مولد علي (ع)، مولد الإسلام

محمد طاهر الصفار

2016-04-16 10:24

هل يستطيع فكرٌ ضئيلٌ أن يحلّق في سماء العظمة؟، وهل يستطيع الجدول الصغير أن يرفد البحر؟، أم هل يستطيع خيالٌ عاجز أن يطوف بهذا العالم الإنسي، الملائكي اللامتناهي بالفضائل والمكرمات؟، هذا الشعور كان يراودني حينما عزمت أن أوجه وجهي وعقلي وقلبي نحو شخصية لم يعرف التاريخ البشري أعظم وأكرم وأكمل وأفضل وأتقى وأنقى منها سوى مربيها ومعلمها سيد الثقلين النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، إنه الإمام الذي تفخر باسمه الأئمة، والإنسان الذي تخشع لذكره الإنسانية.

إنه علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام)، إنه الإنسان الذي لم يزل ولا يزال منذ أربعة عشر قرناً ملتقى النفوس ومهوى الأفئدة، فهو كالبحر من أين تأتيه ترد ولا يزداد مع تعاقب الأزمان والأجيال إلا جلالاً وجمالاً، وقد عكفت على ساحله الأزمان والأجيال مبهورة بهذا الجمال والجلال، ويقيّض للمبحر في أثباجه أن يلتقط الدر من فضائله ومعجزاته، ولكنه كلما غاص في هذا الكمال تضاءل فكره أمام آيات هذه العظمة.

إنه علي بن أبي طالب الذي خشع له إجلالاً عظماء التاريخ الذين حكم التاريخ بعظمتهم، أما هو فقد أدار دفة التاريخ، فانحنى لعظمته العظماء وخشع لجلاله الأجلاء، يقول ابن أبي الحديد: (وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عبادتها حاملاً سيفه مشمّراً لحربه، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها، كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة وكان على سيف آلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفألون به بالنصر والظفر، وما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به وود كل واحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها أن لا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه ووضعوا في ذلك كتباً وجعلوا لذلك إسناداً أنهوه إليه وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي).

إنه علي بن أبي طالب الذي ولد في داخل الكعبة فكان لولادته إيذاناً بعهد جديد لها من المنزلة والعبادة، ونقطة تحول مضيئة في تاريخها، أما إسلامه وتصنيفه مع غيره بتسلسل فهذا كلام لا نحتاج إليه ، فلسنا بحاجة إلى الروايات في ذلك وإن أكدت كلها على أنه أول من أسلم سوى الروايات الشاذة الموبوء مصدرها، والتي أشاح أصحابها بوجوههم عن الحقيقة الناصعة لينفضوا عن وجوه من صنّفوهم في مقدمة المسلمين ذل عبادة الأصنام، أما علي فمن الإجحاف بحقه أن يُصنّف مع أي واحد من هؤلاء ـ حتى وإن كان أولهم ـ وهل كان علي كافراً حتى يسلم ؟ ـ حاشا لله ـ أم هل سجد لصنم في حياته حتى يدونوا تاريخ سجوده لله ؟ لقد ولد علي مسلماً، وكرّم الله وجهه عن السجود لغيره، وأشرق وجهه منذ ولادته على نور النبوة، واحتضنته كف الرسالة، ورُبّي في بيت الوحي والتنزيل، وتنقّل في الأصلاب الساجدة والأرحام المطهرة، فكان إسلاماً مجسّداَ، وقرآناَ ناطقاَ، ووريثاَ للنبوة، وأباً للإمامة، فهل تبحثون بعد هذه الحقيقة الناصعة الجلية عن روايات تعصف بها الأهواء والنزعات وتتقاذفها الشحناء والبغضاء ؟ قولوا لهم صنّفوا ما تشاؤون فكل من صنّفتم في أول من أسلم قد ذُلت وجوههم لأصنام حطّمها عليٌ وأذلها وأذل من يعبدها، صنّفوا ما تشاؤون إلّا علي، لأن إسلامه كان مع الإسلام ومع محمد.

يقول ميخائيل نعيمة : (إن التاريخ لم يعرف رجلين ترافقا في طريق النور والخير مثل ترافق النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والامام علي بن ابي طالب (عليه السلام). ويقول الفيلسوف الكبير جبران خليل جبران : (في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها، على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية).

علي هو الذي يقول: (صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن يصلي الناس بتسع سنين) وكانت أول صلاة جماعة في تاريخ الإسلام تضمّ محمداً وعلياً وخديجة خلفهما ثم انضم إليهم رابعاً جعفر بن أبي طالب عندما رآهما أبو طالب ومعه جعفر فقال لجعفر: (صل جناح ابن عمك)، لقد كان علي هو الإسلام والإسلام هو علي بكل مبادئه ومفاهيمه وأحكامه وشرائعه، ولولاه لما عرف الناس إسلاما، ولسنا مغالين في ذلك فهذا القول ليس رأياً شخصياً أفرزته العاطفة، إنما أكدته كل الحقائق التاريخية، ولربما اشرأب بعنقه أحد المحرفين للحقائق والمنحرفين عنها ليقفز من ترهاته هذا السؤال: ألا يستطيع الله أن يمكّن الإسلام في الأرض بدون علي ؟ نقول له نعم إن الله يستطيع أن يهدي الناس جميعاً إلى عبادته بدون أن يبعث محمداً، إذن لماذا نعترف بحقيقة أن محمداً أكرمه الله وفضّله واصطفاه على جميع خلقه ليرسله هادياً ومبشّراً إلى دين الإسلام، ولا نعترف بحقيقة أن علياً هو ناصره، والمؤازر له، والمحامي عنه، وحامل لوائه، وخليفته، ووارث علومه ؟ فمن شك في هذه شك في تلك، ومن آمن بإحداهما آمن بنصف الحقيقة وعليه أن يتأمّل ويعي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوا) وهل أحق من علي أحد ؟

علي الذي انتصر الإسلام بسيفه في بدر بقتله أبطال مشركي قريش، وقد عُدّ قتلى المشركين بسبعين قتيلاً قتل علي وحده نصفهم، ومن بينهم ساداتهم وشجعانهم وحاملي ألويتهم: الوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاص بن سعيد بن العاص، وحرملة بن عمرو، وعبد الله بن المنذر، حتى دبّ الرعب في صفوف المشركين وانهزموا شر هزيمة على يد علي الذي لم يتجاوز عمره حينها العشرين سنة.

علي الذي لولاه لما قامت للإسلام قائمة ولما تجاوز ذكره يوم أحد، عندما برز طلحة بن أبي طلحة بطل بني عبد الدار وحامل لواء المشركين، وطلب البراز فلم يجبه أحد غير علي فقتله علي، ثم أخذ اللواء بعده تسعة من أبطال بني عبد الدار فقتلهم كلهم علي، وهم أبو سعيد بن طلحة، وعثمان بن أبي طلحة، ومسافع بن أبي طلحة، والحارث بن أبي طلحة، وأبو عزيز بن عثمان بن طلحة، وعبد الله بن أبي جميلة، وأرطأة بن شرحبيل، والحكم بن الأخنس، وأخيرا مولاهم صواب، وعندما سقطت الراية من يد الأخير أخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية، فلم يجرؤ بعدها أحد على حمل اللواء، وبعد هزيمة المسلمين نتيجة مخالفتهم أوامر النبي، وتفرق عنه الجميع ـ نعم جميع المسلمين ـ تفرقوا عن رسول الله وتركوه وحده مع الأعداء، ولم يبق معه من يذود عنه سوى فارس واحد، إنه فارس الإسلام علي بن أبي طالب الذي استطاع تحويل الهزيمة إلى نصر، فعند التفاف خالد بن الوليد على جيش المسلمين وقتل عدد كبير منهم قُدِّر بسبعين أو أكثر، ومنهم النبالة الذين أمرهم رسول الله أن لا يفارقوا أماكنهم فنزلوا من الجبل ظنّاً منهم أن المعركة قد انتهت، فقُتلوا وهرب باقي المسلمين وأسلموا رسول الله إلى أعدائه، فبعضهم صعد إلى الجبل وقالوا: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ؟ وكان من هذا الفريق عمر بن الخطاب الذي يقول: فرأيتني أصعد الجبل لا ألوي على شيء، والبعض الآخر ذهبوا إلى جبل بناحية المدينة ولم يرجعوا إلى الرسول.

في تلك الأوقات الحرجة على الإسلام والنبي، لم يبق مع رسول الله سوى عليٌ فقط ـ نعم عليٌ فقط ـ عليٌ الذي ملأت الجراح جسمه وهو غير آبه بها، يقول الدكتور طه حسين: (وجد عليٌ نفسه صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يُدهِن في أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى الله).

ولما آل مصير جيش المسلمين إلى هذا الحال، أراد أمية بن أبي حذيفة قتل رسول الله فلم ير إلّا سيف علي يفلق هامته، وكلما أقبلت جماعة من المشركين نحو رسول الله ليقتلوه يقول (صلى الله عليه وآله) لعلي: يا علي احمل عليهم، فيحمل علي عليهم فيفرقهم ويقتل بعضهم، فلّما رأى بعض المسلمين وهم على الجبل ذلك من علي عاد جماعة منهم ليقاتلوا مع علي، ويدافعوا عن رسول الله، وكانت شجاعة علي وثباته

وصلابته هي التي بثت فيهم هذه الروح، وحفزتهم على الدفاع عن رسول الله، فرجع عاصم بن ثابت، وأبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، ولحقهم طلحة بن عبيد الله التيمي.

وكانت هند بنت عتبة قبل المعركة قد أوعدت عبدها وحشي أن تطلقه إن هو قتل أحد الثلاثة محمد وعلي والحمزة، فقتل وحشي الحمزة في المعركة وعندما استفسرت منه عن قتله الحمزة دون محمد وعلي ؟ قال أما محمد فلا حيلة لي فيه لأن أصحابه يطيفون به، وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الذئب، وأما الحمزة فإني أطمع فيه لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه.

علي الذي مثّل الإيمان كله بأروع وأكمل صوره في غزوة الخندق وهو يتصدى للكفر كله المتمثل بعمرو بن عبد ود العامري، كما قال رسول الله (برز الإيمان كله إلى الكفر كله)، وكان لتلك الكلمة العظيمة من رسول الله وقعها وتأثيرها وحقيقتها المتجلية، فقد كان كلٌ من علي وعمرو يمثلان الجبهة التي ينتميان إليها ثمثيلاً كاملاً فإما وإما، لقد طلب عمرو البراز مراراً وتكراراً، لكن المسلمين كأن على رؤوسهم الطير، إلّا علي الذي قام وقال: أنا له يا رسول الله، فقال له رسول الله: إنه عمرو ؟ قال: وأنا علي بن أبي طالب ..، الله أكبر من يقولها غير علي الفدائي الأول في الإسلام، تخيّل في ذلك الموقف لو لم يكن علي موجوداً فما هو حال المسلمين ؟ لقد أرسى علي بضربته لعمرو بن عبد ود دعائم الإسلام ، وهد دعائم الشرك والكفر ، قال ابن عياش: (لقد ضرب عليٌ يوم الخندق ضربة ما كان في الإسلام أعز منها)

علي الذي فتح حصن خيبر وقتل بطل أبطال اليهود، وذلك بعد أن استعصى فتح الحصن على غيره، حيث أرسل النبي أبا بكر وعمر فرجعا خائبين يجبنون أصحابهم ويجبنهم أصحابهم، حتى غضب رسول الله وقال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار يفتح الله على يديه). فتطاول الناس لها وكل يُمنّي نفسه، ولكن هل كان فيهم من هو كفؤ لها غير علي ؟ ولو أعطاها رسول الله لكل واحد منهم لرجع خائباً، فأعطاها لعلي ..،

ومضى عليٌ إلى خيبر، فخرج إليه الحارث أخو مرحب وكان معروفاً بالشجاعة ولا يقف فارس في وجهه، فقتله علي، ثم خرج مرحب مع جماعة من فرسان اليهود فألحق عليٌ مرحباً بأخيه، فهرب اليهود إلى الحصن وأغلقوا الباب، فقلع علي باب الحصن وجعله جسراً للمسلمين فعبروا عليه.

علي الذي لم يتخلّف عن معركة خاضها رسول الله، وفي كل المعارك التي خاضها كان بطلها الأوحد وفارسها الأمجد، ولم يترك رسول الله في كل حروبه سوى في تبوك بأمر رسول الله، حيث خلّفه على المدينة قائلاً له (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

علي الوحيد الذي لم يختلف فيه كل الرواة في أنه بقي يقاتل مع رسول الله في حنين مع تسعة من المسلمين، حينما زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وقد قتل علي في ذلك اليوم أبا جرول حامل لواء المشركين يوم حنين، أما التسعة الآخرون فكانوا في مواضع التبديل والتغيير دائماً، وكل مؤرخ يثبت هذا ويحذف ذاك حسب هواه ونزعاته، ولكن هل يجرؤ أحدٌ منهم على ذكر عشرة من المسلمين بقوا مع النبي يوم حنين حينما هرب جميع المسلمين بدون أن يذكر فيهم علي ؟ ونحن بدورنا نقول لهم: إذا لم يستطع أي مؤرخ أو كاتب مهما بلغ نصبه وحقده ومهما لعبت به الأهواء أن ينكر هذه الحقيقة ، فلماذا تعدلون علياً بغيره وهل كان لأحد من الناس ما لعلي من الصفات والخصال يقول الفراهيدي عن علي: ( احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل)

عليٌ الذي أوصى له رسول الله يوم الغدير بقوله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) قام بتغسيل النبي ودفنه وكان آخر الناس عهداً به، كما كان أكثر الناس ملازمة له في السلم والحرب.

عليٌ حمل من بعد الرسول أعباء النبوة ومسؤولية الدفاع عن الإسلام كما حمل أعباء تثبيته، فقاتل على التأويل القاسطين والمارقين والناكثين كما قاتل كفار قريش على التنزيل.

عليٌ في القتال البطل الصنديد، والفارس المغوار، وأسد الله وأسد رسوله الذي لم يقف بوجهه أحد إلا قتله حتى قيل: إن الفرار عار في الحرب إلا من سيف علي، كان العادل النبيل حتى مع أعدائه، وبلغ من النبل والنخوة الغاية المثلى والقدوة العليا، فلم يجعل لنصره في الحرب مأرباً لغنيمة أو لتشفٍ أو لاقتصاصٍ من عدو، بل كان الشرف يقطر من جنباته، فما إن يتجلّى النصر له على عدوه حتى يصيح بأصحابه: (لا يسلبن قتيل، ولا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يحل متاع).

عليٌ يظفر بالماء يوم صفين بعد ان استولى عليه معاوية فمنع جيش علي منه، ولكن علياً عندما ظفر بالماء قال لأصحابه: (خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم، وخلوا عنهم فإن الله قد نصركم بظلمهم وبغيهم).

وتلوح له الفرصة بقتل ألد أعدائه وأعداء الإسلام عمرو بن العاص، لكن ابن النابغة يرفع ثوبه ليُبدي عورته !!! هذا هو الصحابي الجليل كما تصفونه وتطلقون عليه لقب فاتح مصر وغيرها من الألقاب، يكشف عن سوأته بين الجيشين أمام مرأى أهل العراق والشام ليتفادى سيف علي !! أهؤلاء من أمركم رسول الله بالاقتداء بهم ؟ أم هذه صفات من زعمتم أنهم خير الناس بعد رسول الله ؟ والله إني لأستشعر الضحك على تلك العقول الخاوية وهي تهذر بتلك الترهات وينسبونها إلى النبي كذباً وزوراً وبهتاناً: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) !!!!! إذن فاقتدوا بابن النابغة.

علي البطل الكمي يقف بين يدي ربه فتأخذه الرعدة، لا خوفاً من نار ولا طمعاً في الجنة كما يقول: (إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك) إنها العبادة الخالصة ومثال عبادة المسلم المؤمن حق المسلم المؤمن.

علي يفتح بيت المال فيتلألأ أمامه الذهب والفضة والأموال فيقول: (يا صفراء غري غيري)، ثم ينادي قنبر ليجمع المسلمين فيوزّعها عليهم بقسمة رسول الله، ثم يعطي قنبرا ثلاثة دنانير ويأخذ هو ثلاثة دنانير..، ويكنس بيت المال ثم يبكي ويقول: (يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت ؟ أم إلي تشوقت ؟ لا حان حينك، هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد).

يقول ميخائيل نعيمة (بطولات الامام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلا في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق انسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعوته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الخارج والظالم، وتأييده للحق أينما تجلى له الحق).

ويقول الفيلسوف الإنكليزي (كارليل): (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان)

علي الحارس الأمين على الأمة بعد نبيها وواضع أسس العدل فيها يضع وثيقة كاملة جمعت كل قوانين الدولة ومقوماتها المستمدة من روح الإسلام دين الرحمة والإنسانية يقول لأحد ولاته: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) الله أكبر من قالها غير علي ؟ ...، أنا انصحكم أن تطلعوا على وصايا الخلفاء الأمويين لولاتهم ووصايا ولاتهم إلى عمالهم تلك الوصايا الدموية التي لم ترحم شيخاً كبيراً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا حتى الحيوانات وكل ذي روح وقارنوها أنتم بأنفسكم مع هذه الوصية، وإذا أردتم صورة قريبة من أعمال الأمويين في الماضي فانظروا إلى أعمال داعش الآن.

ويمضي علي في وصيته: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمقها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية .... وأكثر مدارسة العلماء، والحكماء.. في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك... إن أفضل قُرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم).

(علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار) هكذا يوصي رسول الله أصحابه كما يخص عمار بوصية أخرى: (يا عمار لو سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً غيره فاسلك الوادي الذي سلك علي) فعليٌ لم ينطق بغير الحق، ولم يعمل بغيره. يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: (وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك)

علي بهذه العظمة التي لم يجد لها التاريخ مثيلاً هو مبدع أروع دستور خطته يد إنسان لهذه الأمة وهو نهج البلاغة الذي احتوى كلاماً فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، وهو القرآن الثاني، وقد امتاز هذا السفر الخالد بشموليته حيث شمل جميع القيم والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية والفكرية فهو يمثل الإسلام بنقائه وصفائه ويحفظ للإنسانية حقوقها وكرامتها ويبلغ بها مبالغ الكمال.

يقول محمد عبده عن نهج البلاغة : (فتارة كنت أجدني في عالم يغمرني فيه من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدياً، فصل عن المركب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى)، ويوصي محمد عبده أحد تلاميذه بقوله: (اذا رمت ان تكون كاتباً فخذ الامام علي (ع) امير المؤمنين استاذاً، واتخذ من اقواله في ظلمات ليلك نبراسا).

لقد كان علي بن ابي طالب (عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير له الشرق ولا الغرب صورة طبق الاصل لا قديما ولا حديثا) كما يقول شبلي شميل.

وأخيرا نختم تلك الأقوال الكثيرة التي هام أصحابها بشخصية علي بن أبي طالب بما قاله الشاعر بولس سلامة صاحب ملحمة الغدير التي تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف بيت يقول في مقدمة ملحمته: (أجل انني مسيحي ولكن التاريخ مشاع للعالمين. اجل انني مسيحي ينظر من أفق رحب لا من كوة ضيقة، مسيحي يرى (الخلق كلهم عيال الله) ويرى ان (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) مسيحي ينحني امام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الارض ومغاربها خمساً كل يوم، رجل ليس في مواليد حواء اعظم منه شأناً وأبعد أثراً وأخلد ذكراً، رجل أطلّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا اظلها بلواء مجيد كتب عليه بأحرف من نور: (لا إله إلا الله، الله اكبر).

ثم يقول: (قد يقول قائل، ولم آثرت علياً دون سواه بهذه الملحمة؟ ولا اجيب على هذا السؤال إلاّ بكلمات... فالملحمة كلها جواب عليه وسترى في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: (رضي الله عنه وكرم وجهه وعليه السلام) ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمة ويخشعون لتقواه، ويتمثل به الزهاد في الصوامع فيزدادون زهداً وقنوتاً، وينظر اليه المفكر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء، ويتطلع اليه الكاتب الألمعي فيأتم ببيانه، ويعتمده الفقيه والعالم المدره فيسترشد بأحكامه). أما في ختام مقدمته فيقول: (حقاً ان البيان ليسف وان شعري لحصاة في ساحلك يا أمير الكلام) ويبدأ الملحمة بقوله:

يا مليك الحياة أنزل عليّا *** عزمةً منك تبعثُ الصخر حيا
جود كفيّك ان تشأ يملأ العيش *** نماءً ويفرش الجدب فيّا
يوقظ الورد فالربيع على التلّ *** ضحوكُ الالوانِ طلقُ المحيا
كلما افترّ برعمٌ داعبته *** كفُ ريحٍ تقولُ للطيب هيّا
واهبَ النور والندى للروابي *** أولني من جمالِ وجهكَ شيّا
في سبيل الكمال أجرِ يراعي *** ملهم البثّ فيصلاً عربيا
هات يا شعر من عيونك واهتف *** باسم من أشبع السباسب ريّا
باسم زين العصور بعد نبيٍّ *** نوّر الشرق كوكبا هاشميا
باسم ليث الحجاز نسر البوادي *** خير من هزّ في الوغى سمهريا
خير من جللّ الميادين غاراً *** وانطوى زاهداً ومات أبيا
كان رب الكلام من بعد طه *** وأخاه وصهره والوصيا
بطل السيف والتقى والسجايا *** ما رأت مثله الرماح كميا
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي *** واخشعي انني اردت عليا
وفي ختام الملحمة يجد الشاعر في اسم علي البلسم الشافي لجراحه
يا إله الاكوان اشفق عليّا *** لا تمُتني غبّ العذاب شقيا
أولني أجر عاملٍ في صعيد الخير *** يبغي ثوابك الأبديا
مصدر الحق لم أقل غير حق *** أنت أجريته على شفتيا
انت الهمتني مديح عليّ *** فهمى غيدق البيان عليا
هكذا كان صهر أحمد يضفي *** نبله ملء سرحة الدهر فيا
هو فخر التاريخ لا فخر شعب *** يدّعيه ويصطفيه وليا
لا تقل شيعةً هواة عليٍ *** إن في كل منصف شيعيا
أتأسّى بالاكرمين خصالاً *** لم يسيغوا في العمر شرباً مريّاً
بالذي باكر الشهادة بدرياً *** وأعلى اكليلها الكوفيا
بجراح الحسين في كل جرح *** يجد الصبر كهفه الازليا
يا أمير السلام حسبي فخراً *** انني منك مالئ أصغريا
جلجل الحق في المسيحي حتى *** عدّ من فرط حبه علويا
فإذا لم يكن علي نبياً *** فلقد كان خلقه نبويا
ياسماء اشهدي وياأرض قرّي *** واخشعي أنني اردت عليا

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا