في ذكرى وفاتها: أم البنين أم البنات الناجحات
محمد علي جواد تقي
2023-12-26 08:21
لا نبرح نلوم التاريخ الاسلامي تغييبه نجوم لامعة في العلم والأخلاق والانسانية، لاسيما من النساء الفاضلات أمثال؛ أم البنين، فهو لم يكتب عن سيرة حياتها كما كتب عن نساء عشن في القصور، بين موائد اللهو والفجور، او من كان همها المال والمُلك والشهرة، مع إنه أقرّ بمواقف تاريخية عظيمة، ومشاهد انسانية مشرّفة لأبطال أفذاذ.
فمثلاً لا يحدثنا التاريخ عن دور أم البنين في فترة حكم أمير المؤمنين –السياسية- في الكوفة، وهل كانت معه؟ أم بقيت في المدينة، ولماذا؟ ثم لماذا لم يصطحبها الامام الحسين، عليه السلام، في قافلته صوب كربلاء؟ وأسألة عديدة عن سيرة حياتها في بيت أمير المؤمنين، وهذا الجدب التاريخي يشمل الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، والعقيلة زينب، وعديد النساء الصالحات ممن اصبحن فنارات للهداية والنجاح والفلاح لبنات حواء، ولعامة الناس على مر التاريخ والاجيال، مما يدعوني –أنا شخصياً- و ربما يشاركني الرأي القراء الكرام لأن ننحوا لتحليل هذه الشخصيات من الناحية النفسية، ثم محيطهن الاجتماعي، وخلفياتهنّ الثقافية والتربوية لصياغة صورة تقريبية لما لهنّ من التكامل الانساني، ونستفيد منه دروساً وعبراً لابناء جيلنا والاجيال القادمة.
تألق الفتاة من حصون البيت
"أين أنت من فاطمة بن حزام فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها"، هكذا أجاب عقيل أخاه أمير المؤمنين، عليه السلام، في طلبه بأن يختار له "امرأة ولدتها الفحولة من العرب أتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً"، ثم كان الزواج المبارك وفق الرؤية الثاقبة لما تكون عليه الأمور في قادم الأيام، إنما؛ سؤالنا:
هل كانت فاطمة؛ هذه الفتاة الصغيرة من بني كلاب، ممتهنة للفروسية، وذات سابقة في خوض ميادين القتال والضرب بالسيف؟
ومما أخفاه التاريخ علينا؛ عمر السيد فاطمة بنت حزام عند زواجها، ولا الفترة الزمنية التي تزوج بها امير المؤمنين، ولن نخوض في خلاف المؤرخين حول هذه التواريخ، بل نتمسك بشعاع من هذه السيرة العطرة، ونعرف أنها دخلت بيت أمير المؤمنين فتاة صغيرة بعد مغادرتها بيت أبيها؛ حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، فقد اصطحبت معها الآداب والأخلاق وسمو النفس، فكانت كما اراد أمير المؤمنين، عليه السلام.
هذا المنهج التربوي نقلته فاطمة (أم البنين) الى بيت الزوجية باجراءات عديدة اتخذتها، فكانت مثار تساؤل الإمام، عليه السلام، منها؛ إخفاء اسمها (فاطمة)، واستبداله بـ "أم البنين"، مراعاة لمشاعر الحسنين، والعقيلة زينب وأم كلثوم، عليهم السلام، ثم التذكّر دائماً بأنها ليست في دار لأناس عاديين حتى تتعامل بما يحلو لها، وبما تملي عليها رغباتها الشخصية كزوجة شابّة لصاحب الدار، إنما وطّنت نفسها على الخدمة لأهل هذا البيت النبوي، وهذا انعكس سريعاً على تربيتها لأولادها الأربع فيما بعد، وفي مقدمتهم؛ العباس، عليه السلام، إذ لم ينطق مرة واحدة في حياته بلفط الأخوة مع الحسن والحسين، عليهما السلام، بل بكلمة "سيدي"، وهي الأمانة التي التزم بها أبو الفضل حتى الرمق الأخير من حياته وهو في حضن أخيه الامام الحسين، عليه السلام، في معركة الطف.
فاذا نتوقع من فاطمة الكلابية أن تربي فرساناً شجعاناً يذودون عن الدين والولاية، هل ستنجح هذه الفتاة في هذا وهي تحلم لنفسها بالفروسية والظهور الصادم في المجتمع، وتقمّص الشجاعة للتطاول على الرجال في ميادين عملهم؟!
في مقالات سابقة أشرنا الى حقيقة أقرها علماء الاجتماعي بأن عباقرة العلم والمعرفة والقيادة في التاريخ تخرجوا من حجر أمهات عظيمات النفس والقلب، والتفكير، مؤكدين دور التربية الأسرية في بزوغ تلكم الشخصيات المؤثرة في حياة البشرية.
ولم يذكر التاريخ امرأة خرجت من بيتها الى سوح المعارك، او تنافست على المال والسلطة مع الملوك والأمراء، أو أي شأن آخر خارج نطاق أنوثتها وفطرتها الإلهية، ثم نجت من الخزي، والعار، والفشل الذي يدفع ثمنه الآلاف من الناس بدمائهم وبانحراف فكرهم وعقيدتهم، بينما أم البنين، عليها السلام، كانت "ربة بيت"، فتحولت الى مدرسة للأجيال، ومثال المرأة الناجحة ليس فقط الحياة الدنيا، بل و مرضية، وذات شأن وجاه عظيمين عند الله –تعالى- وهذا هو الفوز المبين.
بيت بمواصفات سماوية
ما نقرأه في القرآن الكريم، وفي سيرة المعصومين، عليهم السلام، عن بيت الزوجية، لا يعني بأي حال من الاحوال العيش في المثاليات والصور الذهنية البعيدة عن واقع الحياة، إنما العكس تماماً؛ مواكبة هذا الكيان العظيم لتطورات الحياة، بل والإسهام في مسيرة التطور بشكل مباشر بما يغذيه من قيم ومفاهيم تقوّم هذه المسيرة وتجعل من التطور العلمي والاجتماعي بشكل يخدم الانسانية، ولا يلحق بها أي ضرر في الحال الحاضر وفي المستقبل.
وهذا ما أدركته السيدة أم البنين بذكائها الحادّ في بيت الوحي، وبيت علوم الأولين والآخرين، فهي اقترنت برجل علّمه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، ألف، من كل باب يفتح له ألف باب، فهي لم تشكو الفقر والمهانة أمام سائر نساء المدينة آنذاك، لأنها تطبق القانون الإلهي في الحياة، كما يقول المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في كتابه: "السيدة أم البنين"، بأن "مانشاهده اليوم من تأخر المرأة، سواء بإيقاعها في الفساد كما في الغرب، او بحصرها في بيتها كما في بعض بلاد اللاسلام، فهو نتيجة عدم جريان القانون الالهي عليها، إما لاسباب نفسية تعود للمرأة، او بسبب الرجل، او بسبب الانظمة الحاكمة او الاستعمار".
القانون الإلهي الذي تهفو اليه النفس البشرية يمكّن المرأة من السير جنباً الى جنب الرجل في الحياة، لا أن تكون خلفه، مع فارق الأدوار فقط، فاذا الرجل خارج البيت يتقن العمل، والقضاء، والقتال، وقيادة الأمة، فان نجاحه في كل هذه الميادين مرهونٌ باتقان المرأة لدورها التربوي في تخريج رجال صالحين، ملمّين بأكثر ما يكون من المؤهلات والخصال لأن يكونوا مقاتلين مضحين، وبُناة مخلصين، ورجال أوفياء في مسيرة الإصلاح والتغيير السياسي والاجتماعي.
ولذا عندما نستذكر وفاء أبي الفضل العباس لأخيه الحسين، نستذكر فوراً وفاء أمه لأمير المؤمنين، وما عهد اليها من الاسرار وتفاصيل ما سيكون في قادم الأيام، لتعرف مكانتها ودورها في تلك البرهة الزمنية الاستثنائية، فحرصت على أن تكون، ليس فقط أماً نموذجية للعباس وإخوته، وإنما عضداً للقيادة الرسالية المتمثلة آنذاك بالامام الحسين، وأن توظف كل عواطفها ومشاعرها وكيانها الأنثوي لدعم هذه المسيرة النهضوية والإصلاحية الخالدة، وتجسّد هذا في موقفها التاريخي المشرّف والنادر مع الشاعر بشر بن حذلم الذي نعى شهداء الطف في المدينة بتوصية من الامام السجاد، عندما أصرت على تقصّي خبر الامام الحسين قبل خبر أولادها الأربعة، وبهذا ارتقت وسمت مع الخالدين العظام الى الأبد.