أسباب صلح الامام الحسن وسياسة أهل البيت (ع)

الشيخ باقر شريف القرشي

2022-04-16 07:00

بقلم: الشيخ باقر شريف القرشي

ويجدر بنا ونحن في بيان أسباب الصلح، وفي إيضاح علله أن نعرض بعض الجوانب من سياسة أهل البيت (ع) لنتبين مدى اصالة سياستهم البناءة، ونقف على الأهداف الرفيعة التي ينشدون تحقيقها في ظلال الحكم فان إيضاح هذه الجوانب ـ فيما نحسب ـ يعطينا أضواء عن صلح الإمام الحسن مع طاغية زمانه، ويكشف لنا عن الأسباب التي أدت إلى تضافر القوى الباغية على مناجزته، ومناجزة أبيه من قبل، وإلى القراء ذلك.

السياسة البناءة:

إن السياسة التي يجب أن تسود جميع انحاء البلاد ـ عند أهل البيت ـ هي السياسة البناءة التي تضمن مصالح المجتمع، وتعمل على ايجاد الوسائل السليمة لرقيه وبلوغ أهدافه وآماله، وحمايته من الظلم والاعتداء، وتحقيق المساوات العادلة في ربوعه، والفرص المتكافئة بين أبنائه لوقايتهم من البؤس والحرمان.

إن سياسة أهل البيت قد تبنت العدل الخالص، والحق المحض، ومثلت وجهة الإسلام وأهدافه في عالم السياسة والحكم، فهي أرقى سياسة عرفها الناس وأجدرها بتحقيق العدل السياسي، والعدل الاجتماعي بين الناس لأنها في جميع مجالاتها تنشد الاطمئنان الذي لا يشوبه قلق، والأمن الذي لا يشوبه خوف، والعدل الذي لا يشوبه ظلم، وهي بجميع مفاهيمها تباين السياسة الأموية الجائرة التي رفعت شعار الظلم والجور، وتذرعت بجميع وسائل المكر والخداع للمساومة على مصالح الشعوب، وابتزاز إمكانياتها والتغلب عليها.

إن السياسة الأصيلة عند أهل البيت هي التي لا تعتمد على المكر والمواربة والخداع والتهريج والتضليل وغير ذلك من الأساليب التي لا تحمل جانبا من الواقعية، وانها لا بد أن تكون صريحة واضحة في جميع أهدافها ومعالمها، لتحقق العدل فى البلاد، ولصلابة سياستهم في الحق وصرامتها في العدل ثار عليهم النفعيون والمنحرفون، وطالبوهم أن ينهجوا منهجا خاصا لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم، ولو أنهم استجابوا لهم لما آلت الخلافة الى غيرهم ولكنهم سلام الله عليهم آثروا رضا الله وسلكوا الطريق الواضح، وابتعدوا عن الخطط الملتوية التي لا يقرها الدين.

نظرهم الى الخلافة:

ان الخلافة عندهم هي ظل الله في الأرض فيجب أن يتحقق في ظلالها العدل الشامل، وتسود الرفاهية، ويعم الأمن بين جميع المواطنين، وإذا تجردت السلطة من هذه الأهداف فلا طمع ولا ارب لهم بها يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) لابن عباس، وكان يخصف نعله بذي قار:

ـ يا ابن عباس ما قيمة هذا النعل؟.

ـ لا قيمة له يا أمير المؤمنين.

ـ والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا وأدفع باطلا.

إن حذاءه الذي كان من ليف أثمن عنده من الإمرة التي لا يقام فيها الحق، ولا يدفع فيها الباطل فضلا عن السلطة الجائرة التي تضيع العدل وتحي الجور وتميت الحق، وقد كشف (ع) ـ في بعض كلماته ـ السر في إحجامه عن مبايعة أبي بكر في دور السقيفة قائلا:

«اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك (1)».

ولهذه الأسباب الوثيقة أعلن سخطه على أبي بكر، وامتنع من مبايعته وأقام عليه سيلا من الأدلة على أحقيته بالخلافة دونه، ولكنه لم يناجزه الحرب لأنه يرى أن الأمة من واجبها أن تنقاد إليه كما أمره رسول الله (ص) بذلك فقد قال له:

«يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى، ولا تأتي فان أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك» (2).

إن الواجب على المسلمين كان هو الانقياد لعترة نبيهم، والرجوع إليهم ليحكموا فيهم بما أنزل الله، ويردوهم إلى الحق الواضح، وإلى الطريق المستقيم، ولكن القوم قد غرتهم الدنيا، وخدعتهم السلطة، فانطلقوا وراء أطماعهم وأهوائهم فصرفوا الأمر عن أهله، ووضعوه في غير محله، فأدى ذلك إلى المحن الشاقة والخطوب السود التي منى بها المسلمون في جميع مراحل تأريخهم.

المثل العليا:

أما الأهداف السليمة والمثل العليا التي رفع شعارها أهل البيت، وتبنوها في جميع المجالات فهي كما يلي:

أ ـ العدل:

إن السياسة الإسلامية بجميع مفاهيمها قد تبنت العدل، وآمنت به إيمانا مطلقا، وركزت جميع أهدافها على أضوائه، فأهابت بالحكام والأمراء أن يطبقوه على مسرح الحياة، وأن لا يكون الحكم الصادر منهم مبعثه الهوى وسائر الأغراض التي لا تمت بصلة للعدل قال تعالى: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» (3) وقال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله » (4)

وقد أجمع المسلمون على أن الحاكم إذا انحرف في حكمه وجب عزله، وقد عزل أمير المؤمنين أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية بأنه قد جار في حكمه فجعل الإمام يبكي ويقول:

« اللهم أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك ».

ثم عزله في الوقت (5) ويقول الإمام الصادق: « اتقوا الله، واعدلوا فانكم تعيبون على قوم لا يعدلون » (6).

إن سعادة الأمة ورقيها بعدل حكامها، فاذا جافى الحكام العدل وجاروا في الحكم تعرضت البلاد للأزمات والنكسات وسادت فيها الفوضى والنزعات، ومن ثمّ فان الإسلام يحرص كل الحرص عل أن يكون الحكم بيد الصلحاء والثقات لأن للحكم إغراء لا يفلت من ربقته إلا ذوو النفوس الزكية الكريمة ـ وما أقل عددهم ـ وقد تحدثنا عن مظاهر العدل وبسطنا القول فيه في كتابنا « النظام السياسي في الإسلام » ولا نرى أن هنا حاجة في عرض تلك البحوث، وانما نريد أن نقول إن سياسة أهل البيت (ع) قد تركزت على العدل الشامل وبنت جميع أهدافها عليه.

ب ـ المساواة:

إن الإسلام أسبغ نعمة المساواة على الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل في تأريخ المجتمع العالمي، فقد أعلن المساواة العادلة ما بين الأفراد والجماعات وما بين الأجناس فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى والعمل الصالح يقول الأستاذ جيب:

« إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ما زال في قدرته أن ينجح نجاحا باهرا في تأليف العناصر والأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة. وإذا وضعت منازعات الشرق والغرب موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام » (7).

وقد طبق الامام أمير المؤمنين المساواة العادلة تطبيقا شاملا في دور حكمه، فامر عماله وولاته أن يساووا بين الناس حتى فى اللحظة والنظرة فقد جاء في بعض رسائله ما نصّه:

« وأخفض للرعية جناحك وأبسط لهم وجهك وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة (8) والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك » (9).

وهذه السياسة العادلة هي التي أثارت عليه الأحقاد والضغائن وأدت إلى تكتل القوى الباغية وتظافرها على مناجزته، وقد نص على ذلك المدائنى بقوله:

« إن من أهم الأسباب في تخاذل العرب عن علي بن أبي طالب (ع) كان أتباعه لمبدأ المساواة بين الناس حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ولا يصانع الرؤساء والقبائل » (10).

إن طغاة قريش، ومن سار في ركابهم من جبابرة العرب لم يكونوا بأي حال قد وعوا الأهداف الأصيلة التي جاء بها الإسلام لتعميم المساواة وبسط العدل والقضاء على الغبن، إنهم يريدون الامتيازات والاستئثار بأموال المسلمين، والاستعلاء على الفقراء والضعفاء وكل ذلك يتنافى مع سيرة ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض، وقد سار الإمام الحسن على خطته وسيرته ولم يتحول عن نهجه فأثار ذلك عليه الأحقاد والأضغان.

ج ـ الحرية:

وتبنى الإسلام الحرية العامة لجميع المواطنين، وألزم الدولة بحمايتها، وتطبيقها على مسرح الحياة سواء أكانت الحرية في العقيدة أو في التفكير، والتعبير عن الرأي، أو في المناحي السياسية، واعتبر الإسلام كل ذلك من الحقوق الطبيعية للانسان التي لا غنى عنها بحال من الأحوال، وقد طبق الإمام أمير المؤمنين الحرية بأرحب مفاهيمها في دور خلافته، فانه لم يرغم القعاد على مبايعته، ولم يكرههم على طاعته، وإنما تركهم وشأنهم يتمتعون بحريتهم من دون أن يتعرض لهم بأذى أو مكروه، وكذلك عامل الخوارج فانه لم يناجزهم الحرب حتى أنذرهم وأعذر فيهم، وحاججهم فأبطل شبههم ولما صمموا على فكرتهم ولم يتنازلوا عنها خلّى سبيلهم، وأطلق سراحهم ولكن لما عاثوا فسادا في الأرض، وأخلّوا بالأمن العام ناجزهم عملا

بقوله تعالى: « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ». ولما فرغ من حربهم كان في المجتمع العراقي جمهور غفير ممن يعتنق فكرتهم، فلم يتعرض لهم بمكروه، ولم يمنعهم من الفيء، ولم يرد أحدا منهم عن الخروج إن أراده، ومنحهم الحرية التامة، فلم تراقبهم السلطة، ولم تتبعهم أو تنكّل بأحد منهم، وكذلك أعطى الحرية الواسعة الى الحزب الأموي، فلم يتعرض لهم بأذى أو مكروه مع العلم أنهم كانوا من ألدّ خصومه وأعدائه. وهذه الحرية الواسعة التي أعطاها الإمام للأحزاب المناوئة له كانت أوسع حرية عرفها التأريخ، لقد قضت سياسته البنّاءة على عدم استكراه الناس على الطاعة، وعدم ارغامهم على ما لا يحبون.

د ـ الصراحة والصدق:

ان السياسة الرشيدة التي رفع شعارها أهل البيت تسير على ضوء الصدق والواقع فلا توارب، ولا تنافق، ولا تغري الشعوب بالوعود الكاذبة، ولا تمنيها بالأماني المعسولة، رائدها في جميع مخططاتها الصراحة والصدق.

لقد حفلت سياستهم بالصراحة في جميع الميادين، فليس من منطقها الخداع والنفاق، وقد صارح الإمام الحسين (ع) سبط النبي وممثل الإسلام الجماهير التي صحبته من مكة والتي التحقت به فى أثناء الطريق حينما بلغه مقتل سفيره وممثله في العراق الشهيد العظيم مسلم بن عقيل (ع) صارحهم بمقتله، وخيانة أهل الكوفة به، وغدرهم بعهودهم ومواثيقهم، وانه متوجه في سفره الى ساحة الموت، فتفرّق ذوو الأطماع والأهواء عنه، لقد أدلى (ع) في تلك الساعة الرهيبة بالحقيقة الراهنة، وكشف لهم الستار عن خطته وأهدافه، ليكونوا على بصيرة من أمرهم عملا بأوامر الإسلام التي تلزم بالصراحة والصدق ولا تبيح أي وسيلة من وسائل الغدر والخداع.

إن المواربة لو كانت سائغة في الإسلام بأي شكل من الأشكال لما تغلب معاوية بن أبي سفيان خصم الإسلام على الإمام أمير المؤمنين (ع) فكان بإمكانه أن يساومه بعد مقتل عثمان ويبقيه على ولايته في دمشق، ثم يعزله بعد ذلك عن منصبه ويتخلص من شرّه وتمرده، ولكن الإسلام يأبى له تلك المساومة الرخيصة فامتنع من بقائه في جهاز الحكم ولو زمنا قصيرا، وهناك أمر آخر هو أعمق أثرا، وأبعد مدى في عالم الصراحة من ذلك هو امتناع الإمام من اجابة عبد الرحمن بن عوف أحد أعضاء الشورى الذين رشحهم الخليفة الثاني لانتخاب الخليفة الجديد من بعده، فقد ألحّ عبد الرحمن على الإمام إلحاحا بالغا أن يبايعه وينتخبه لمركز الخلافة الإسلامية العظمى، ولكن شرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، ويقتفي بسياستهما فامتنع (ع) من اجابته على هذا الشرط وأبى إلا أن يسير على كتاب الله، ويقتدي بسنة نبيه في سياسته وأعماله الإدارية وغيرها، لقد كان بإمكانه أن يوافق على ذلك الشرط ابتداء ثم يعدل عنه ويسير في سياسته على وفق الأهداف التي رسمها الإسلام ويعتقل كل من يعارضه ويقف في وجه حكومته، ولكنه أبى إلا الصراحة والصدق في القول والفعل.

إن الإسلام يأمر بالتمسك بالصدق، ولا يسيغ استعمال الطرق الملتوية التي لا تمت بصلة الى الواقع في تثبيت الحكم، وتدعيم السلطة.

يقول الرسول (ص):

«عليكم بالصدق، فان الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فان الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي الى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (11).

إن أهل البيت قد ركزوا سياستهم على الصدق والصراحة، وجنبوها من المكر والخداع.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع):

«لو لا ان المكر والخداع في النار لكنت أمكر الناس».

وكان (ع) كثيرا ما يتنفس الصعداء من الآلام المرهقة التي يلاقيها من خصومه ويقول:

«وا ويلاه، يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم، وأعرف منهم بوجوه المكر، ولكني أعلم أن المكر والخديعة فى النار، فأصبر على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا.. » (12)

ويقول في الغدر:

« لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة » (13).

إن الغدر إنما ينبعث عن نفس لا تؤمن بالمثل الإنسانية، والقيم الدينية، ويصف الإمام أمير المؤمنين الغادر بأنه قد نسخ من كيان نفسه الإيمان بالله يقول:

« ولا يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله!! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.. »

وتحدث عمن قال في دور حكومته من عبيد الشهوات والمناصب:

بأنه لا دراية له في شئون السياسة، وإن معاوية خبير بها، وخليق بادارة دفة الحكم. قال (ع):

« والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس » (14).

ان سياسة الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت في جميع شئونها قد عبرت عن جميع القيم السياسية الخيرة التي أعلنها الإسلام، فهي لا تقرّ الغدر، ولا المكر، ولا الخداع، ولا تؤمن بأي وسيلة من وسائل النفاق الاجتماعي وإن توقف عليها النجاح السياسي المؤقت، لأن الخلافة الإسلامية من أهم المراكز الحساسة في الإسلام، فلا بد لها من الاعتماد على الخلق الرصين والإيمان العميق بحق المجتمع والأمة.

وسار الإمام الحسن (ع) على مخططات أبيه ومقرراته في عالم السياسة والحكم، فلم يعتمد على أي وسيلة لا يقرّها الدين، وتجنب جميع الطرق الشاذة التي لا تلتقي مع الواقع، ولو أنه سلك بعض الأساليب التي سلكها معاوية لما تغلب عليه، وقد أدلى (ع) بذلك الى سليمان بن صرد فقال له:

« ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا، وللدنيا أعمل، وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني، وأشد شكيمة، ولكان رأيي غير ما رأيتم.. »

ودلّ ذلك على أنه لو كان يعمل للدنيا لكان أقوى عليها من خصومه ولكن التغلب على الأحداث والظفر بالحكم يتوقف على اتخاذ الوسائل التي لا تتفق مع الدين وهو (ع) أحرص المسلمين على صيانة الاسلام ورعايته.

ه ـ الولاة والعمال:

ويرى أهل البيت (ع) أن الموظفين في جهاز الحكم لا بد أن يكونوا من خيرة الرجال في الجدارة والنزاهة والكفاءة والقدرة على إدارة شئون البلاد، ليضعوا المصلحة العامة نصب أعينهم، ويسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة، وأن يكونوا ـ قبل كل شيء ـ بعيدين عن الرشوة، وعما في أيدي الناس، فان الرشوة تؤدي الى انهيار الأخلاق وشيوع الباطل، والفساد في الأرض، وقد بعث الامام أمير المؤمنين (ع) الى أمراء الأجناد بهذه الرسالة:

« أما بعد: فانما هلك من كان قبلكم، إنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه. » (15)

إن من أهم الأسباب التي تؤدي الى دمار الحكومة وزوالها هي أن تحجب المواطنين عن الحق حتى يضطروا الى استنقاذه بالرشوة، ومن الطبيعي ان ذلك يؤدي الى فقدان الأمن، واضطراب المجتمع، وانتشار الظلم والجور.

وقد نظر أهل البيت (ع) الى ما هو أبعد من ذلك وأعمق بكثير، فقد فرضوا على ولاتهم أن يبتعدوا عن الناس بكل نحو من أنحاء الصلة، ولو كانت موجبة للربط الودي أو العاطفي لما عسى أن يكون لذلك أثر على مجرى العدل، ولذلك ان أمير المؤمنين (ع) لما بلغه ان عامله بالبصرة سهل بن حنيف قد دعي الى مأدبة فأجاب إليها، فكتب إليه يستنكر منه ذلك، ويوبخه على ما صدر منه، وهذا نص ما كتبه إليه:

« أما بعد: يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان وما ظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو (16)، وغنيهم مدعو، فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم (17) فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه (18) فنل منه. » (19).

وأراد الأشعث بن قيس أن يتقرب الى أمير المؤمنين ويتصل به فصنع له حلوى جيدة فقدمها إليه، ولندعه (ع) يحدثنا عن موقفه تجاه هذا الأمر يقول:

«وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها (20)، ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول (21) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط، أم ذو جنة، أم تهجر (22)؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة (23) ما فعلت، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل (24)، وقبح الزلل وبه نستعين (25).

وبهذه السياسة البناءة تتحقق العدالة الاجتماعية، ويسود الأمن والرخاء ويقضى على جميع أفانين الظلم والغبن.

د ـ الخدمة العسكرية:

ولم تقض سياسة أهل البيت بإرغام الناس على الخدمة العسكرية، فلم يؤثر عنهم أنهم أكرهوا الناس على الخروج الى الحرب، وإنما كانوا يدعون الى الجهاد كفرض من فروض الله فمن شاء أن يخرج خرج مؤديا لما فرض عليه، ومن قعد فانما يقعد غير تمتثل لما أوجبه الله عليه من دون أن ينال عقوبة أو يتعرض للسخط والارهاب، وكانت هذه خطة الحسن (ع) لما أراد مناجزة معاوية، فانه لم يكره أحدا على ذلك، وإنما ندبهم الى الجهاد، وقد فعل ذلك أمير المؤمنين من قبل في حرب الجمل وصفين، والنهروان، وقد أرادوا بذلك أن يكون الناس مندفعين بدافع الايمان والعقيدة لما أوجبه الله عليهم من الفرض، وعلى عكس ذلك سار بنو أمية، فانهم كانوا يفرضون أشد العقاب على من تخلف عن الحرب، كما يحدثنا التأريخ بذلك في سيرة عبيد الله بن زياد لما امر بالخروج لحرب سيد الشهداء (ع) فقتل الشامى على أنه لم يكن ممن أمر بالخروج الى الحرب وقتل الحجاج عمرو بن ضابي البرجمي لأنه لم يستجب للالتحاق بجيش المهلب ابن أبي صفرة، وفي ذلك يقول الشاعر:

تخير فأما ان تزور ابن ضابي

عميرا وأما أن تزور المهلبا

وأدت هذه الخطة الارهابية الى ارغام الناس على الاستجابة لهم عن كره، ولو أن الامام الحسن (ع) أجبر جيشه على الطاعة، وأنزل العقاب الصارم بالمتمردين والمتخاذلين، وعاقب على الظنة والتهمة لما اصيب جيشه بتلك الزعازع والانتكاسات، ولكنه سلام الله عليه قد سلك الطريق الواضح الذي لا تعقيد فيه ولا التواء، وآثر رضاء الله في كل شيء.

هـ ـ السياسة المالية:

أما السياسة المالية التي انتهجها أهل البيت فكانت تلزم بصرف الخزينة المركزية على المصالح العامة كإنشاء المؤسسات، وايجاد المشاريع الحيوية التي تنتظم بها الحياة، ويقضى بها على شبح الفقر والحرمان، ولا يسوغ عندهم صرف درهم واحد فيما لا تعود فيه منفعة أو فائدة للأمة، وقد احتاطوا فى هذه الجهة احتياطا بالغا، فقد اطفأ الامام أمير المؤمنين سراج بيت المال عن طلحة والزبير لما أرادا أن يفاوضاه في مصالحهما الشخصية، فان الضياء الذي في بيت المال ملك للمسلمين، فلا يجوز استعماله إلا في مصالحهم.

وقد أثارت عليه هذه السياسة الصارمة أحقاد العرب، وأضغان قريش، وأقبلت إليه طائفة من أصحابه يطلبون منه أن يغير سياسته قائلين:

« يا أمير المؤمنين، اعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس ».

فلذعه هذا المنطق الرخيص وانبرى قائلا:

« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور.. » (26)

ان تفضيل العرب على الموالي، ومنح الأموال للوجوه كل ذلك جور واعتداء على حقوق المسلمين في نظر ابن أبي طالب رائد المساواة والعدالة الكبرى في الأرض.

ان أموال المسلمين يجب أن تنفق على مصالحهم، وضمان عائلهم ومحرومهم، وليس لزعيم الدولة أن يصطفي منها، أو يؤثر بها أقاربه ومن يمت إليه، فان ذلك خيانة لله وللمسلمين، وقد طبق الامام أمير المؤمنين هذه السياسة العادلة على واقع الحياة حينما آل إليه الأمر، فانه لم يقتن الدور والضياع، ولم يرفّه على نفسه فيعير لبالي ثوبه اهتماما، أو يأكل ما لذّ من الطعام، أو يتمتع بشيء من متع الحياة، وإنما كان يعيش عيشة الفقراء والبؤساء، فقد روى هارون عن أبيه عنترة قال دخلت على علي وهو بالخورنق، وعليه خلق قطيفة، وكان الوقت شديد البرد فقلت له:

« يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك ».

فانبرى (ع) مجيبا له:

« والله ما أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة. » (27)

انه ليس عنده من اللباس ما يقيه من البرد سوى خلق قطيفة جاء بها من يثرب، وفي استطاعته أن يلبس الحرير الموشى، ولكنه أبى أن يصطفي من أموال المسلمين شيئا، كما انه لم يؤثر بها أحدا من أهل بيته وأبنائه.

« قدم على عليّ مال من اصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أقسام، ودعا امراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا... » (28)

إن هذا هو العدل الذي لم تحققه الانسانية في جميع مراحل تأريخها فإنها على ما جربت من تجارب. وبلغت من رقي وابداع في فنون الحكم فانها لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنشئ نظاما سياسيا تتحقق فيه العدالة الكبرى كهذا النظام الذي وضعه ابن أبي طالب، وسار على منهاجه أبناؤه من بعده.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض المثل العليا التي ينشدونها أهل البيت في ظلال الحكم، ولو أن الامام الحسن (ع) انحرف عنها، ونهج في سياسته منهج من يعمل للدنيا، وسلك مسلك من يبغي الملك والسلطان، فراوغ وداهن، وأنفق المال في غير محله، لما آل الأمر الى ابن هند الذي سلك جميع الوسائل في سبيل الوصول الى الحكم، ولكنه سلام الله عليه آثر صيانة الاسلام، والحفاظ على مقدراته ومعنوياته، فسار بسيرة جده وأبيه التي لا تقر كل طريق يتصادم مع الدين.

* مقتبس من كتاب حياة الإمام الحسن بن علي (ع) دراسة وتحليل

........................................
(1) نهج البلاغة محمد عبده 2 / 18.
(2) أسد الغابة 4 / 31.
(3) سورة النساء: آية 56.
(4) سورة ص: آية 26.
(5) العقد الفريد 1 / 211.
(6) أصول الكافى 2 / 147.
(7) النظام السياسي في الإسلام ص 319.
(8) آس: أى شارك بين الرعية حتى في هذه الأمور البسيطة.
(9) النهج محمد عبده 3 / 85.
(10) شرح ابن أبي الحديد 1 / 180.
(11) رواه مسلم.
(12) جامع السعادات 1 / 202.
(13) نهج البلاغة
(14) نهج البلاغة 2 / 206.
(15) نهج البلاغة 1 / 151.
(16) عائلهم: أي محتاجهم، مجفو: أي مطرود من البؤس والجفاء.
(17) المقضم: المأكل.
(18) بطيب وجوهه: أي بالحل في طرق كسبه.
(19) نهج البلاغة محمد عبده 3 / 78.
(20) الملفوفة: نوع من الحلواء.
(21) هبلتك ـ بكسر الباء ـ: ثكلتك، الهبول ـ بفتح الهاء ـ: المرأة لا يعيش لها ولد.
(22) المختبط: من اختل نظام ادراكه، تهجر: أي تهذي بما لا معنى له.
(23) جلب الشعيرة ـ بكسر الجيم ـ: قشرها، وأصل الجلب: غطاء الرحل فتجوز فى اطلاقه على غطاء الحبة.
(24) سبات العقل: نومه.
(25) النهج محمد عبده 2 / 244.
(26) شرح ابن أبي الحديد 1 / 182.
(27) الكامل 8 / 173.
(28) الكامل 8 / 173.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد