في ذكرى مولد الإمام العسكري: علم الغيب في خدمة الأمة
محمد علي جواد تقي
2025-10-04 03:59
((وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ))
سورة الأعراف، الآية:188
كان هذا جواب رسول الله، صلى الله عليه وآله، لمشركي مكة، عندما حاججوه بعدم امتلاكه الغيب ليدعم قوله أنه رسول الله، ويفترض انه يعلم شيئاً من الغيب، على الأقل للاستفادة المادية، كأن يكون شراء بعض السلع بسعر رخيص مع معرفة ارتفاع ثمنها في قادم الأيام فيبيعها ويكسب الفارق في الثمن، فجاء الجواب من القرآن الكريم على لسان النبي الأكرم، بأن لو كان الأمر كذلك، لاستكثرت من عمل الخير قبل دنو أجلي، كما جاء في بعض التفاسير.
ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى مولد الامام الحادي عشر من أئمة أهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم، يجدر بنا الإحاطة، ما أمكننا، بمفهوم غاية بالاهمية يتعلق بالجانب العقدي من حياتنا، فكثير من الاعمال والافكار والقناعات إزاء الدين بشكل عام، مرتكزة على ايماننا بالغيب، بدءاً بالحرص على الثواب وتجنّب العقاب، رغبة بالجنة وخشيةً من النار، وهما من عوامل الغيب، فلا أحد يحصل على شيء مادي لقاء فعل الخير، بل ربما يكون العكس في بعض الاحيان، ولا أحد يتعاقب على فعل المعصية، وليس انتهاءً بعلاقتنا بالأئمة الاطهار وابنائهم في مراقدهم المطهرة، وكيف أن الناس تتوسل الى الله -تعالى- بمكانتهم ومنزلتهم عنده بقضاء الحوائج، وحتى تفادي الموت المحقق في حوادث السير بفعل صدقة بسيطة نعيطها للفقير امتثالاً لما جاء في الحديث عن المعصوم، وغيرها كثير من الامثلة في حياتنا اليومية.
وعندما نتصفح سيرة حياة الامام الحسن بن علي العسكري، عليهما السلام، نجد أن العلم بالغيب حاضراً في حياته الشريفة، كما كان حاضراً في حياة جدّه المصطفى، وآبائه الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وهي من ألطاف البارئ –عزوجل- لتعزيز الشخصية القيادية في أوساط المجتمع، وتكريس الإيمان في النفوس لتحقيق الرسالات الإلهية، كما هو الحال في عصا موسى، وبساط سليمان، ونار نمرود، كلها لم تحصل بإرادة خاصة منهم، بقدر ما كانت تجسيداً للإرادة الإلهية لنصرة الأنبياء في الموقف الحاسم، و أروع مثال من النبي سليمان الذي كان يتنقل بين البلدان على بساط الريح، وكان يتكلم مع الحيوانات والحشرات، لكنه عجز عن معرفة الشخص الذي داهمه في أعلى قمة يقف عليها لمراقبة الإنس والجن العاملين تحت يديه، وكان ذاك؛ ملك الموت، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه دون أن يمهله الجلوس، ولذا حسم القرآن الكريم المسألة نهائياً بأن {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، (سورة النمل- الآية:65).
علم غيب الأئمة ومعالجة الوسوسة
كثيراً ما كان المعصومون يخبرون الناس بالغيبيات عما فعلوه في خلواتهم، وحتى ما كان يدور في خواطرهم، وما يضمروه من نوايا والهدف الأساس؛ التربية والتعليم والتزكية، الى جانب فوائد أخرى تصب في مصلحة المؤمنين، كما حصل في إخبار من تطاردهم السلطة الغاشمة بعدم الظهور لفترة معينة، او مغادرة مكانٍ الى آخر، والشواهد على هذه لا تُعد في كتب السيرة، نقتطف واحدة من كتاب؛ من حياة الامام العسكري، لمؤلفه سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي، ينقل من "مناقب آل أبي طالب"، أن احد أصحاب الامام، عليه السلام، دخل عليه، وفي نفسه أن يسأله فصّاً ليصوغ به خاتماً يتبرك به، فلما جلس عند الإمام نسي الموضوع تماماً، "فلما نهض و ودّع الإمام، أشار اليه بخاتم، وقال: "أردت فصّاً فاعطيناك خاتماً وربحت الفص والكراء، هنأك الله يا أبا هاشم".
وهنا يبحث الامام الشيرازي موضوع النوايا ودورها المحوري في توجيه الأعمال، بل وحتى في صياغة التفكير وصنع الإرادة، و"إن الانسان مسؤولٌ عن نواياه، وقد يعاتب عليها وإن لم يعاقب عليها في الجملة"، والمشكلة تحصل في النوايا بالاتجاه السيئ، وهي غير الخواطر التي تداهم القلب احياناً نتيجة مواقف صعبة في الحياة، وتكون رد فعلٍ على مثيرات للمشاعر، بيد أن النوايا المقصودة بالاختيار من صاحبها فهي تكون قرينة للعمل في الواقع الخارجي، ويكون الانسان مسؤولاً عنها يوم القيامة، مثال ذلك فيمن يفتح جهاز الموبايل وفي نيته تصفح مواقع غير صالحة، فانه كمن مارس العمل الشائن الذي يراه في الموقع الالكتروني، وإن لم يكن في قصده ارتكاب ذلك العمل.
ولذا فان إخبار الامام العسكري لذلك الرجل، الى جانب تكريس حالة الإيمان بالإمام المعصوم كونه مرتبطاً بالسماء، فان فيه "إشعاراً بأن الانسان مسؤولٌ حتى عن نواياه، وعليه أن يختار الحسن من النوايا، او باختيار مقدماتها، او يترك النوايا السيئة بترك مقدماتها ايضاً، فان الانسان مراقب حتى في قلبه، -يقول الامام الشيرازي في مؤلفه المشار اليه-، وحسبنا حديث رسول الله: "نية المؤمن خير من عمله، ونيه الكافر شر من عمله".
الابتلاء فلسفة المعجزة
كما مرّ فان المعجزة ليست دائماً وسيلة للانتصار والتفوق بدليل عدم تعلقها بالانسان كنبي أو وصي أو من أولياء الله الصالحين بالمرة، وطالما راود هذا السؤال أذهان وقلوب الكثير، لاسيما المقيمين بالقرب من المراقد المشرفة، فهم يعتقدون أن وجودهم في هناك مدعاة للأمان، والخير، والبركة، بيد أن حقائق الزمن لا تؤكد هذا في معظم الاحيان، والمثال الأبرز من تاريخنا المعاصر؛ الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991 عندما تحصّن الناس الى جوار ضريحي الامام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس ظناً منهم أن قوات نظام صدام لن تمسهم بسوء، ولكن حصل الذي حصل حيث لم تتورع هذه القوات من قتل الابرياء وقصف المرقدين الشريفين.
ولعل هذه الواقعة التاريخية الأليمة تكون عبرة لنفهم معنى الإعجاز على يد أولياء الله الصالحين، ولماذا لا يجد الناس الإمداد الغيبي منهم في الاوقات التي يريدونها هُم؟ والجواب يبينه سماحة المرجع الشيرازي الراحل في مؤلفه المشار اليه، بأن "كان المعصومون يعملون بالغيب والاعجاز في أعمالهم، لم يكونوا أسوةً، لأن الناس يقولون: لايمكننا ان نتأسى بهم لأنهم يعملون بالغيب والقدرة الاعجازية ونحن نفقدهما، من هنا كان استخدام المعجزة وعلم الغيب من قبلهم ينحصر في الموارد المقررة التي أذن الله فيها وحسب، دون سائر الموارد، وذلك {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}".
ثم إن الناس في كل زمان ومكان يميلون الى القوي في ماله وسلاحه وقدراته الفائقة، وهذا ما لا يريده الإسلام للبشرية، إنما يريد القدرات لجميع الناس، يستخرجونها ويوظفونها لمجالات الخير والصلاح عندما يكونوا مؤمنين حقيقيين بالله وبما جاء من عنده من أحكام وقوانين وقيم، ومنها؛ قيمة الإيمان بالغيب الإلهي المطلق، وللأهمية القصوى لهذه المسألة البُنوية، جاء شرط الإيمان بالغيب كأحد شروط التقوى في بداية ثاني سورة في القرآن الكريم: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، وهذا الإيمان يعد من جملة عوامل تجعل الانسان بين الخوف الرجاء طوال حياته ليكون متوازناً بين ما يطلبه من الله –تعالى- و يرجوه في عالم الغيب، وما عليه من التزامات في حياته اليومية، فلا نفي مطلق للغيب والمعجزة، كما لا نفي لعمل الانسان وسعيه واختياراته، فتكون الثمرة؛ أن {َيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}،