على دخول معتركات الحياة، وغير مؤهلة لحياة بشرية اعتيادية، لذلك يشتد انغلاقها، وعندما تستنفذ انغلاقها، وتتغير أجيالها، وتفقد عناصر وجودها، تنفلت بقوة لترتمي في أحضان الآخرين، تابعة ذليلة ومقلدة عمياء، ومخمورة بقيم الغالبين، مولهة بانتصاراتها عاشقة منبهرة بأمجادها، وهذا قدر المنغلقين، إما إفراط متشدد أو تفريط منفلت؛ وخير مثال على ذلك الدولة العثمانية التي عاشت قرونا طويلة من الانغلاق الفكري والتشدد الديني المتزمت، تحولت فيها البلاد إلى مرتع للجهل والاستبداد والظلم والفساد - لتقع بعد أن سقطت أسوارها الوهمية - في أحضان الحضارة الغربية، لتصبح مجرد ربيب يتغذى بقيمها ويعيش على تبعيتها.
إن الهروب من الحاضر، والعيش الإرادي في جيتو منغلق، يؤدي إلى انحسار الثقافة وتحوصلها وتحجرها أو ربما تموت، وقد كان هذا التقوقع في العصور السابقة ممكناً، ولكن في عصر المعلومات تعجز الحصون عن صد هذه الهجمات، وبعد انهيار الحصون ينفرط العقد وتسقط القيم وتتحول العزلة إلى عزلة نفسية هي أقرب منها إلى المرض أو الموت(1).
فالانغلاق يجعل الفرد أو المجتمع ضعيفاً وغير محصن أمام الهجمات الغازية، بينما الانفتاح المتوازن يعطي الفرد الحصانة الكافية، ويحفظ توازنه أمام معطيات التبادل المعرفي والتعايش المشترك.
وفي معظم الأحيان فإن الانغلاق هو وليد مجموعة من العوامل، أهمها وأساسها هو الجهل، وهذا يعني أن المنغلق يعتمد على مجموعة قواعد فكرية هشة لا يستطيع أن يواجه بها الآخرين، فنرى أن مشركي قريش يرفضون الحوار مع الرسول الكريم (ص)، لأنهم لا يمتلكون القوة لذلك؛ فيتهمونه بأنه ساحر أو مجنون، فالمجتمعات التي ركبها الوهن والعجز الثقافي تحارب الآخر لأنه يشعرها دائما بالضعف، فتخاف أن تتواصل معه خشية أن يغزو أفكارها ويحصد أفرادها، فتسور كيانها ضد كل أنواع الاتصال حتى لا تتعرض للاختراق الفكري والثقافي، وتحول دون اندساس أفكار ورؤى تعتبرها مضرة(2).
إن الآثار التاريخية للانغلاق تبدو تأثيراتها بشكل واضح على ذلك الضعف العلمي والحضاري وتوقف الإبداع الفكري، إذ تحولت المدارس الفكرية إلى مجرد عناصر مقلدة تجتر إرث الماضي بعد أن فقدت احتكاكها الإيجابي مع الحضارات الأخرى، فالانغلاق يقود نحو التحجر والجمود وعدم الإنتاج، ومن ثم يصبح الفرد عبئاً ثقيلاً على المجتمع عندما يفقد المجتمع بذلك عناصره الإنتاجية المتدفقة؛ فالعزلة ستقود حتماً إلى فناء الفرد واضمحلال المجتمع، واكثر المنعزلين قد واجهوا هذا المصير، لان روح الإبداع والخلق والإنتاج قد ماتت فيهم؛ ففي رفض الآخر رفضا مطلقا دعوة إلى مخاصمة كل الثقافات المعاصرة، والاستهانة بها، والاستدبار عن التعرف العلمي والموضوعي على الحضارات الحية(3).
ويغلف معظم المجتمعات أو الجماعات المنغلقة سوء ظن أو ضعف تقدير تجاه الآخرين، لذلك لا يستطيع المجتمع المنغلق أن يفهم الآخر فهماً سليماً، وهذا يقوده باستمرار إلى خلق صراعات وصدامات تؤثر سلبا عليه وعلى الآخرين، كما قد تجعله عاجزا عن إدراك حركة الحياة، وغير واع لعناصره، لذلك يسيء فهمها ولا يصل إلى إدراك الحقائق والوقائع في معظم الأحوال. وفي أي حال عندما يخرج الفرد من دائرة انغلاقه الطويلة ويشعر بأنه أساء التقدير للكثير من الأفراد ولم يفهم بشكل سليم الكثير من الحقائق، يصاب بصدمة نفسية فيفقد توازنه الادراكي الذي يجعله غير مصيب عندما يسيء الظن بكل ما كان يعيش في إطاره، ويحسن الظن والتقدير بشكل مطلق بكل ما كان يعاديه.