الإِمَامُ عَلِيُّ بنُ مُوسَى الرِّضَا (عَ) العَالِمُ الذِي لَا يَنقَطِع

الشيخ الحسين أحمد كريمو

2024-05-16 04:32

ولد الإمام الرِّضا (ع) في 11 ذو القعدة 148 ه الموافق 28 نوفمبر 765 م في المدينة المنورة

مقدمة علمية

العلم هو العطاء الرباني الذي يزيِّن كل عطاء في هذا الوجود، فما أجل وأجمل وأعظم وأكمل العلم إذا وهبه الله العالم لمستحقيه، لا سيما أولئك الذين اختارهم واصطفاهم على علم منه وجعلهم عيبة علمه وتراجمة وحيه وأمناءه على دينه من الأنبياء العظام والأولياء الكرام، الذين علمهم علماً لدنِّياً كما قال ربنا في قوله تعالى عن ذاك العبد الصالح الخضر: (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)

فإذا كان الخضر الأخضر الله علَّمه من لدنه علماً فكيف مَنْ جمع لهم كل العلوم واحتج بهم وقال في حقهم: (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (الرعد: 43)، وكان ذلك أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) باب مدينة العلم والفقه والحكمة الإلهية والرسولية كما في الأحاديث الكثيرة، حيث أن الله سبحانه أعطاه علم الكتاب الذي احتوى كل العلوم حيث قال: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام: 38)

فهذا هو العلم حقاً الذي جعله وجمعه ربنا سبحانه وتعالى في أئمة المسلمين من آل طه وياسين، والإمام علي بن موسى الرضا (ع) هو الإمام الثامن من أئمة المسلمين وكان يلقب بـ(عالم آل محمد) فما أعظمه من لقب لأنهم جميعاً علماء وفقهاء وحكماء ولكن لماذا اختص الإمام الرِّضا (ع) بهذا اللقب الشريف؟

علم الإمام الرِّضا (ع) لدنِّي

إذا علمنا مما تقدَّم بأن علم الإمام هو عطاء من الله تعالى، فهو غير اكتسابي كغيره من البشر، بل الله اختارهم واصطفاهم وعلَّمهم العلم اللازم والضروري لتربية الإنسان وهدايته، ثم لضمان استقامته وبناء أسرته ومجتمعه ثم أمته وحضارته، وكل ذلك موجود في كتاب الله المسطور الصامت (القرآن الحكيم)، وتفسيره وتأويله في كتاب الله المخلوق الناطق (الإمام الكريم)، وبذلك تكتمل دائرة العلم البشري في الإمام الذي وصفه الإمام الرِّضا (ع) في حديثه لعبد العزيز بقوله: الإمام (اَلْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ)، و(اَلْإِمَامُ عَالِمٌ لاَ يَجْهَلُ)، وهو (شَرَفُ اَلْأَشْرَافِ وَاَلْفَرْعُ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ نَامِي اَلْعِلْمِ كَامِلُ اَلْحِلْمِ)، و(إِنَّ اَلْعَبْدَ إِذَا اِخْتَارَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمُورِ عِبَادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ اَلْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ اَلْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ وَلاَ يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ اَلصَّوَابِ فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ قَدْ أَمِنَ مِنَ اَلْخَطَايَا وَاَلزَّلَلِ وَاَلْعِثَارِ يَخُصُّهُ اَللَّهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ)، فكل هذه الألفاظ الجميلة الجليلة تحتاج في شرحها وبيانها إلى بحوث طويلة وربما إلى كتب مستقلة، ولذا يجمل القول في علم الإمام الرضا (ع) سماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في كتابه الرائع (من حياة الإمام الرضا (ع) بقوله: " كان الإمام الرضا (ع) أعلم أهل زمانه، وقد اعترف بعلمه كبار علماء الأديان والمذاهب والمبادئ في مجالس المناظرة التي هيئها المأمون وفي غيرها.

وقال الإمام موسى بن جعفر (ع) ليزيد بن سليط الزيدي: (إِنِّي أُوخَذُ فِي هَذِهِ اَلسَّنَةِ وَاَلْأَمْرُ هُوَ إِلَى اِبْنِي عَلِيٍّ سَمِيِّ عَلِيٍّ وَعَلِيٍّ فَأَمَّا عَلِيٌّ اَلْأَوَّلُ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا اَلْآخِرُ فَعَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أُعْطِيَ فَهْمَ اَلْأَوَّلِ، وَحِلْمَهُ، وَنَصْرَهُ، وَوُدَّهُ، وَدِينَهُ، وَمِحْنَتَهُ، وَمِحْنَةَ اَلْآخِرِ وَصَبْرَهُ عَلَى مَا يَكْرَهُ). (الکافي: ج۱ ص۳۱۳)

فهذا الوصف والمقارنة العجيبة بين أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) الذي عنده علم الكتاب كله، وفهمه وحكمه، وكذلك الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، وربما ما يكمل لنا الصورة ويُجليها أكثر الرواية التالية، قال أبو الحسن الإمام الكاظم (ع): (ثُمَّ وَصَفَهُ لِي رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقَالَ: عَلِيٌّ اِبْنُكَ اَلَّذِي يَنْظُرُ بِنُورِ اَللَّهِ، وَيَسْمَعُ بِتَفْهِيمِهِ، وَيَنْطِقُ بِحِكْمَتِهِ، يُصِيبُ وَلاَ يُخْطِئُ، وَيَعْلَمُ وَلاَ يَجْهَلُ، وَقَدْ مُلِئَ حُكْماً وَعِلْماً). (عيون الأخبار: ج۱ ص۲۳)

وقَالَ أَبُو اَلصَّلْتِ: ولَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: (هَذَا أَخُوكُمْ عليّ بن موسى عالم آل محمد، فاسألوه عَنْ أَدْيَانِكُمْ واِحْفَظُوا مَا يَقُولُ لَكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ لِي: إِنَّ عَالِمَ آلِ مُحَمَّدٍ لفي صُلْبِكَ، ولَيْتَنِي أَدْرَكْتُهُ فَإِنَّهُ سَمِيُّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). (إعلام الوری: ج۲ ص64)

فما أعظم هذه الصفات وأجلِّها وأجملها في الإمام الرضا (ع) فهو ينظر بنور الله، ويسمع بتفهيمه، وينطق بالحكمة وفصل الخطاب، ومن ثم سماحة السيد الراحل ينقل بعض كلمات العلماء بحق الإمام الرضا (ع) كقول إبراهيم بن العباس الصولي: (مَا رَأَيْتُ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ عَلِمَهُ وَلاَ رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِمَا كَانَ فِي اَلزَّمَانِ إِلَى وَقْتِهِ وَعَصْرِهِ وَ كَانَ اَلْمَأْمُونُ يَمْتَحِنُهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَيُجِيبُ عَنْهُ وَكَانَ كَلاَمُهُ كُلُّهُ وَجَوَابُهُ وَتَمَثُّلُهُ اِنْتِزَاعَاتٍ مِنَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ وَكَانَ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ). (إعلام الوری: ج۲ ص6۳)

وفي إعلام الورى عن أبي الصلت الهروي قال: (مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَلاَ رَآهُ عَالِمٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ بِمِثْلِ شَهَادَتِي وَلَقَدْ جَمَعَ اَلْمَأْمُونُ فِي مَجَالِسَ لَهُ عَدَداً مِنْ عُلَمَاءِ اَلْأَدْيَانِ وَفُقَهَاءِ اَلشَّرِيعَةِ وَاَلْمُتَكَلِّمِينَ فَغَلَبَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَقَرَّ لَهُ بِالْفَضْلِ وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقُصُور.. وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يَقُولُ: كُنْتُ أَجْلِسُ فِي اَلرَّوْضَةِ وَاَلْعُلَمَاءُ بِالْمَدِينَةِ مُتَوَافِرُونَ فَإِذَا عَيِيَ اَلْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَشَارُوا إِلَيَّ بِأَجْمَعِهِمْ وَبَعَثُوا إِلَيَّ اَلْمَسَائِلَ فَأُجِيبُ عَنْهَا). (إعلام الوری: ج۲ ص64)

وقال ابن شهر آشوب: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى اَلْيَقْطِينِيُّ: لَمَّا اِخْتَلَفَ اَلنَّاسُ فِي أَمْرِ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جَمَعْتُ مِنْ مَسَائِلِهِ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ وَأَجَابَ فِيهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ). (المناقب: ج4 ص۳۵۰) 

وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ اَلْقُمِّيُّ فِي عُيُونِ أَخْبَارِ اَلرِّضَا (ع): أَنَّ اَلْمَأْمُونَ جَمَعَ عُلَمَاءَ سَائِرِ اَلْمِلَلِ مِثْلَ اَلْجَاثَلِيقِ، وَرَأْسِ اَلْجَالُوتِ، وَرُؤَسَاءِ اَلصَّابِئِينَ، مِنْهُمْ عِمْرَانُ اَلصَّابِي، وَاَلْهِرْبِذُ اَلْأَكْبَرُ، وَأَصْحَابُ زَرَادِشْتَ، وَنِسْطَاسُ اَلرُّومِيُّ، وَاَلْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ اَلْمَرْوَزِيُّ، ثُمَّ أَحْضَرَ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَسَأَلُوهُ فَقَطَعَ اَلرِّضَا وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ). (المناقب: ج4 ص۳۵۱)

ثم ينقل سماحة الإمام الراحل تلك المجالس العلمية والحوارات العقائدية والفكرية التي كانت تدور بحضرة عبد الله المأمون والذي كان أعلم خلفاء بني العباس، وهو مع ذلك كله انقاد لـه اضطراراً حتى جعله ولي عهده وزوّجه ابنته (أم الفضل). (من حياة الإمام الرضا (ع): ص 23 بتصرف)

هدف المأمون من مجالسه

والعجيب أن عبد الله المأمون الذي يدَّعي كذباً وزوراً وبهتاناً بأنه شيعي -كما في روايته المعروفة عن أبيه هارون- وأنه يعرف الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حق المعرفة إذ لا يمكن لمثل المأمون أن يجهل أو يتجاهل مثل الإمام علي الرضا (ع) شمس زمانه وزينة عصره وأوانه، وحجة الله على خلقه جميعاً، ولذا عندما اضطر واحتاج إليه في تثبيت كرسي ملكه قرَّبه وجعله ولياً لعهده حتى استتب له الأمر فدسَّ له السَّم وقتله ومضى إلى بغداد ليكمل مسيرته في الحكم والفساد في الأرض، ولكن لماذا كان يعقد المأمون كل تلك المجالس ويجمع أولئك العلماء الكبار من العالم الإسلامي الذي لا نظير لهم في عصره؟

الحقيقة أنه كان يهدف إلى أمور كثيرة ولكن سنختصر الحديث عن أمرين اثنين فقط نرى أنهما أهم الأسباب والدواعي لعبد الله المأمون في دعوة أولئك العلماء، وعقد تلك المجالس العلمية والحوارات الحضارية وهي:

أولاً: تقوية حكمه وشفاء غروره الشخصي؛ وذلك لأنه كان عالماً فكان يريد أن يظهر علمه للناس، وذلك يقوي سلطانه وحكمه وقبضته عليهم، ولكن عندما كان يدعوهم لحوار الإمام علي الرضا (ع) وكان يعلم أنه سيفوز عليهم فكان يقول لهم: (إِنِّي إِنَّمَا جَمَعْتُكُمْ لِخَيْرٍ وَأَحْبَبْتُ أَنْ تُنَاظِرُوا اِبْنَ عَمِّي هَذَا اَلْمَدَنِيَّ اَلْقَادِمَ عَلَيَّ)، فيريد أن يفتخر عليهم وأن ابن عمِّه بهذا العلم وهذه المكانة فهم أهل بيت النبوة والرسالة وكلهم علماء حكماء وهذه صورة عنهم، وهذا بحثه طويل وشواهده كثيرة أيضاً.

ثانياً: يريد أن يبطل إمامة الإمام الرضا (ع)؛ وذلك لأنه كان يرجو ويأمل أن يقطع أحد العلماء الإمام الرضا (ع) بسؤال أو يوقفه في إشكال ولا يستطيع أن يجيب عنه، كما قال مصرِّحاً بذلك يروى أنه: قَدِمَ سُلَيْمَانُ اَلْمَرْوَزِيُّ مُتَكَلِّمُ خُرَاسَانَ عَلَى اَلْمَأْمُونِ فَأَكْرَمَهُ وَوَصَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ اِبْنَ عَمِّي عَلِيَّ بْنَ مُوسَى اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَدِمَ عَلَيَّ مِنَ اَلْحِجَازِ وَهُوَ يُحِبُّ اَلْكَلاَمَ وَأَصْحَابَهُ فَلاَ عَلَيْكَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْنَا يَوْمَ اَلتَّرْوِيَةِ لِمُنَاظَرَتِهِ. 

فَقَالَ سُلَيْمَانُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ مِثْلَهُ فِي مَجْلِسِكَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَيَنْتَقِضَ عِنْدَ اَلْقَوْمِ إِذَا كَلَّمَنِي وَلاَ يَجُوزُ اَلاِسْتِقْصَاءُ عَلَيْهِ. 

قَالَ اَلْمَأْمُونُ: إِنَّمَا وَجَّهْتُ إِلَيْكَ لِمَعْرِفَتِي بِقُوَّتِكَ وَلَيْسَ مُرَادِي إِلاَّ أَنْ تَقْطَعَهُ عَنْ حُجَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ). (عيون الأخبار: ج۱ ص۱۷۹)

فكلامه واضح وجلي إنما يريد أن يقطع الإمام الرضا (ع) ولو بأي مسألة مهما كانت كبيرة أو صغيرة، ولكن هيهات له ذلك فإن الإمام عالم لا يجهل، وعلمه مددي من الله تعالى، فكان الإمام في نهاية كل مجلس يعلو في عيون الناس والأمة، والمأمون يستشيط غضباً ويعض على يديه ندماً من عقده تلك المجالس وسأكتفي بشاهد واحد على ما ذهبنا إليه، وهو بعض أهم وأشهر تلك المجالس الرضوية المباركة، حيث يصرِّح بها الإمام الرضا (ع) ويبين ندم المأمون في النهاية حيث يقول: لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إِلَى اَلْمَأْمُونِ أَمَرَ اَلْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ أَصْحَابَ اَلْمَقَالاَتِ مِثْلَ اَلْجَاثِلِيقِ، وَرَأْسِ اَلْجَالُوتِ، وَرُؤَسَاءِ اَلصَّابِئِينَ، وَاَلْهِرْبِذِ اَلْأَكْبَرِ، وَأَصْحَابِ زَرْدْهُشْتَ، وَقِسْطَاسِ اَلرُّومِيِّ، وَاَلْمُتَكَلِّمِينَ لِيَسْمَعَ كَلاَمَهُ وَكَلاَمَهُمْ فَجَمَعَهُمُ اَلْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثُمَّ أَعْلَمَ اَلْمَأْمُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ عَلَيَّ فَفَعَلَ فَرَحَّبَ بِهِمُ اَلْمَأْمُونُ. 

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي إِنَّمَا جَمَعْتُكُمْ لِخَيْرٍ وَأَحْبَبْتُ أَنْ تُنَاظِرُوا اِبْنَ عَمِّي هَذَا اَلْمَدَنِيَّ اَلْقَادِمَ عَلَيَّ فَإِذَا كَانَ بُكْرَةً فَاغْدُوا عَلَيَّ وَلاَ يَتَخَلَّفْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَقَالُوا: اَلسَّمْعَ وَاَلطَّاعَةَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ مُبْكِرُونَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ. 

قَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلنَّوْفَلِيُّ: فَبَيْنَا نَحْنُ فِي حَدِيثٍ لَنَا عِنْدَ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا يَاسِرٌ اَلْخَادِمُ وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ أَبِي اَلْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَقَالَ: يَا سَيِّدِي إِنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ يُقْرِئُكَ اَلسَّلاَمَ فَيَقُولُ: فِدَاكَ أَخُوكَ إِنَّهُ اِجْتَمَعَ إِلَيَّ أَصْحَابُ اَلْمَقَالاَتِ وَأَهْلُ اَلْأَدْيَانِ وَاَلْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ جَمِيعِ اَلْمِلَلِ فَرَأْيُكَ فِي اَلْبُكُورِ عَلَيْنَا إِنْ أَحْبَبْتَ كَلاَمَهُمْ، وَإِنْ كَرِهْتَ كَلاَمَهُمْ فَلاَ تَتَجَشَّمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ نَصِيرَ إِلَيْكَ خَفَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا. 

فَقَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أَبْلِغْهُ اَلسَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُ مَا أَرَدْتَ وَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْكَ بُكْرَةً إِنْ شَاءَ اَللَّهُ. 

قَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلنَّوْفَلِيُّ: فَلَمَّا مَضَى يَاسِرٌ اِلْتَفَتَ إِلَيْنَا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا نَوْفَلِيُّ أَنْتَ عِرَاقِيٌّ وَرِقَّةُ اَلْعِرَاقِيِّ غَيْرُ غَلِيظَةٍ فَمَا عِنْدَكَ فِي جَمْعِ اِبْنِ عَمِّكَ عَلَيْنَا أَهْلَ اَلشِّرْكِ وَأَصْحَابَ اَلْمَقَالاَتِ؟ 

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يُرِيدُ اَلاِمْتِحَانَ وَيُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ مَا عِنْدَكَ وَلَقَدْ بَنَى عَلَى أَسَاسٍ غَيْرِ وَثِيقِ اَلْبُنْيَانِ وَبِئْسَ وَاَللَّهِ مَا بَنَى. 

فَقَالَ لِي: وَمَا بِنَاؤُهُ فِي هَذَا اَلْبَابِ؟ 

قُلْتُ: إِنَّ أَصْحَابَ اَلْبِدَعِ وَاَلْكَلاَمِ خِلاَفُ اَلْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ اَلْعَالِمَ لاَ يُنْكِرُ غَيْرَ اَلْمُنْكَرِ وَأَصْحَابُ اَلْمَقَالاَتِ وَاَلْمُتَكَلِّمُونَ وَأَهْلُ اَلشِّرْكِ أَصْحَابُ إِنْكَارٍ وَمُبَاهَتَةٍ وَإِنِ اِحْتَجَجْتَ عَلَيْهِمْ أَنَّ اَللَّهَ وَاحِدٌ قَالُوا صَحِّحْ وَحْدَانِيَّتَهُ وَإِنْ قُلْتَ إِنَّ مُحَمَّداً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) رَسُولُ اَللَّهِ قَالُوا أَثْبِتْ رِسَالَتَهُ، ثُمَّ يُبَاهِتُونَ اَلرَّجُلَ وَهُوَ يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ بِحُجَّتِهِ وَيُغَالِطُونَهُ حَتَّى يَتْرُكَ قَوْلَهُ فَاحْذَرْهُمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ. 

قَالَ: فَتَبَسَّمَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ثُمَّ قَالَ: يَا نَوْفَلِيُّ أَ تَخَافُ أَنْ يَقْطَعُوا عَلَيَّ حُجَّتِي؟ 

قُلْتُ: لاَ وَاَللَّهِ مَا خِفْتُ عَلَيْكَ قَطُّ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُظْفِرَكَ اَللَّهُ بِهِمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ.

فَقَالَ لِي: يَا نَوْفَلِيُّ أَ تُحِبُّ أَنْ تَعْلَمَ مَتَى يَنْدَمُ اَلْمَأْمُونُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. 

قَالَ: إِذَا سَمِعَ اِحْتِجَاجِي عَلَى أَهْلِ اَلتَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ، وَعَلَى اَلصَّابِئِينَ بِعِبْرَانِيَّتِهِمْ، وَعَلَى اَلْهَرَابِذَةِ بِفَارِسِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلرُّومِ بِرُومِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَصْحَابِ اَلْمَقَالاَتِ بِلُغَاتِهِمْ فَإِذَا قَطَعْتُ كُلَّ صِنْفٍ، وَدَحَضَتْ حُجَّتُهُ، وَتَرَكَ مَقَالَتَهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِي عَلِمَ اَلْمَأْمُونُ أَنَّ اَلْمَوْضِعَ اَلَّذِي هُوَ بِسَبِيلِهِ لَيْسَ هُوَ بِمُسْتَحَقٍّ لَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ اَلنَّدَامَةُ مِنْهُ وَلاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ). (عيون الأخبار: ج۱ ص۱۵4)

وفعلاً لم ينقطع الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في أي مسألة بل كان كعبه هو الأعلى وقوله هو الصحيح المتَّبع، والكل يرجع إليه ويعترفون بصغرهم أو قلة علمهم أمامه، وبعضهم قال: ما كنت أظن أحداً في الإسلام بعلمك ومعرفتك يا سيدي..

السلام على عالم آل محمد الإمام الثامن من أئمة المسلمين الضامن لزواره الجنة وأسعد الله أيامكم يا محبين وموالين في يوم موله الشريف.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي