رسالة الشرعية السياسية من داخل سجون بغداد
محمد علي جواد تقي
2016-05-01 08:26
موسم الحج لعام 179 للهجرة، كان غطاءً شرعياً مناسباً لحفل تنصيب ولي عهد جديد في الدولة العباسية، فأمر هارون "الرشيد" العلماء والأمراء وقادة الجند وفئات مختلفة من المجتمع، لحضور مراسيم البيعة لابنه "الامين"؛ ولكنه توجه فجأة صوب المدينة المنورة، حيث كان له شأن آخر أكثر اهمية من تلك المراسيم. انه اللقاء بالامام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام؛ ولكن لأي شيء...؟!، هل ثمة اتفاق سرّي يريد إخفائه عن الناس؟.
نعم؛ كان يخفي عن الناس شراً يتأبطه، فقد توجه الى مرقد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو يظهر الودّ والمحبة اليه، ثم يعطي نفسه الحق والمشروعية لأن يوجه الإدانة الى أحد أبنائه بتهمة مزيفة (إثارة الفتنة)، وقد تغافل عن آية المودّة في القرآن الكريم.
وبينما الامام الكاظم، عليه السلام، قائماً يصلّي عند مرقد جدّه رسول الله ، صلى الله عليه وآله، وإذا بالجلاوزة يهجمون عليه ويسحبونه بكل قسوة وغلظة، منتهكين حرمة الدين بعد حرمة الانسانية، واخرجوه من المسجد الى حيث هارون الذي ما أن وقع بصره عليه، حتى بدأ بالسباب والشتم، ثم أمر بتقييد الإمام بالحبال والاغلال، والأمر الآخر كان ذو طابع مخابراتي، فأمر بتجهيز راحلتين، أحدهما تتجه نحو البصرة، والأخرى نحو بغداد، لتضليل الناس عن الوجهة الحقيقية.
الأمانة على القيم والمبادئ
في ظنّ معظم الحكام – إن لم نقل جميعهم- على طول الخط، أنهم يميلون الى قيم ايجابية محببة الى النفوس، مثل الامانة والصدق والعدل، فلا يرتضون لأنفسهم او عليهم الخيانة والكذب وغيرها، بيد أن هذا الميل لا يصمد أمام مغريات السلطة والمال، وهذا كان ديدن الحكام العباسيين، ومن قبلهم الأمويين، وايضاً ما جاء بعهدهم، وما تزال المسيرة متواصلة.
لذا نلاحظ الامام الكاظم، عليه السلام، يحدد المعايير لهذه القيم، وكيف تكون؟ فالمهم التطبيق العملي والممارسة. فقد ورد في "الكافي" عن أحد المقربين للإمام، كان يراسله باستمرار وهو في سجن بغداد، ويجيبه الامام على جملة من الاسئلة والاستفتاءات حول عديد القضايا، ومنها ما قاله، عليه السلام: "...ولاتلتمس دين من ليس من شيعتك، ولاتحبّن دينهم فانهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أماناتهم، وتدري ما خانوا أماناتهم، ائتمنوا على كتاب الله فرّحفوه وبدلوه".
فالمعيار الفاصل هنا؛ "كتاب الله" في منطق الإمام، عليه السلام، بينما يمكن ان يكون في منطق آخرين؛ الحزب أو الايدولوجيا او مفاهيم اخرى مثل الوطن والتراب، فهذه وغيرها يمكن ان تباع وتشترى ويجري عليها التعديل، بينما ليس الامر كذلك في كتاب منزل من السماء مثل "القرآن الكريم".
ورب سائل عن كيف يكون الكتاب المجيد معياراً للقيم ينجّي الامة والعالم مما هي عليه من التخبّط الفكري ثم السياسي؟
المفاهيم الآنفة الذكر من السهل تبنيها ورفعها من قبل الجميع، فهي مشاعة لطلاب السلطة والحكم، بغض النظر عن توجهاتهم ومتبنياتهم، فالطغاة ومن مارس الديكتاتورية الفردية والحزبية، ينادي بحب الوطن والتضحية من أجله، ونفس الشيء يفعله، من يمارس الديمقراطية ويدّعي المشاركة السياسية والانفتاح والبناء. وهذا ما يلتبس على الاذهان فتخرج المواقف خاطئة بشكل قاتل، فالذي يخون الوطن في كلا النظامين، يتعرض للموت، حتى وإن كان هذا الوطن عبارة عن شخص او حزب او فئة سياسية حاكمة.
وعندما نطابق بين هذا الوطن – مثلاً- وبين الحقائق والسنن التي جاء بها القرآن الكريم، ونعرف مدى مطابقتها، عندئذ يكون مؤشر الانحراف واضحاً امام الجميع، او ما يعبّر عنه الامام الكاظم، عليه السلام، بالتحريف والتبديل، فمن المعروف أن الكتاب المجيد، "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
التقوى والنجاة
"علي بن يقطين"، هذا الرجل العظيم الذي لم ينصفه الباحثون الاسلاميون في كتاباتهم عن التاريخ والسيرة وتسليط الضوء على حياته البطولية وما قدمه من منجزات كبيرة للأمة وللرسالة في آن واحد، وهو في الى جانب الحاكم الظالم؛ طلب عدة مرات من الامام الكاظم، عليه السلام، أن يعفيه من مهمته كأحد وزراء "الرشيد" وكان الجواب يأتيه: "لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق الله".
فما معنى الكلمة الاخيرة من جواب الإمام، عليه السلام؟، هل ينصح ذلك الصحابي الجليل والمؤمن؟، ولو لم يكن من التقاة، هل كان يصمد أمام المغريات والملذات ويبقى على ولائه الخفي للإمام، عليه السلام؟.
إنها التقوى التي تنجي صاحبها من مهلاك محققة، وهي حقيقة يؤكدها القرآن الكريم في سورة الطلاق: {...ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً}، فالتقوى والورع ليس لأحد ولصالح أحد، إنما هي لله خالصة، عندها تكون ذات جدوى، وإلا فان الكثير من دعاة هكذا مفاهيم، بل ويسعون لممارستها أمام الملأ، ولكن ما يخفوه مغاير تماماً، لذا نراهم في لحظات حرجة تقفز مكنوناتهم على فلتات لسانهم او مواقفهم فتسقط الاقنعة، ويكونوا وجهاً لوجه مع الناس ومن آمن بهم واقتنع بشخصياتهم، سواءً على الصعيد الاجتماعي او السياسي؛ فبدلاً من أن تكون لهم جسراً للعبور نحو المصالح والمكاسب، تكون المنزلق نحو الهاوية.
ولعل الكثير اليوم، يتحدثون عن صعوبة الدمج بين "التقوى" وبين "السياسة"، ويدّعون أن من يلتزم التقوى والورع، عليه مغادرة مكتب النائب او الوزير او المسؤولية في الدولة، وهذا تقييم متسرّع وغير دقيق، لأن "من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس"، هذه المعادلة التي سنّها الامام علي، عليه السلام، تؤكد أن القضية تتعلق بالعلاقات بين افراد المجتمع، كما هي تتصل بالعلاقة مع السماء، وهذا ما عجز عن فهمه الحكّام الذين تصوروا أن قربهم الى الناس، لوحده يكفي لأن يضمنوا لهم الاستمرار في السلطة، فنثروا الاموال ووزعوا الامتيازات والمناصب، أما النتيجة، فكانت نهايتهم عندما انتهت الاموال، او جاء من هو أقوى وأقدر.
وهذا يجعلنا نسلط الضوء بقوة على علي بن يقطين، كونه النقطة البيضاء الوحيدة وسط ظلام واسع في هيكلية الدولة العباسية المعروفة طيلة فترة وجودها، بالخيانات الداخلية والتصفيات الجسدية للمعارضين والمجون وهدر ثروات الأمة.
وربما تكون هذه الشخصية الفذّة، جديرة بدراسة خاصة، حول تجربة الممارسة السياسية الصحيحة في محيط الانحراف والطغيان، وما اذا كانت ثمة امكانية لتوسيع مساحة هذه الممارسة الصحيحة لتغليب قيم الحق والفضيلة.