الحكومة الإسلامية في عهد الرسول (ص)
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2023-02-19 05:24
نذكر هنا مقتطفاً من كيفية حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، حيث إنهما أسوة، حتى نعرف الأسس التي يجب أن يبتنى الحكم الإسلامي عليها، والتي تبنى الحركة عليها قبل الوصول إلى الحكم.
سعة حكومة الرسول (ص)
فقد حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رقعة من الأرض تشتمل على أكثر من خمس دول ـ في خريطة عالم اليوم ـ فقد حكم (صلى الله عليه وآله) الحجاز واليمن الجنوبية واليمن الشمالية والبحرين وأراضي الكويت حيث كانت مسكناً للقبائل، وبعض الخليج، وقد عمل (صلى الله عليه وآله) أمرين إبان حكومته:
إسقاط الحواجز الجغرافية
الأمر الأول: أنه (صلى الله عليه وآله) أسقط الحواجز الجغرافية بين تلك البلاد، فإن الحواجز الجغرافية كما هي موجودة في هذا اليوم بين الدول، كذلك كانت موجودة في ذلك اليوم بين القبائل ونحوها، كما هو معروف في التاريخ، فصارت البلاد بفضله (صلى الله عليه وآله) بلداً واحداً يسافر المسافر فيه من الطائف إلى مكة إلى المدينة إلى غيرها بدون حاجز أو مانع.
إسقاط الحواجز النفسية
الثاني: أنه (صلى الله عليه وآله) أسقط الحواجز النفسية فجعل الكل أخوة، بينما لم يكن العربي قبل ذلك أخاً للعربي، فكيف بأن يكون أخاً للفارسي والهندي و.. فالرسول (صلى الله عليه وآله) جعل أبا ذر العربي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي أخوة، كما جعل صفية (اليهودية الأصل) وماريا (المسيحية الأصل)، وسودة (المشركة الأصل) أخوات.
الرسول (ص) لم يتغير
فقد جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة مُطارَداً مهاجراً فقيراً لا يملك شيئاً، ولما وصل هناك بنى مسجده، وبنى حول مسجده غرفاً لزوجاته ولأصحابه، وكان يسكن في تلك الغرف المبنية من الطين واللبن، وكانت الغرف صغيرة بحيث لا يتمكن أكثر من عشرة من الواقفين المتلاصقين أن يقفوا في الحجرة وأمامهم جنازة، كما يدل على ذلك ما ورد من أنه بعد ما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضعت جنازته في حجرته وجاء المسلمون عشرةً عشرة يصلون على النبي (صلى الله عليه وآله) فكانت الغرفة لا تسع لأكثر من عشرة أشخاص واقفين متلاصقين وأمامهم جنازة الرسول (صلى الله عليه وآله).
ثم تطورت أحواله (صلى الله عليه وآله) بعد ورود المدينة فصار رئيس دولة، وصار المال يجبى إليه من تلك الدولة الشاسعة، ومع ذلك لم تتغير غرفته لتصبح داراً ضخمة، ولا أثاثه البسيط إلى أثاث راقٍ.
الرسول (ص) يبقى وفياً
كما أنه (صلى الله عليه وآله) بقي وفياً لأصحابه وفيهم المؤمن والمنافق من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فكان أصحابه عند وفاته هم أصحابه الذين التفّوا حوله في مكة المكرمة.
كما أنه هكذا كان علي (عليه الصلاة والسلام) فلم يبن لنفسه داراً في الكوفة، ولم يهيئ أثاثاً جديداً، كما سيأتي الإلماع إلى ذلك في سيرته، ولم يدّخر صفراء ولا بيضاء، وإنما استشهد في المسجد، ومات في نفس المكان الذي سكنه حيث جاء من المدينة، وحوله نفس أصحابه السابقين.
ولنتحدث هنا حول مقتطفات من حياة هذين القائدين العظيمين اللذين يجب أن تتخذهما الحركة العالمية الإسلامية أسوة للوصول إلى حكومة ألف مليون مسلم، بإذن الله تعالى. ثم بعد الوصول إلى الحكم يجب أن يكون الحكام المسلمون على هذه الوتيرة.
شمة من أحوال رسول الله (ص)
كان (صلى الله عليه وآله) دائم الحركة والتنقل في نواحي المدينة، يزور القبائل القاطنة، ويجتمع بالناس ويرشدهم، ويصلي بهم في مساجدهم وفي مسجده، ويعود مرضاهم، ويسير وراء جنائزهم، ويندب من أصحابه مَن يريد لما يريد من مهام الدولة والأمة.
ومن أمثلة ذلك، أنه أرسل واحداً من أصحابه ليكون في (قبا) أثناء غياب جيش المسلمين في بدر، وبعث رجلاً آخر إلى بني عمرو بن عوف القاطنين في المدينة ليقوم بنفس المهمة، وأرسل رجلين في مهمة إلى حوران.
وقد جعل (صلى الله عليه وآله) للنساء إمام جماعة امرأة فاضلة تسمى (أم ورقة) تصلي بهن، فمن شاءت من النساء جاءت إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) للصلاة، ومن شاءت منهن ذهبت إلى بيت أم ورقة للصلاة معها، كما بنى (صلى الله عليه وآله) في المدينة ما يقارب خمسين مسجداً، وقد اهتم بعمران المدينة بعد أن أمِنَت تماماً، فحث الناس على البناء والإنشاء، ودعا البدو المحيطين بالمدينة إلى الهجرة نحو المدينة والاستقرار وترك البداوة، وقد قدم كثير من الأعراب، ونزلوا المدينة وأصبحوا أعضاءً في أمة الإسلام، وصارت لهم مراكز المهاجرين، وحالفوا من شاؤوا من قبائل الأنصار، والكثير منهم دخلوا في حلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم.
اتساع المدينة
فاتسع نطاق المدينة وتزايد عدد سكانها، وأخذ الناس يعمرون الأراضي الواسعة في السهل بدون رادع ولا مانع ولا ضريبة العمارة والزراعة، وقد ذكر المؤرخون أن أعداد المسلمين من سكان المدينة زادت بقدر الثلث قبل الخندق، أما بعد الخندق فقد تضاعف العدد. وقد كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) صحيفة بين المهاجرين والأنصار تجعل أهل كل حي من الأنصار مسؤولين عن حيهم، وعن أمن المدينة من ناحيتهم، فكانت حكومة شعبية زمامها بيد الشعب نفسه وكان استقرار أي مهاجر إلى المدينة يتم على ذلك الأساس، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يوزع على المسلمين كلما حصل من الصدقة والزكاة والخمس والتبرع والغنيمة.
صُفة المسجد
كما أنه صنع صفة كبيرة في مسجده ينزل فيها الذين لا مأوى لهم ولا مسكن، وقد وصل عددهم كما يذكر بعض التواريخ إلى أربعمائة، وكان هؤلاء من جيش الرسول (صلى الله عليه وآله) في وقت الحرب، كما أنهم كانوا من المصطفين خلفه في وقت الصلاة، وكانوا يجلسون تحت منبره في وقت الخطابة، وكانوا ينفّذون أوامره إلى المسلمين الآخرين في أوقات الحاجة، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) تدريجياً يزوجهم بالنساء المسلمات، ويحصل لهم المسكن والمكسب وما أشبه، وقد شعر الناس بنعمة الإسلام، فاستقاموا على الطريقة.
الرخاء يسود عاصمة الرسول (ص)
وساد المدينة رخاء لم تعرفه أية جهة من جهات جزيرة العرب قبل ذلك، ولم ير العالم قبل ذلك حكومة كهذه الحكومة، فقد كانت حكومة الأكاسرة والقياصرة وما أشبه حكومات بعيدة عن الناس، مترفعة عن الشعب، غير مختلطة بهم، وكانوا يأخذون الضرائب الباهظة منهم، ويستبدون بالحكم والأموال.. وكان الفقر والمرض والجهل والفوضى سائد في الشعوب.
الحكومة المثالية
أما حكومة المدينة وحواليها فقد كانت حكومة مثالية، وعلى الرغم من أن المؤرخين أحصوا ما كان يقع في أيام الرسول (صلى الله عليه وآله) من الأحداث إلا أننا لم نسمع عن جرائم أو منازعات إلا نادراً، فإن المثال النبوي (صلى الله عليه وآله) كان حاضراً في أذهان الناس، وكان الناس يقتدون به، فلا شرطة، ولا قوة تنفيذية، ولا ضرائب، ولا مكوس، ولا ربا، ولا احتكار، ولا استغلال، ولا ضرائب عامة إلا الخمس والزكاة والجزية والخراج، فكانت الأمور تسير على أحسن حال، ولذا لم نجد في أي تاريخ أن المدينة اشتكت من الفوضى، أو من قلة النظام.
النظام الإسلامي يساوي بين الجميع
والشرع الإسلامي يفيد الجميع، ويساوي بين الجميع، ويعطي الأمة القوة الحقيقية، والاطمئنان والاستقرار والثبات والتقدم، وقد كان إيمان الناس بالمثل الإسلامية العليا، والتي تتمثل في الرسول (صلى الله عليه وآله) يسود كل شيء، ومن الواضح أن في ظروف كهذه تتضاءل المشاكل الفردية والنزاعات الشخصية، ويغلب على الناس روح الجماعة والاتجاه إلى البذل والعطاء، وتحاشي الوقوع في المعاصي والجرائم والآثام، كالسرقة والغصب والزنا والقتل واللواط والجرح وما أشبه من الجرائم، فقد ظهرت على الناس الأخلاق الجميلة، والتي لم يعرفها الناس لا في جزيرة العرب، ولا في غير جزيرة العرب إلى ذلك الحين، فكان الناس يؤثر بعضهم بعضاً في البذل والعطاء في سبيل الله سبحانه وتعالى، والرجل يؤثر صاحبه على نفسه بالمال، وفي قصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً)(1) مثل رائع لذلك.
المسلمون يؤثرون على أنفسهم
وكان الرجل يسأل عن جاره وأهله قبل أن يسأل عن أهله هو، وأصحاب المال يخرجون المعونة والطعام لأهل الحاجة دون مسألة.
ولم يحتج الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى جبر أو إكراه، ولم يصادر مال أحد، ولا قتل إنساناً قتلاً اعتباطياً، وقد أخذت تتردد أخبار الجماعة الجديدة والتي عبر عنها القرآن الحكيم بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ)(2) في أنحاء جزيرة العرب، وفي غيرها من البلاد المحيطة ذات الحضارة العريقة كما تدعي.
إطلالة الزمان الجديد
وقد شعر الجميع بأن زماناً جديداً أطل عليهم، فتهافتت القلوب إلى الإسلام، وأخذ الناس يلتفون حوله بالرضا والطاعة، ولذا أخذت القبائل والبلاد والجماعات المحاربة للإسلام تتساقط أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبب شعبية الحاكم وحرية الشعب الممتزجة بالإيمان والفضيلة والتقوى والتعاون وحب الخير كما قال تعالى: (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا)(3).
نبذة من سيرة الرسول (ص)
وإليك نبذة من سيرته (صلى الله عليه وآله) الطاهرة مما يجب أن تجعلها الحركة الإسلامية ـ التي تريد أن تحكم البلاد وتنقذ العباد ـ أسوة وتتخذها في كل أمورها سواء قبل الوصول إلى الحكم أو بعده.
إنه (صلى الله عليه وآله) كان شديد التواضع، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويسير في خدمة أهله سيرةً جميلة، يحب الفقراء والمساكين، ويجلس معهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ولا يحقر فقيراً أوقعه الفقر، ولا يعظّم غنياً لغناه، يقبل المعذرة، ولايقابل أحداً بما يكره، ويمشي مع الأرملة، ومع العبيد، لا يهاب الملوك والأمراء، ولايستحقر الضعفاء، يمشي خلف أصحابه، ويقول: (خلوا ظهري للملائكة الروحانية) وأحياناً يمشي في وسطهم.
تواضع الرسول (ص)
كان (صلى الله عليه وآله) يركب البعير والفرس والبغلة، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع، يبدأ من يلقاه بالسلام، ويطيل الصلاة إذا صلى وحده، أما إذا صلى جماعة فيخفف ملاحظة للمأمومين، ويقصر الخطب في الجمعة وغيرها لئلا يملّوا، ويألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ويمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان يقول في الشدائد التي ترد عليه من الجاهليين: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)(4) فلا يدعو عليهم، ولما كسرت رباعيته، وشجّ وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه وقالوا: (لو دعوت عليهم يا رسول الله)! فقال (صلى الله عليه وآله): (إني لم أبعث لعاناً، ولكني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون)(5). فقال له أصحابه: يا رسول الله لقد وطئ ظهرك وأُدمي وجهك، وكُسرت سنك، فأبيت أن تقول إلا خيراً، فقلت: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
وهكذا كان (صلى الله عليه وآله) فإنه لم يقتصر على السكوت عنهم، بل عفا عنهم وأشفق عليهم ورحمهم ودعا لهم، ثم اعتذر عنهم بقوله (صلى الله عليه وآله): (فإنهم لا يعلمون) كالأب الشفيق الرؤوف.
الرسول (ص) الأب الشفيق
وروى بعض أصحابه أنه كان واضعاً عليه ذات مرة بُرْد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا مال أبيك، فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده، وهل أقاصك يا أعرابي ما فعلت بي؟
قال الأعرابي: لا.
قال (صلى الله عليه وآله): ولم؟
قال: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة، فضحك النبي (صلى الله عليه وآله) ثم أمر أن يحمل له على بعير الشعير وعلى الآخر التمر(6).
الرسول (ص) يقابل الأذى بالرحمة
ولقد آذاه قومه بكل أنواع الأذى من البصق في وجهه، وإفراغ أحشاء الشاة على رأسه، ووطئ ظهره، وجعل الأشواك في طريقه، ومصادرة أمواله، وتهجيره، والمؤامرة عليه، وقتل عمه وابنته وحفيدته وأصحابه، والاستهزاء به، وقالوا: ساحر ومسحور ومجنون وشاعر وكاهن، مسه بعض آلهتنا بسوء، إلى غير ذلك من الأذى، حتى قال (صلى الله عليه وآله): (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)(7)، فصبر (صلى الله عليه وآله) على تلك الشدائد الصعبة إلى أن أظهره الله عليهم، وحكَّمه فيهم، وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم، وإبادة جماعتهم، ومصادرة أموالهم. فما زاد على أن صفح وعفا، وقال لهم: ما تقولون إني فاعل بكم؟
قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم.
فقال (صلى الله عليه وآله): أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا (صلى الله عليه وآله) عن جميعهم حتى عن أشد الأعداء كأبي سفيان وهند.
وقد أباح دم جماعة منهم وأمر بقتلهم، حيث إنهم كانوا جرثومة الفساد وعين الانحراف، لكن بعد ذلك عفا عنهم كعكرمة بن أبي جهل، وكان يشبه أباه في إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعداوته، والإنفاق على محاربته، وصفوان بن أمية بن خلف وكان شديداً على النبي (صلى الله عليه وآله) وكان يموّن جيوش المشركين بمختلف التموين، مما يصح أن يقال له في مثل هذا اليوم بأنه كان وزير دفاع الكفار.
الرسول (ص) يعفو عن قاتل ابنته وعمه
(هبّار بن الأسود) الذي روّع زينب ابنته، فألقت ما في بطنها، وماتت بعد المرض، فأباح رسول الله (صلى الله عليه وآله) دمه، ثم إنه لما عرف أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يعفو جاء إليه، واعتذر من سوء فعله، وقال: كنا يا نبي الله على شرك فهدانا الله تعالى بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى الإسلام والإسلام يجبُّ ما قبله).
وكذلك عفا عن (وحشي) قاتل عمه حمزة (عليه السلام)، فإنه روي أنه أسلم، وجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن أمن جانبه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أوحشي؟ قال: نعم، قال أخبرني كيف قتلت عمي؟ فأخبره، فبكى (صلى الله عليه وآله) ثم عفا عنه.
الرسول (ص) يعفو عمن هجاه
وكعبد الله بن الزبعرى، وكان يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويسيء القول فيه وفي المسلمين، فلما فتحت مكة هرب، ثم لما عرف بأنه (صلى الله عليه وآله) رسول رحمة وإنسانية رجع إليه (صلى الله عليه وآله) واعتذر، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عذره، فأسلم وقال هذا الشعر:
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
إني لمعتذر إليـك من الـــذي
زللــي، فإنــك راحــم مرحـوم
فاغفر فدا لك والدي كلاهمـا
حــق وأنــك في العبــاد جسيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق
وكذلك عفا (صلى الله عليه وآله) عن هند مع جرائمها الكثيرة.
الرسول (ص) يتحنن لحنين امرأة كافرة
وحتى إذا كان قد فات الأوان وقتل المجرم، كان (صلى الله عليه وآله) يتحنن إذا عوتب، فإنه لما قُتل النضر بن حرث ـ وهو من المجاهرين بمعاداة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ عند رجوعه من بدر، قتله علي (عليه الصلاة والسلام) بأمره (صلى الله عليه وآله)، أنشدت ابنته أو أخته أبيات تحسر وتعطف، والتي منها:
في قومها والفحل فحل معرق
أمحمد ولا أنت نجــــل نجيبــــة
مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
ما كان ضرك لو مننـــت وربما
بأعز ما يغلو لـدى وينفق
لو كنت قابـل فديــــة فلنأتيـن
وأحقهــم إن كـــان عتـق يعتق
فالنضر أقرب من أصبت وسيلة
فلما سمع النبي (صلى الله عليه وآله) الأشعار، قال: لو سمعت هذا من قبل أن أقتله ما قتلته.
الرسول (ص) يعفو عن قاتله
وأغرب من كل ذلك عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة، حيث طلبها النبي (صلى الله عليه وآله) واعترفت، فقد قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اُتى باليهودية التي سمته في الشاة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لها: ما حملك على ما صنعتي؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. فعفا عنها الرسول (صلى الله عليه وآله) وتركها وشأنها، مع العلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان من سبب وفاته سم هذه المرأة له.
الرسول (ص) والسخاء
وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: (أنا أديب الله، وعلي أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شيء أبغض إلى الله عزوجل من البخل وسوء الخلق، وأنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)(8).
وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق كل شيء له حتى يبقى هو وأهله جائعين.
وقد روى الإمام الصادق (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقبل إلى (الجعرانة)، فقسم فيها الأموال ـ أي أموال حنين وكانت كثيرة جداً ـ فجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتى ألجئوه إلى شجرة، فأخذ برده وخدش ظهره من آثار الشجرة، حتى أجلوه عنها وهم يسألونه؟ فقال: أيها الناس ردوا عليّ بردي، والله لو كان عندي نعماً لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً.
وقد قال (صلى الله عليه وآله) في مرض موته للعباس: يا عم رسول الله: تقبل وصيتي، وتنجز عدتي، وتقضي ديني؟ فقال العباس: يا رسول الله عمك شيخ كبير، ذو عيال كثير، وأنت تباري الريح سخاءً وكرماً، وعليك وعد لا ينهض به عمك.
أقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ذكر المؤرخون، كان إذا طُلب منه شيء فإذا كان عنده أعطاه، وإذا لم يكن عنده وعد، ولما لم يقبل العباس وصية الرسول (عليه السلام) هذه عرضها على علي (عليه الصلاة والسلام) فقبلها وعمل بها.
وقد قال جابر بن عبد الله: ما سُئِل رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً قط، فقال: لا(9).
الرسول (ص) يعد ما لا يقدر عليه في الحال
وقد روي كثيراً أنه كان يأتيه (صلى الله عليه وآله) الرجل فيقول له: أعطني كذا، فيقول (صلى الله عليه وآله) له: ليس عندي، ولكن إذا جاءنا شيء قضيناه.
وطلب منه رجل شيئاً، ولم يكن عنده، فوعده وكان أحد الأصحاب حاضراً فقال: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه!
فقال الرجل السائل: يا رسول الله (انفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً).
فتبسم النبي (صلى الله عليه وآله) وعرف السرور في وجهه.
وكان من صفاته (صلى الله عليه وآله) أنه لا يقطب وجهه، وإذا قال إنسان شيئاً يكرهه لم يجابهه بذلك، بل كان يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا ويقولون كذا؟ فينهي بدون أن يسمي فاعل الأمر.
من أخلاقيات الرسول (ص)
وقد كان (صلى الله عليه وآله) أجود الناس كفاً، وأكثر الناس صبراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وكان يؤلف الناس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، وكان يقول (صلى الله عليه وآله): (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)(10)، ويتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه، من جالسه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول(11).
وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: (ردوا السائل بشيء قليل، أو بقول جميل).
وكان يقول: (خير الولاة من جمع المختلف، وشرّ الولاة من فرّق المؤتلف).
لا ضريبة على الإرث
وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: (من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً فعلي وإليّ)(12).
وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعاً، ويكافئ عليها، يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، وقد قال سبحانه فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ)(13). وقال تعالى: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)(14).
أخلاق رسول الله (ص) حتى مع اليهود
وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: إن يهودياً كان له على رسول الله دنانير، فتقاضاه، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله): يا يهودي ما عندي، فقال: إني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فحبس رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى صلى النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهددونه ويتوعدونه، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم، فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟ فقال: لم يبعثني ربي عزوجل لكي أظلم معاهداً ولا غيره. فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله(15).
النبي (ص) دائم الحركة
أقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما كان كثير الحركة، ويتفقد الأحياء، فكان (صلى الله عليه وآله) يجعل خلفاً له في صلاته في المسجد، كلما ذهب إلى المكان، فكان هذه القضية وقعت، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك الأحياء التي كان يتفقدها، ولا مانع عند النبي (صلى الله عليه وآله) من أن يساير يهودياً كمثل هذه المسايرة حتى يظهر له أخلاق الإسلام لا له فحسب، بل لأهل العالم أجمع، ويسبب بذلك انجذاب الناس إليه.
وقد روى بعض خدمه أنه قال: خدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، وما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟، ولا لشيء تركته: لم تركته؟.
وكان من عادته (صلى الله عليه وآله) أنه يجيب الناس الذين ينادونه بأحسن جواب، فكان إذا ناداه أحد قال له: (لبيك).
وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله (صلى الله عليه وآله) قط منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم، ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة من دعاه، ويعود المرضى حتى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ولا يترفع على أحد حتى على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس(16).
الرسول (ص) يقضي الحوائج
ولا يأتيه (صلى الله عليه وآله) أحد إلا قام معه في حاجته، ولو كانت أمَة، ولا يجلس متكئاً، ولا يثبت بصره في وجه أحد، ويقبل الهدية ولو كانت جرعة لبن.
وروى بعض أصحابه أنه قال: كان (صلى الله عليه وآله) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(17)، وكان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه، فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد(18).
الرسول (ص) يخدم كأحد أصحابه
وكان (صلى الله عليه وآله) يتعاون مع أصحابه، كأنه أحدهم لا يترفع عليهم في قليل ولا كثير. فقد كان (صلى الله عليه وآله) في سفر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال (صلى الله عليه وآله): وعليّ جمع الحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزاً بين أصحابه، ثم قام فجمع الحطب.
الرسول (ص) لا يستخدم أحداً
وكان (صلى الله عليه وآله) في سفره فنزل إلى الصلاة، ثم كرّ راجعاً، فقيل: يا رسول الله أين تريد؟ قال: أعقل ناقتي، قالوا: نحن نعقلها، قال: لا يستعين أحدكم بالناس، ولو في قضمة من سواك.
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا استمع إلى أحد يدير رأسه حتى يكون الرجل هو الذي يدير رأسه.
وكان إذا أخذ بيده أحد لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الإنسان يده منه (صلى الله عليه وآله).
وما قعد إلى رجل قط فقام حتى يقوم ذلك الرجل، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام حتى الأطفال والنساء، ويبدأ أصحابه بالمصافحة.
النبي (ص) يبسط رداءه لضيفه
كان (صلى الله عليه وآله) يكرم من دخل عليه، وربما بسط إليه ثوبه، ويؤثره بفراشه الذي كانت تحته، كان (صلى الله عليه وآله) يكني أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم، تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه. وقد روى سلمان (رضوان الله عليه) قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو متكئ على وسادة، فألقاها إلي، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقى له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له.
وإذا كان يصلي وجلس إليه أحد خفف صلاته حتى يفرغ منها مسرعاً ليسأله عن حاجته، فإذا فرغ عن جواب السائل عاد إلى صلاته. وكان أكثرهم تبسماً، وأطيبهم نفساً.
الرسول (ص) مع الخدم
وكان خدم أهل المدينة يأتون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا صلى الغداة بأوانيهم وفيها المياه ليغمس يده فيها فيتبركون بتلك المياه، فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها، وربما كان ذلك في الغداة الباردة فلا يأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يغمس يده في تلك الأواني.
الصبي يبول في حجر الرسول (ص) فلا يغضب
وكان (صلى الله عليه وآله) يؤتى إليه بالصبي الصغير فيدعو له بالبركة، أو يسمّيه، أو يأذن في أذنه، فيأخذه ويضعه في حجره تكرمةً لأهله، وربما بال الصبي عليه، فيصيح على الصبي بعض من كان حاضراً. فيقول (صلى الله عليه وآله): لا تزرموا بالصبي، فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته أو أذانه، فيبلغ بذلك سرور أهله إلى ما شاء الله، حيث يرون أنه لا يتأذى ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه(19).
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا جلس إليه أحد تزحزح له شيئاً، وذات مرة قال له رجل: يا رسول الله في المكان سعة، فقال: نعم، لكن إن من حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس أن يتزحزح له.
النبي (ص) يجلب رضا الناس
وكان (صلى الله عليه وآله) لا يترك أحداً حتى يرضيه، وإذا غضب عليه إنسان ثم رضي عنه كان يطلب منه: أن يعلن لأصحابه أنه رضي عنه.
وقد ورد: أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً، فأعطاه ثم قال له: أحسنت إليك؟
قال الأعرابي: لا ولا أجملت.
فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم (صلى الله عليه وآله) أن كفّوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه وزاده شيئاً ثم قال (صلى الله عليه وآله): أحسنت إليك؟
قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك؟
قال: نعم. فلما كان الغداة أو العشيّ جاء فقال (صلى الله عليه وآله): إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، إنه رضي أليس كذلك؟ قال الأعرابي: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
ثم قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: (إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها، فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قُمام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).
الرسول (ص) يأمر الناس بالإحسان
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا أساء أحد الأدب رده رداً جميلاً، وقد روي عن العلاء بن الحضرمي، أنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله): إن لي أهل بيت أحسن إليهم فيسيئون وأصِلهم فيقطعون؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ)(20)، فقال العلاء: إني قلت شعراً هو أحسن من هذا، قال (صلى الله عليه وآله) وما قلت؟ فأنشده شعره... فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً، وإن شعرك لحسن، وإن كتاب الله أحسن)(21).
النبي (ص) يجعل من العدو صديقاً
وفي رواية أن أعرابياً من بني سليم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما وقف بإزائه ناداه: يا محمد يا محمد، أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة هو أكذب منك، إنك الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزّى لولا إني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين.
فوثب إليه أحد الصحابة ليبطش به، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اجلس فقد كاد الحليم أن يكون نبياً، ثم التفت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الأعرابي، فقال له: يا أخا بني سليم هكذا تفعل العرب؟ يتهجمون علينا في مجالسنا، يجابهوننا بالكلام الغليظ؟ يا أعرابي والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضرَّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى(22).
وفي الخبر أنه أسلم الرجل وصار داعياً إلى الإسلام في قبيلته فكثر فيهم المسلمون حتى وصلوا إلى خمسمائة إنسان، فكان ذلك ببركة أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحلمه وعفوه وصفحه.
الرسول (ص) لا يستمع إلى الوشاة
وكان (صلى الله عليه وآله) يكره أن يقال عن إنسان سوءً، وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا يبلغني أحد منكم عن أحد أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر)(23).
وقد روت بعض نسائه قالت: دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: السام عليك، ثم دخل يهودي آخر وقال مثل ذلك: السام (بمعنى الموت) فغضبت الزوجة وقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا أخوة القردة والخنازير. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا فلانة إن الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه، ولم يرفع عن شيء إلا شانه)(24).
عطف الرسول (ص) على الحيوانات
وكان (صلى الله عليه وآله) عطفه حتى على الحيوان، فقد ورد في حديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع الإناء حتى يتوضأ، إذ لاذ به هر في البيت، فعرف النبي (صلى الله عليه وآله) أنه عطشان، فأدنى إليه الإناء حتى شرب منه الهر، ثم توضأ (صلى الله عليه وآله) بما فضل.
وقال (صلى الله عليه وآله): (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور)(25).
وذات مرة، كان (صلى الله عليه وآله) يأكل التمر ويضع النواة في كفه اليسرى، فمرت من هناك عنزة، فأشار إليها بأن تتقدم فتقدمت وأخذت تأكل من يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) النوى. ودخل ذات مرة بيتاً فرأى ديكاً ولا دجاجة له، فقال لصاحب البيت: (هلا اتخذت له أهلاً).
وكان (صلى الله عليه وآله) ذات مرة جالساً أو نائماً، فجاءت هرة ونامت على كُمه، فلما قام لم يرد إزعاج الهرة، فقطع القطعة من كمه التي كانت الهرة قد نامت عليها.
الرسول (ص) يكرم الوفود
وقد وفد وفدُ للنجاشي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة، فقام النبي (صلى الله عليه وآله) يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله): (إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين إني أحب أن أكافئهم).
ولما جاءت إليه أخته من الرضاعة واسمها شيماء، بسط لها رداءه وأجلسها عليه، وقال لها: إن أحببت أقمتِ عندي مكرمة محببة، أو زودتك ورجعت إلى قومك! فاختارت قومها فأعطاها شيئاً من المال، فرجعت مسرورة.
وذات مرة كان (صلى الله عليه وآله) جالساً إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه، فقام لها وبسط لها رداءه، فجلست عليه، فسأل بعض الصحابة من بعضهم من هذه؟ فقالوا: إنها أمه التي أرضعته(26). وروي أنه كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ردائه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع (صلى الله عليه وآله) بعض ردائه الآخر من الجانب الثاني لها فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأجلسه بين يديه.
وكان (صلى الله عليه وآله) من بره ووفائه يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب (مرضعته) بصلة وكسوة، وحتى أنها لما ماتت سأل: من بقي من قرابتها؟ وكان يريد أن يوصلها فقيل له: لا أحد من قرابتها.
وفاء بزوجته (ص)
كما أنه (صلى الله عليه وآله) كان يذكر خديجة (عليها السلام) بعد وفاتها، وكان يذبح الشاه فيهديها إلى أخلاّئها وفاءً لها، وقد قالت خديجة له (صلى الله عليه وآله) ذات يوم: أبشر يا رسول الله، فوالله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتكسي المعدم، وتقري الضيف، وتعين على النوائب.
مجلس الرسول (ص)
كان (صلى الله عليه وآله) لا يحب تكليف أحد، فلم يكن يريد أن يقوم له أصحابه إذا ورد المجلس.
كما أنه (صلى الله عليه وآله) كان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويقول: إنما أنا عبد أأكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد. وذات مرة قالت له امرأة بذّية، وهو يأكل جالساً على الحضيض: يا محمد والله أنك لتأكل أكل العبد، وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): أي عبد أعبد مني! (27).
تواضع الرسول (ص)
وقد قال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله): كان يحب الركوب على الحمار موكفاً، والأكل على الحضيض مع العبيد، ومناولة السائل بيديه، وكان يركب الحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرس، أو بغلة، أو حمار بدون تكلف(28). وكان (صلى الله عليه وآله) يوم بني قريضة على حمار موكف بحبل من ليف عليه أكاف من ليف.
وفي حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد حاجة فإذا بالفضل ابن العباس، قال فقال: احملوا هذا الغلام خلفي، ثم اعتنق رسول الله (صلى الله عليه وآله) الغلام بيده من خلفه، ثم قال: يا غلام خف الله تجده أمامك، يا غلام خف الله يكفك ما سواه.
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا جاء إلى بيته اشتغل في البيت، فكان في مهنة أهله يقطع اللحم ويجلس على الطعام محقراً، وكان يلطع أصابعه، ولم يتجشأ قط، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلف البعير ويعقله، ويعلف ناضحه، ويضع طهوره بالليل بيده، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، قد كان يقضي بالحق، ويحكم بالفصل، فيحبه أعداؤه وأصدقاؤه، وكان أميناً وفياً صادقاً، حتى كان يسميه قومه قبل نبوته: الأمين.
الرسول (ص) والأمانة
وروي أنه (صلى الله عليه وآله) لما أراد الهجرة خلّف علياً (عليه السلام) لقضاء ديونه، ورد الودائع التي كانت عنده، ولم يقل إنه يهرب من شرهم لأنهم يريدون قتله، فمالهم حلال، لأنهم كفار محاربون.
وكان (صلى الله عليه وآله) بعيد المدى، ولما اختلفت قريش عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر، حكموا بأن أول من يضعه الداخل عليهم، فإذا النبي (صلى الله عليه وآله) يدخل وكان ذلك قبل نبوته، فقالوا: هذا محمد الأمين قد رضينا به حكماً..
ولم تزل قريش نفسها تعترف له بالصدق والأمانة وكل فضيلة، حتى أن الأخنس لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمد (صلى الله عليه وآله) صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط. وسأل هرقل عنه (صلى الله عليه وآله) أبا سفيان، فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
الرسول (ص) يرعى الغنم
ومن وفائه: أن عمار (رضوان الله عليه) قال: كنت أرعى غنمي قبل الإسلام وكان محمد (صلى الله عليه وآله) يرعى أيضاً، فقلت: يا محمد هل لك في فخ فإني تركتها برق؟ قال: نعم فجئتها من الغد، وقد سبقني محمد (صلى الله عليه وآله) وهو قائم يذود غنمه عن الروضة، قال: إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك(29).
الرسول (ص) لين العريكة
وكان (صلى الله عليه وآله) لين العريكة يتحرى أفضل السبل للوصول إلى الصلح والهدف والسلام.
وفي قصة الحديبية دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال رسول قريش، وهو سهيل: أما الرحمان فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب (باسمك اللهم)، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه الصلاة والسلام): اكتب بسمك اللهم، ثم قال لعلي اكتب: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إني لرسول الله وإن كذبتموني، ثم أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفسه الكتاب ومحا كلمة رسول الله، ثم كتب علي (عليه الصلاة والسلام) محمد بن عبد الله مكانه(30). إلى غير هذا كثير مما يدل على شعبيته الواسعة، وأخلاقه الكبيرة، وتواضعه ووفائه وحكومته الرشيدة التي لم يعرف التاريخ قبله مثلها ولا بعده إلا في زمان علي (عليه الصلاة والسلام) مما يجب أن يتخذها الحكام أسوة، إذا كانوا يريدون الله والدار الآخرة.
لزوم التأسي بالنبي (ص)
وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): (فليتأس متأس بنبيه، وإلا فلا يأمننّ الهلكة)(31). نسأل الله أن يوفقنا لحركة إسلامية عالمية، تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم، بفضل الاقتداء بسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وما ذلك على الله بعزيز.