الامام موسى الكاظم (ع) والمناخ العقلي المضطرب
شبكة النبأ
2023-02-16 06:39
بقلم: الدكتور محمد حسين علي الصّغير
قال الامام موسي بن جعفر (عليه السلام): «ان ضوء الروح العقل، فاذا العبد عاقلا كان عالما بربه، واذا كان عالما بربه أبصر دينه» (1).
وهذا القول أطروحة فريدة يضعها الامام بين يدي العارفين، فالعقل عند الامام مدار الحجة على الانسان، وهو سبيل الاطراد العلمي بما يزنه من دقائق الأمور، وهو أيضا منار الهداية في الحياة، حتي اعتبره الامام عدلا لرسالة السماء وقيادة الأئمة فقال: «ان لله علي الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول» (2).
وبهذه الرؤية نجد اهتمام الامام بالعقل الانساني المجرد، وعدة من الأصول التي لا غني عنها في تيسير الحياة وضبط النفس، وهو يسلط الأضواء علي العقل في رصد منابع الخير كلها، فيقول:
«من أراد الغني بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع الى الله في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغني، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبدا» (3).
يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين تعقيبا:
«ولما كان المراد من العقل في هذه النصوص هو النضج المثمر والوجود الفاعل المؤثر ـ وليس ما يقابل الجنون الذي يعني فقدان السيطرة على الشعور المنضبط والاحساس المتزن ـ كان الانسان المجرد من المعرفة والمحروم من التعلم وان كمل عقله؛ محكوما بالنقص الذي لا ينكر ولا يستر، بسبب جهله المخل بدوره الانساني النافع لنفسه ومجتمعه، ولذلك أضاف الامام الى ما تقدم منه في تكريم العقل: التنبيه على أهمية العلم وشأنه الكبير وأثره العظيم في بناء الأفراد والمجتمعات» (4).
ولما كان العقل المتكامل منحة الهية من وجه، وتجربة ذاتية من وجه آخر، وجدنا القلة النادرة في الاجتماع البشري هي التي تتمتع به ادراكا ومعرفة وفلسفة. وحينما تطورت الحياة العلمية في عصر الامام بفضل الجهود المضنية للعلماء والباحثين والمترجمين، فقد وجدنا في ضوء ذلك تطورا سريعا للحياة العقلية، وكان هذا التطور مصاحبا لعلم الاحتجاج في أبرز فروعه، وللفن الجدلي في مظاهره، ولازدهار حياة المقالات والفرق والاتجاهات. وليس غريبا أن نجد الحياة العقلية قد نشأت في ظل المناخ السياسي، بيد أننا نجد للامام موسي بن جعفر (عليه السلام) وثيقة تأريخية في العقل، كانت وليدة الشعور بالمسؤولية، ولم تتأثر بأية عوامل سياسية اطلاقا، وهي عبارة عن رسالة مهذبة نابضة وجهها الامام الى تلميذه العظيم هشام بن الحكم، ولا أعلم رسالة في العقل قد مهدت للحياة العقلية المتطورة بهذا المستوي الفكري كهذه الرسالة التي ربط بها الامام بين ذوي العقول ومنزلتهم وما بين ما أفاض به القرآن الكريم من الاعتداد الرفيع بهم، وثمة ظاهرة أخري يشير لها الامام فيما حققه أصحاب العقل السليم من المعرفة بأسرار الهداية والكون بإفاضة من الله تعالى عليهم.
وقد أكد الامام أن الله عزوجل قد جعل العقل حجة يستدل بها على عظيم خلقه في السماوات والأرض، وما فيهما من الكائنات المرئية وغير المرئية، والعوامل الحسية والمتصورة المعلومة والمجهولة والمتخيلة، وما في ذلك من عجائب صنع الله في الخلق والايجاد والتصريف والادارة والابداع، مما جعله الله برهانا على معرفته الخارقة، ودليلا على عظيم قدرته التي لا تدرك (5).
وبالإمكان الاشارة الى نهج هاديء لنقاط الارتكاز في الرسالة:
1 ـ أبان الامام (عليه السلام) أن الله خوف الذين لا يعقلون من عقابه، وقرن العلم بالعقل، فقال تعالى:
(وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون) (6).
ثم ذم الله الذين لا يعقلون في آيات عديدة من قرآنه المجيد، عرض الامام لها، وختم ذلك بقوله تعالى:
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتي ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) (7).
ومدح الله تعالى القلة لأنهم العقلاء حقا، فقال عزوجل:
(وقليل من عبادي الشكور) (8).
وقال تعالى: (وقليل ما هم) (9).
وقال تعالى: (وما آمن معه الا قليل) (10).
وأشار الامام أن القرآن ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلاهم بأحسن الحلية، فقال: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا أولوا الألباب) (11).
وتحدث الامام عما مدح الله به لقمان بايتا الحكمة، ويعني بذلك الفهم والعقل، وما أوصي به لقمان ولده بالتواضع للحق ليكون أعقل الناس.
2 ـ واعتبر الامام أن لكل شيء دليلا «ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية، ومطية العقل التواضع». وصرح بأن الله تعالى ما بعث الأنبياء ورسله وعباده الا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة، واعتبر الامام العقل حجة باطنة. وأن العاقل لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.
وعد الامام طول الأمل، وفضول الكلام، وشهوات النفس، مؤشرات تعين على هدم العقل. «ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه».
3 ـ واعتبر الامام: «الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل من الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله».
«كما اعتبر نصب الحق لطاعة الله، ولا نجاة الا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم الا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل».
4 ـ ورأي الامام: «ان العاقل قد رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، فالعقلاء تركوا فضول الدنيا، وان العاقل نظر الى الدنيا وأهلها فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة، ونظر الى الآخرة فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما».
ورأي الامام أن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وأن الله حكي عن قوم صالحين قولهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب) (12).
وانه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة... وروي عن جده أمير المؤمنين: «ما عبدالله بشيء أفضل من العقل».
وعقب الامام علي ذلك بافاضات رائعة تخص الموضوع.
5 ـ ورأي الامام رؤية مجهرية: «أن العاقل لا يكذب، وان كان فيه هواه» وقال أيضا: «لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له» وروي عن جده أمير المؤمنين صفة العاقل: «ان من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال:
يجيب اذا سئل، وينطق اذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه هذه الخصال الثلاث فهو أحمق». الى آخر فقرات هذه الرسالة الثمينة.
وكان الامام بذائقته الفطرية الخالصة يدرك دور العقل في الحياة الاجتماعية، ولديه تصور عريق بتقلبات المناخ الاجتماعي، ويعرف جيدا توجه السلطان لتسخير الحياة العقلية للسير في ركابه وتلبية رغباته، فأراد الشعب التمتع بجوهرة العقل، لتمنعه وتعصمه عن الانزلاق السياسي الذي تجهد السلطات على احداثه وتوسيع ثغراته، ومن البديهي أن يفيد قلة من المثقفين والعلماء من هذا الأمداد الطهور، وتندفع أكثرية القوم نحو السراب.
ومهما يكن من أمر، فان الاتجاهات السياسية المعقدة قد أذكت شرارة الجذوة الكلامية، لا حبا بالعلم وتشجيعا له، بل لتفيد منه في الابقاء على النفوذ، واشغال الشعب المسلم عن نفسه بنفسه، وبمبادئه عن مشكلاته، وقد مهد هذا التخطيط الى قيام الأشاعرة والمعتزلة والمرجئة والمفوضة، وساعد على ظهور الزندقة والمانوية والمزدكية والشعوبية وسواها في افرازات أحدثها البعد السياسي في المناخ العقلي، وهو ينتقل من دور العلم بالشيء الى دور النقاش، ومن طور الفهم الى طور المناظرة، ازاء اثبات هذا الأصل أو دحض ذلك المبدأ، ومن هنا نشأت الحياة العقلية وهي تتدرج بالتصاعد من البسيط الى المركب، ومن السهل الى الصعب، ومن القاعدة الى القمة، واذا بالأفق الحالم المتزن يتحول الى شعلة نار متلهبة تزيد في حرارة الجو وسعرات الحياة.
ولا أدل على هذا من نشوء بدعة الارجاء في ظل الحكم الأموي، واستمراريتها حتي اليوم، لأن الارجاء قد ابتدع مقالة تعنى بمجاراة السلطان، والابقاء على عروش الطغاة، تثبيتا لأنظمة الحكم السائدة، فالحاكم هو الحاكم المطاع، ما دام يشهد الشهادتين ليس غير، لا يغيره فسق، ولا يعزله اسراف، وان خاض في دماء المسلمين خوضا، فأمره الى الله، وعلى المسلمين الطاعة، وان ظلم عباد الله، وغير أحكام الله، وأكل أموال المسلمين، وثوابه أو عقابه على الله، وليس لأحد أن يعتدي على ذاته المقدسة!!.
الجديد في هذا المنحى في الاسلام أن الحاكم مصون غير مسؤول، فقد أبيح له كل شيء، وقد خول بكل شيء. وقد رحب الطغاة والجبابرة والملوك بهذا المبدأ الجديد.
فالإرجاء اذن مذهب الطواغيت، وهو المذهب الذي يبيح الانحراف والخروج عن الخط الديني، ويجعل الحاكم مستقلا في برجه العاجي عن النقد والتجريح والرفض.
وطبيعي أن مذهب الارجاء قد ابتدعته الأعطيات الضخمة من السلاطين، وجعلت منه مبدأ لا ينطق، ولا يعترض، ولا يحاجج، بل يظل مسالما طول الخط.
يقول الأستاذ خودابخش: «ان أصل المرجئة، يرجع الى ما كان من ضرورة استنباط وسيلة للعيش في وفاق مع الحكم» (13).
وأقره على ذلك أستاذنا الدكتور يوسف خليف بقوله: «فقد وجد الحاكمون في هذا المذهب ضالتهم المنشودة التي كانوا يتمنون أن يعثروا عليها وسط الاتجاهات والمذاهب المتعددة المعادية لهم» (14).
ولم يقف المسلمون بمنحي عن فكرة الارجاء، بل وقفوا في الاتجاه المعاكس لمجابهة الارجاء فالامامية يرون في مذهب الارجاء احتضانا لتطلع الطواغيت في اباحة المحظورات، يسوغ لهم الاستبداد وسفك الدماء دون أن يخرجهم ذلك عن حضيرة الايمان، وكان في طليعة ذلك الامام محمد الباقر (ت 114 ه) حينما قصده عمرو بن قيس الماصر، وهو ممن يقول بالإرجاء، فقال للامام: انا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. فرد عليه الامام مستندا الى السنة الشريفة، فقال:
«يا ابن قيس: أما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق هو مؤمن. فاذهب أنت واصحابك حيث شئت» (15).
وكان ابراهيم النخعي (ت 96 ه) عنيفا في مقاومة الارجاء. والمرجئة عنده هم أهل الرأي المحدث، والارجاء بدعة، وقد تركوا الدين أرق من الثوب السابري، بل ذهب الى أكثر من هذا فقال: «لأنا على هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» (16).
وفي قبال أهل الجبر والارجاء، كانت عقيدة القدرية القائمة على القول بحرية الارادة والاختيار، وزعيم القائلين بالقدر ـ غير منازع ـ الحسن البصري (17).
والذي يهمنا في الأمر أن العباسيين قد رحبوا بفكرة الاعتزال كالأمويين من ذي قبل، لأنهم أزاحوا فكرة التقديس عن الأبدال والأئمة، فهم بذلك يقفون في الصف المقابل للفكر الامامي الذي يعطي للأئمة (عليهم السلام) مكانتهم في الولاء والتقديس.
أما الخوارج فلم يكن لهم أمر ذو بال في العصر العباسي، وكان الخروج على الدولة من شأن الطالبيين فحسب، والحسنيين منهم بالذات، ولم يكن المسلمون ليعتبروا العلويين خوارج في المفهوم الاصطلاحي، بل عدوهم من الثائرين.
الا أن الحياة العقلية في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قد انفجرت بأفكار جديدة مضافا الى مخلفات الخوارج والمرجئة وأهل القدر المعتزلة. فكانت متاعب الامام مضنية في صد التيارات والرياح الوافدة، وهو يعيش تبعات ذلك كله، يعالجها حينا، ويدفعها حينا آخر، ويوفق بين المسلمين فيما بينهما، حتي سجل له تأريخيا ذلك الدور المشرف.
لقد نشأت في عهد أبيه الامام الصادق فرق الغلاة والزنادقة والالحاد، ونشأت في عهده فرق أخري وثيقة الصلة بما ابتلي به عصر أبيه. فأضاف ذلك جهدا الى جهده.
والذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة، بل هي الى الصخب والضجيج أقرب، وهي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الى فرق وجماعات وجماعات وتكتلات.
وقد شجعت السياسة هذا الجو المحموم المضطرب، ليصفو لها الأفق بعيدا عن المجابهة والرفض، وبمعزل عن مشكلات التحسس الجماعي بالظلم والمأساة والاذلال.
وكانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي بالضرورة أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين على تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة. وهي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق، أبرم بنوده سلاطين الجور وأدعياء الفكر الوافد.