الاستقامة المجتمعية في مواجهة الفساد
مفاتيح النهضة والتقدم في نهج الإمام علي عليه السلام (13)
مرتضى معاش
2022-07-09 06:26
خلق الله عزوجل الإنسان مجبولا على الحرية، وحق الإنسان في الحرية حق مقدس، لأن الله عز وجل هو الذي منحه هذا الحق ولا يملك أحد من البشر نزعه أو انتهاكه، وقد جاء الأنبياء من المرسلين من أجل هذه المهمة الكبرى ليرفعوا جميع الموانع والقيود على الحرية.
إن المتتبع لسيرة أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في طريقة إدارته للحكومة الإسلامية، انه جسد الإسلام الواقعي الذي يقوم على احترام الحقوق وحماية الحريات.
وقد تناولنا قضية الحقوق في المقال السابق وطرحنا مفهوم الحقوق وأنواعها، فما هي الملامح الأساسية للحقوق في منهجية الإمام علي (عليه السلام)؟
القيادة في الطريق الوعر
يعيش العالم اليوم حالة من اللااستقرار، والفوضى والحروب والنزاعات والمشكلات الكثيرة، والمشكلة أن البعض من البشر والكثير منهم يختارون الطريق الأصعب في الحياة، ولا يختارون الطريق الأسهل، تماما كما تذهب السيارة في الطريق الوعر، ولا تذهب في الطريق المعبَّد، وقد حثَّنا الله تعالى في كتابه الكريم، وفي أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، على الاهتداء إلى الطريق المعبّد نحو الاستقرار والسلام، وإلى (الصراط المستقيم).
الصراط المستقيم الذي يتبع السنن الكونية لله سبحانه وتعالى، وهي التي توصل إلى السلامة وتحقيق الأمن، وفقدان الاستقرار الذي يعاني العالم منه، هو نتيجة لاختلال نظام الحقوق الذي وضعه الله سبحانه وتعالى، من أجل حماية الإنسان وتحقيق كرامته وازدهاره، وتكامله في الحياة، والحقوق أساسية في تكامل النظام الاجتماعي لأنها نابعة من النظام الكوني.
الحقوق نابعة من الله سبحانه وتعالى، ومن عدله، فعندما نتبع الحقوق فإننا نتبع النظام الكوني، وعندما نتبع النظام الكوني نحصل على الاستقرار، فلماذا يستبدل الإنسان الطريق غير المعبّد ويذهب في الطريق الوعر؟، هل لأنه فاقد لهذه الحقوق أم أنه لم يفهمها؟
التعجل في نيل المكاسب
مشكلة البعض من الناس ان الفرد منهم عجول متسرع فيأخذه الطمع والحرص فيكون متعجّلا في نيل المكاسب، (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) الإسراء 11، فيختار الطرق الصعبة في الحياة، كالإنسان الذي يذهب وراء المال الحرام، ويريد أن ينال الأموال بسرعة، ويترك طريق الحلال، لذلك يقع في المشاكل دائما، ويؤذي نفسه وعائلته، أما طريق الحلال فهو طريق عذب يسير جميل، ويكون الإنسان فيه هانئا ومطمئنا في عيشته، ولا يعيش الخوف والقلق.
الإمام علي (عليه السلام) ألقى خطبة رائعة حول قضايا الحقوق في حرب صفين، وهي الخطبة رقم (216) في نهج البلاغة، والجميل في هذه الخطبة إنها تتناول مسألة الحقوق بأكملها، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، الراعي والرعية، وفي قضية حقوق الوالي وحقوق الرعية، وهي من الخطب التي أراد فيها الإمام علي أن يوضح منهجه كاملا(1).
لماذا يطرح الإمام علي (عليه السلام) يطرح هذه الخطبة والحقوق في قضية حرب؟
كان الطرف المقابل (معاوية) طماع ومستأثِر ومنحرف، وبالنتيجة هو منتهك لحقوق الإنسان، ولحقوق البشرية، فأراد الإمام علي (عليه السلام) ان يبين بأن الطريق الصحيح للحقوق يأتي من خلال العدل، والحاكم العادل، والنظام العادل.
هنالك مضامين كثيرة في هذه الخطبة، وقد طرحنا بعض النقاط التي تتعلق بملامح الحقوق في منهج الإمام علي (عليه السلام)، ومن هذه الملامح أن الحقوق منبعها الله سبحانه وتعالى، والتكافؤ التكويني في الحقوق، والحقوق المتبادَلة، والتوازن التكويني المتبادَل في الحقوق، وقلنا أن الحقوق تكمن في التطبيق والعمل وليس الشعارات، وأشرنا في النقطة السادسة إلى أن توازن الحقوق نظام للحكم المتوازن.
الحاكم هو خادم للناس
التوازن في الحقوق بين جميع الناس، بين الوالي والرعية يؤدي إلى الحكم المستقر والنظام المستقر والمجتمع المستقر، ولا يجوز أن تكون للحاكم امتيازات خاصة، لأن حقوق الحاكم نابعة من حقوق الناس وليست فوق حقوق الناس، فالحاكم الذي يحاول أن يجعل له امتيازات خاصة لنفسه، فهو ينتهك شرعية وجوده في السلطة، لأن شرعية حكمه نابعة من حقوق الناس التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم.
الحاكم هو خادم للناس وممثل لهم في قضية تنظيم المجتمع وتنظيم الحالة السياسية، وحماية السلم الاجتماعي، فالمهم أن تكون العدالة الإلهية مطبّقة، ولابد للحاكم أن يكون متقيا عادلا صائنا للإسلام، ويقرأ الإسلام بصورة جيدة وصحيحة حتى يحمي حقوق الناس.
استقامة الصلاح والإصلاح
النقطة السابعة: استقامة الصلاح والإصلاح، يقول الإمام علي (عليه السلام): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ)، فالحق يصعد بكرامة الناس.
الصلاح هو نتيجة للإصلاح، الصلاح يعني أن يكون الإنسان صالحا، في عمله وأفكاره وسلوكياته، والإصلاح عملية ترميم ما يوجد من فساد، لأنه دائما توجد أخطاء ومشكلات وعيوب وثغرات ومشكلات تحصل، لذلك يجب أن تكون هناك عملية إصلاح وترميم دائما.
وسوف تكون الرعية صالحة إذا كان الوالي صالحا لأنه يكون نموذجا للناس، (فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة)، فإذا كان الحاكم فاسدا سوف يؤثر على الناس سلبا ويؤدي إلى وجود اختلال ونشر لثقافة الفساد والإفساد في المجتمع.
ويأتي الوالي غير الصالح بأشكال مختلفة، مرّة قد يكون مستبدّا، أو فاسدا أو ناهبا أو قامعا، ويقول الإمام (عليه السلام): (ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية).
لنلاحظ هذه المعادلة المهمة جدا في عملية التفكير الاجتماعي من أجل فهم نفسية المجتمع، وكيف يكون المجتمع صالحا وجيدا أو العكس؟، إن استقامة الرعية هي الأساس، استقامتهم على المبادئ والأخلاقيات وتوحدهم وتماسكهم، وحفظهم لحقوق بعضهم البعض الآخر، فكل يحفظ لكل حقوق الآخر كما ذكرنا في المقال السابق.
استقامة الرعية تؤدي إلى صلاح المجتمع، لكن إذا كانت الرعية غير مستقيمة، فكل فرد يذهب نحو مصالحه الخاصة، وكل فرد يريد أن يؤسس اقطاعية لنفسه، وحكما خاصا لنفسه، ويستأثر بالموارد، ويسيطر على الأموال ويريد أن يهيمن على كل شيء، ويتلاعب بالمصالح العامة، ونتيجة لهذا الوضع سوف يؤدي ذلك إلى انبثاق حاكم فاسد وغير صالح.
لماذا الذهاب في طريق الفساد؟
لذلك سوف يغيب المجتمع الأمين وتنتشر الخيانة، ومن الملاحَظ هنا أن السلطة مغرية للحاكم، فعندما يكون الحاكم غير معصوم، فيكون عبدا لأهوائه ويحب السلطة، ويشغف بها، فالمجتمع أو الشعب هو الذي يردع الحاكم عن الذهاب في طريق الفساد، فالشعب المتماسك هو الذي يحصّن الحكم، ولا يسمح للحاكم أن يذهب في طريق الفساد، وإذا ذهب في هذا الطريق سوف يسقطه من كرسيّه ويطيح به.
هذا هو معنى استقامة الرعية، لأن الحاكم عندما يلاحظ استقامة الرعية في المكان الذي نشأ فيه، يحاول أن يخرب الرعية، من خلال توزيع الامتيازات، فيمنحهم الأموال والأراضي من غير وجه حق، حتى يجذب الناس إليه ويسعى إلى تقسيم المجتمع، وانقسام المجتمع إلى فئات متعددة متصارعة متنازعة تنتهك حقوق الآخر ماذا يؤدي؟، يصبح المجتمع مفكّكا.
لذلك فإن استقامة الرعية هي التي تؤدي إلى التلاحم والوحدة، كذلك فإن الوالي الجيد يؤدي إلى بناء مجتمع صالح، في عملية تبادلية، فلا يصح أن يتخلى الإنسان عن مجتمعه بسبب مصالحه الخاصة، لأنه سوف يأتي يوم تضيع فيه مصالحه الخاصة أيضا، وهذه قاعدة في الكون، لأنه لا وجود لمصالح خاصة في إطار الفوضى وعدم الاستقرار بل سوف يضيع كل شيء.
البعض يقوم بتشكيل جماعات مسلحة، ويقوم بتمويلها حتى يحصل على الحماية، ولكن ما فائدة ذلك، فقد رأينا كثيرا من رؤساء الوزراء والوزراء على تعاقب الحكومات، لكن سوف يأتي يوم تسحقهم الانقلابات والثورات، فلا فائدة في المصالح الخاصة.
أسس التعاقد الاجتماعي
المجتمع الحر هو المجتمع الذي يستطيع أن يحافظ على حقوقه وحقوق الآخر، وأن لا ينفرط العقد الاجتماعي، والتعاقد الاجتماعي الموجود والذي عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) باستقامة الرعية، هو حفظ الحقوق وحماية حقوق الآخرين، لأن جميع هذه الحقوق متبادَلة، وقائمة على التوازن فيما بين الناس من خلال البيع والشراء وكافة المعاملات الأخرى في الأسواق وحماية الأموال، فهذه كلّها حقوق الناس.
هذا التعاقد الاجتماعي الذي ينعقد ضمنيا فيما بين أفراد المجتمع لكي تنتظم الحياة وتصلح للعيش، ويكون في المجتمع أمانة وثقة ويشعر الإنسان بأن عمله محترم، وأن أمواله واملاكه محترمة، وهذا هو أساس التعاقد الاجتماعي.
لذلك يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على استقامة الرعية. فإياك وأن تنحرف عن الطريق المستقيم ولا تغرِك المكاسب والمغانم والمحاصصة، وإلا سوف تسقط، لكن المشكلة أن الإنسان الذي ينحرف سوف يسقط المجتمع كله معه ويقوده نحو الهاوية، كما لاحظنا في المجتمعات التي سقطت، لذا لابد أن نعتمد هذه القاعدة التي يمكن ان نستنبطها من كلام الإمام علي (عليه السلام) الاستقامة على الإصلاح والإصلاح بالاستقامة.
وهي قاعدة أساسية من قواعد المجتمع المستقر المزدهر، ودائما يولِّد المجتمع المستقر الازدهار، والعمل ويقضي على البطالة، ويقدم الفرص للناس، لبناء البيوت والسكن الصالح وفتح المحالّ والتجارة الوفيرة، بالنتيجة يتم صنع حياة متحركة متقدمة في العمل الاقتصادي والعمل الاجتماعي.
وعندما يكون هناك استقرار اجتماعي، سوف يؤدي ذلك إلى نمو الإنسان نفسيا وعقلانيا ومعنويا، ويكبر ويرتقي، وهذا هو معنى الاستقامة، أي يستقيم الإنسان في طريق المبادئ والقيم الإنسانية الأساسية، لكي يحافظ على وجوده، لذا نلاحظ أن المجتمعات المادية منفرطة، وليس فيها حماية لحقوق الناس، فهناك يحتال الإنسان بطرق قانونية على الآخرين ويسرقهم.
صناعة مجتمع الحقوق
النقطة الثامنة: الدين يُرفَعُ بالعدل، وعندما تُحترَم الحقوق وتكون متوازنة والفرص متكافئة، سوف يُرفع الدين ويعتلي الحياة، ونصل إلى العدل من الناحية العملية، من خلال توازن الحقوق وتطبيقها تطبيقا صحيحا سليما، بحيث لا تُنتهَك هذه الحقوق من قبل الأقوياء.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ)، لأنه بالعدل وضمان الحقوق يقوم الدين، والدين في أساسه وجوهره قائم على الإيمان والتقوى والورع والصدق، فعندما يكون المجتمع مجتمع حقوق، والكل للكل، يكون الدين في هذا المجتمع عاليا، وتكون مناهج الدين سارية.
لماذا تحصل انحرافات في المجتمعات المختلفة، في العقائد، والأخلاق، والسلوك، يحدث ذلك نتيجة لاختلال الحقوق، حيث يفقد الإنسان حقه ويقينه واطمئنانه، ويفقد شعوره وتفاعله مع مختلف الأمور التي تحدث في المجتمع، فكل انحراف يحدث يتحمل مسؤوليته الذين انتهكوا الحقوق.
فاعتدلت معالم العدل، بمعنى المعالم الواضحة للعدل، أي تكون معتدلة ثابتة ومستقرة، وليست ضعيفة وتكون قوية في جوهرها ومظهرها. لذلك فإن الحقوق قضية جوهرية في تثبيت أركان الدين وتثبيت معالم العدل ومناهجه.
الاستقرار وقوة الدولة
النقطة التاسعة: توازن الحقوق يؤدي إلى الاستقرار وقوة المجتمع، ونطرح هذه النقطة من خلال وجهة نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: (وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ)، وهنا يبرز مفهوم الدولة، الدولة القوية والدولة الضعيفة والدولة الهشة والدولة الفاشلة، حسب التعريفات الموجودة حاليا في العلوم السياسية.
عندما نبحث في مقاييس ومعايير الدولة الفاشلة، فسوف نجد أن أوضح المعايير هو انتشار الفساد فيها بشدة، مع انتهاك حقوق الناس والقتل والاغتيال والنهب، وسرقة أموال الناس، وسرقة الأموال العامة، هذه كلها نلاحظها في الدولة الفاشلة، فإذا أردنا أن نتكلم عن الدولة القوية يظن البعض أنها تكمن بوجود قوات الأمن ووجود الجيش الجرار، والأجهزة الأمنية المنتشرة، ولكن ما الفائدة منها عندما يُفتقَد العدل وتُنتهَك الحقوق، لا توجد فائدة منها لأنها تحمي السراق واللصوص والفاسدين، فهي دولة فاشلة حتما.
هناك دول هشة وفاشلة مع أن لديها جيوش كبيرة وجرارة لكنها تسقط وتنهار في ساعات معينة، لأن كل مظاهر تلك القوة ظاهرية لا قيمة لها، وهؤلاء لا إيمان لهم بالدولة، ويعرفون أن الفساد ينخر في هذه الدولة والحقوق منتهَكة، لأن المسؤولين الكبار فاسدين يستأكلون بحقوق الناس.
الاحترام قيمة أساسية
(وجرت على أذلالها السنن،) الأذلال تعني الطرق السهلة المعبدة التي يسير عليها الإنسان بسهولة وليس بصعوبة، وأن السير على هذه الطرق المعبّدة تُطبَّق السنن الإلهية وهي القواعد الكونية التي تحقق النظام الإلهي التكويني والتشريعي أيضا، وهذا يحقق الأمن والسلام للمجتمع.
عندما تُحترم الحقوق مقدَّما، فإنها مقدمة لتعبيد الطريق أمام تطبيق القيم والسنن الكونية كافة، مثل السلام والاستقرار والتفاهم والتعايش والأمانة، وإذا أردنا أن نبدأ تغييرا هاما ونحقق تحوّلا في مجتمعنا لأن الوضع الراهن أنهكنا واستنزفنا، على كل واحد منّا أن يبدأ باحترام حقوق الآخر، وتبدأ النخب بمستوياتها كافة باحترام حقوق الآخرين.
وبهذا تتحقق الحقوق وينفتح الطريق أمامنا لتطبيق كل القيم والسنن الإلهية التي تأتي بكل النتائج الجيدة، فالاحترام قيمة أساسية، إذا لم يحترم الإنسان الآخرين ولا حقوقهم، فلا يبقى شيء ذا أهمية، هذه النقطة هي الحجر الأساس لبناء المجتمع الإنساني لتمتين العلاقة الإنسانية فيما بين افراد المجتمع، فعندما لا تحترم حقي ولا أحترم حقك لن تكون هناك علاقات حقيقية بين أفراد المجتمع، والتواضع قيمة ترتفع بالإنسان في مقابل التكبّر. لذا على الإنسان أن لا يتهاون في قضية احترام الحقوق.
الطمع في بقاء الدولة
(وجرت على أذلالها السنن) بمعنى ضمان الحقوق يجعل من الطريق معبدا لتطبيق السنن الصالحة كافة، وتربية الإنسان الصالح على الصدق والأمانة، (فصلح بذلك الزمان)، أي عندما تُطبَّق السنن الإلهية يصلح بذلك الزمان، (وطُمِع في بقاء الدولة) بمعنى الناس تحمي الدولة، وهذا هو معنى المواطنة الحقيقية وحماية الدولة.
فالدولة لا تُحمى بالجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، الدولة تحمى بمواطنيها الأصلاء الذي يطمعون في بقاء دولتهم، وهذا هو معنى الطمع الصحيح في مقابل الطمع الخاطئ، (ويئست مطامع الأعداء)، أي أن مطامع الأعداء انتهت، ولا نكون في ظل التبعية، كل جماعة تستنجد بدولة حتى تغلب الجماعة الأخرى.
هذه هي الدولة المفكّكة أو اللادولة التي تحكمها جماعات مختلفة، كل جماعة منها ترتبط بقوة خارجية، تستنجد بها على مجتمعاتها، فالعدو الطامع يخشى المجتمع الموحَّد، ويخاف من الدولة القوية، لكنه حين يلاحظ أنها فاسدة ومفكَّكة ويسهل فيها شراء الذمم ينقضّ عليها ويستبيحها.
ماهي النتائج الحاصلة من اختلال الحقوق وانتهاكها؟
نحن نعيش حالة اختبار مهم جدا في حياتنا، علينا أن نفهم كيف تُبنى المجتمعات والدول، ولا نخرج من الحياة ونحن نادمين متحسرّين على حياتنا الماضية التي قضيناها في ظل أوضاع سياسية مفككة، واقتصاد متآكل ومجتمع متناحر، هذه حياتنا نحن نبنيها ونحن نهدمها، وهذا يمنحنا فرصة للتفكير، فلا يجب أن نكون سكارى في هذا العالم الفوضوي الذي تُنتهك فيه الحقوق، ولابد أن نفهم النتائج التي تحصل بسبب اختلال الحقوق.
كان الإمام علي (عليه السلام) قائدا كبيرا وإماما معصوما وأراد أن يعطي للبشر فرصة في أن يفكروا ويستخدموا عقولهم من أجل بناء حياتهم الصالحة، لكن المشكلة في البشر أنفسهم، حيث الطمع الذي يسيطر عليهم والأهواء والأنانية وعدم التفكير بالآخر، وهذه الأمور تجعل الإنسان يسير في الطريق الصعب الوعر وغير المعبد.
الإمام علي (عليه السلام)، أراد أن يدلّنا على طريق الهداية، وهو الطريق المعبَّد المستقيم الذي يوصلنا إلى الحياة الحقيقية التي نريدها.
كيف نستأصل معالم الجور؟
النتيجة الأولى: إن اختلال الحقوق يؤدي إلى التنازع والظلم المتبادَل، فكل النزاعات التي نلاحظها اليوم والصراعات هي نتيجة لاختلال الحقوق، أو الاستئثار بالحقوق، أو لانتهاك حقوق الآخرين، وهذه مشكلة واقعية.
على سبيل المثال، إذا تصارع اثنان على المياه، كل منهما يقول المياه لي، فتنشب حرب بينهما، تؤدي بالنتيجة إلى تدميرهما معا، بينما لو أنهما لو جلسا مع بعضهما، وتفاهما وكل منهما أخذ حقّه، فهذا يؤدي إلى الاستقرار والسلام وعدم الخسارة، فالطريق الصعب هو طريق النزاعات والصراعات والظلم، وهو يؤدي إلى مشاكل ونتائج سيئة دائما.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ)، فإذا حدث اختلال في الحقوق بين الحاكم والمحكوم، وقام الحاكم بتكوين مجموعة عصابات ووزع الامتيازات، وكذلك يقوم كل فرد بالاستيلاء على شيء معين ويأخذ حصة منه.
كل هذا يؤدي إلى اختلال الكلمة، وتفكك المجتمع وظهور حالات الجور ومعالمه، فاذا ظهرت معالم الجور من الصعب جدا تغييرها، لاسيما إذا أصبحت ثقافة عند الناس، وافتقدت الثقة بينهم، ولا أحد يريد أن يثق بالآخر.
في هذه الحالة يكون من الصعب جدا استئصال معالم الجور، ولكن مشكلة بعض الناس إنه يفكر بطريقة صعبة، وبطريقة تقوده الى الشرّ، ولا يفكر بطريقة حسن الظن والتفاهم مع الآخر، والتحاور معه، واعتماد طريق الإنصاف.
لماذا يحصل الانحراف الديني؟
النتيجة الثانية: الانحراف الديني، وهو يؤدي إلى الفساد في الدين، يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ)، كثر الإدغال في الدين يعني كثر الفساد في الدين، فحين تصبح هناك نزاعات وصراعات وانتهاكات للحقوق، تحاول جهات معينة أن تستثمر الدين وتستغله من أجل أن تقوّي نفسها، وتسيطر على الآخرين من خلال استخدام الدين لأغراض سيئة.
فيأتي لك بألف دليل ودليل بأن الحق معه لكّنه باطل، هذا هو معنى الانحراف الديني الذي يحدث بسبب انتهاك الحقوق، لأنه ليس هناك عملية وسطية بل هي عملية صفرية أو صراع صفري فأما أنا أو أنت، هذا هو معنى عملية انتهاك الحقوق، ليس فيها إلا أن أربح أنا وتخسر أنت، لكن بالنتيجة يكون الجميع خاسرين.
فيستخدم بعضهم الدين من أجل الهيمنة على الآخرين بقوة الدين، لأن الدين بطبيعته قوي، وحين يرى الناس هذا الظلم وانتهاك الحقوق من خلال الاستغلال الديني، سوف ينحرفون انحرافا دينيا وعقائديا، ويفقدون إيمانهم بالدين وبقيم الدين لاسيما إذا كانت الجهات التي تنتهك الحقوق جهات تزعم انها دينية.
صناعة الإنسان الوسطي
الحقوق ليست شعارات بل تطبيق، لكننا اليوم نلاحظ أن العالم يرفع حقوق الإنسان عاليا، ولكن من دون تطبيق، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى الانحراف عن القيم الإنسانية، (وتُرِكَت محاج السنن)، محاج السنن تعني الوسطية، فبدلا من أن نذهب إلى السنن الوسطية، نذهب وراء القضايا المنحرفة، وبدلا من أن يتجه الإنسان إلى الصدق يذهب إلى الكذب، وبدلا من الأمانة إلى الخيانة، وبدلا من الاعتدال يذهب نحو التطرف والتشدد.
إن التوازن في الشريعة الإسلامية جاء من أجل بناء الاعتدال في الإنسان، مثل مسألة التوازن بين الحلال والحرام، والتوازن في جسد الإنسان نفسه، كالشهيق والزفير، فالتوازن في الشريعة جاء في إطار مبدأ أن يكون الإنسان متكاملا ومتوازنا حتى مع نفسه، فغاية الشريعة هو خلق التوازن في حياة الإنسان، لأنها تدعو إلى سلوكيات تؤدي إلى صناعة الإنسان الوسطي المعتدل الذي يكون فاهما ومدركا لحياته.
لأن الحياة الطبيعية التي يعيشها الإنسان تجعله مستقرا نفسيا وفكريا وثقافيا، ومتوازنا في علاقاته الاجتماعية مع الآخرين، فالاعتدال مهم جدا في حياة الإنسان.
لابد أن ننتبه إلى مسألة كيف نطبق الدين الإسلامي، تطبيقا وسطيا سلميا لا عنيفا، يحقق الاستقرار في التفاهم مع الناس، وليس بالقهر والإكراه، لأنهما يؤديان إلى الانحراف عن الدين.