الغدير مصنع الرجال الأقوياء

محمد علي جواد تقي

2021-07-28 04:55

الذليلُ عندي عزيزٌ حتى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيفٌ حتى آخذ الحقّ مِنه".

أمير المؤمنين، عليه السلام

عندما رفع رسول الله، صلى الله عليه وآله، يد علي بن أبي طالب عالياً في ظهيرة اليوم الثامن عشر من ذي الحجة في السنة الثالثة عشر من الهجرة، هاتفاً: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه"، أكد للجميع؛ الحاضرين والاجيال القادمة الى يوم القيامة استمرارية الرسالة السماوية للبشرية بما تحمله من منظومة أحكامية وأخرى قيمية، منها؛ العزة والكرامة للانسان، وقد أدرك هذا الانسان وعرف جيداً أن الحرية والرفاهية والاستقلال لن تكن ذات فائدة له وهو فاقد للكرامة، فهو ربما يكون أشبه بالحيوانات البرية التي تعيش ضمن محمية طبيعية يصنعها الانسان، فهو اينما حلّ وارتحل لن يخرج من نطاق هذه المحمية، وبالامكان السيطرة عليه أو اصطياده بأي وقت.

وقبل الغدير كان رسول الله قد رجا هذه الخصيصة لأهله و عشيرته في الايام الأولى لبعثته نبياً: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، (سورة الشعراء، الآية51)، عندما بشّرهم بأنهم سيكونوا سادة للعرب والعجم بكلمة واحدة لا أكثر، وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فكان الرفض المطلق منهم، بسبب قصر رؤيتهم لآفاق المستقبل كما كان يرى النبي الأكرم، فكان من الصعب عليهم التخلّي عن الموروث الجاهلي الذي يعيشونه لصالح تطور عظيم على المدى البعيد.

وهذا تحديداً ما حاول النبي الأكرم إيصاله الى أذهان المسلمين في تلك البرهة الزمنية مسدداً بالإرادة الإلهية التي قرنت ولاية أمير المؤمنين بالإبلاغ التام والكامل للرسالة، و ايضاً؛ بإكمال الدين، {أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، (سورة المائدة، الآية67)، وبعد ذلك الهتاف النبوي، نزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً}، (سورة المائدة، الآية3).

بيد أن "الحنين الى الجاهلية" حال بين شريحة واسعة من المسلمين، وبين القيم السمحاء للإسلام التي جاءت من اجل الانسان، مفضلين المنهج المغاير والذي طالما أذاق الانسان الذل والهوان والحرمان في عهد الجاهلية، فـ{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}، (سورة البقرة، الآية206)، واذا اردنا معرفة كيف يكون الغدير مدرسة لتربية الرجال الأشداء المملوءين عزّة وكرامة وشجاعة، لابد من التعرف على منهج المدرسة الاخرى التي واجهت مدرسة أمير المؤمنين، وما الذي فعلته بالأمة في تلك الحقبة الاستثنائية والفاصلة في التاريخ؟ فـ "الغدير لا يمثل فرداً، كما انها ليست قضية تاريخية بحتة، وأنما هو منهج متكامل أمام منهج السقيفة والمناهج الاخرى"، (منهج الغدير- آية الله السيد محمد رضا الشيرازي).

أبو ذر الغفاري من أبطال الغدير

الرجولة والبطولة لا تكون بالضرورة بحمل السلاح، او التباهي بالقوة البدنية، او بالقوة الاجتماعية (العشيرة)، والقوة السياسية (الاحزاب والمليشيات والمخابرات) إنما هي بالمواقف المشرّفة والحازمة أمام الباطل، فهو لم يعبأ بالمكانة السياسية مطلقاً عندما يشوبها الانحراف والطغيان كما حصل في عهد عثمان بن عفان، فكان يقتحم مجلسه في المدينة، وهو المدّعي خلافة رسول الله، وكان يذكّره بمنهج النبي في التعامل مع الأمة، ويحذره من عواقب التلاعب بأموال المسلمين، وظلم الناس، وعندما ضاق الاخير به ذرعاً قرر ترحيله قسراً الى الشام، حيث صاحبه معاوية (الوالي) بظنه أن الاخير يتمكن من اخماد صوته، فكان العكس تماماً، فقد كان يقترب من أسوار قصر معاوية ويتلو الآية القرآنية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}، (سورة التوبة، الآية34-35) فقال له معاوية ذات مرة: "أليس في كتاب الله غير هذه الآية؟! قال أبو ذر: بلى؛ إنما رأيت هذه الآية أكثر فائدة لك!

واذا قرأنا شخصية أبي ذر –رضوان الله عليه- في التاريخ نجده أقرب الى صورة "المستضعف" في أذهان الكثير، فهو لم يكن مسنوداً بعشيرة معروفة وقوية، ولم يكن ذو مال ووجاهة اجتماعية، ولا حتى مظهر يُحسب له حساب من عامة الناس ممن يزنون الرجال بهذه المقاييس، ولكن مدرسة الغدير لم تجعل هذا الصحابي الجليل ضعيفاً بالمرة، بل صنعت منه رجلاً مقداماً يصدح بالحق أينما حل و ارتحل، لا يخاف في الله لومة لائم، فهو لم يأخذ كرامته وعزته من الحاكم، كأن يحصل الى المديح والإطراء منه، إنما حصل عليها من إيمانه بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، لم يؤثر عمىً على هدى، ولا دنيا على آخرة، وهذا ما كان يخشاه الحكام من غير مدرسة الغدير، وما يزالون، لان رجولة وكرامة من هذا النوع من شأنها الإطاحة بهم، لذا نجد أنهم كانوا يغدقون على أشباه رجال مثل سمرة بن جندب، الذي رشاه معاوية بخمسمائة ألف درهم لحديث كاذب الى رسول الله يدعي الفضيلة لمعاوية، او شخصية حقوقية –حسب المصطلح اليوم- مثل شريح القاضي، وشخصية علمائية مثل شبث بن ربعي وأشباههم ممن يعرفون أمير المؤمنين، ويعرفون الامام الحسين، عليهما السلام، حق المعرفة، ولكنهم {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، (سورة النمل، الآية24)، فكانوا رجالاً أذلاء، رغم وجاهتهم وامتيازاتهم آنذاك، عند اشخاص مثل يزيد، او عبيد الله بن زياد، سحقوا رجولتهم وكرامتهم لمجرد تنفيذهم الأوامر واستنفاد الغرض.

إن الحق هو معيار القوة عند أمير المؤمنين، وليس شيئاً آخر، وقد جسّد هذا المفهوم في فترة حكمه "الرسمي"، بعد أن كانت المفاهيم مقلوبة رأساً على عقب طيلة حوالي ربع قرن من الزمان، فكان الحق مع من يحمل السوط والسيف والمال، فوجد، عليه السلام، أمامه مجتمعاً تسوده حالة الضِعة والاحتقار والانتكاسة النفسية بشكل بشع، وما جاء في وصاياه الشهيرة الى مالك الأشتر النخعي، بعد تعيينه والياً على مصر، تكشف عن مشروع إصلاحي جذري في السياسة والاجتماع، وتحديداً الإصلاح في المعايير، بأن "واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرطك حتى يكملك متكلمهم غير متتعتع فاني سمعت رسول الله يقول: "لن تُقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع".

واذا كانت الأمة تُقدّس بأخذها الحق للضعيف من القوي، فان صاحب الحق نفسه لن يُقدس ولن يكن كريماً إلا باستحصاله الكرامة بيده وبإرادته وعزيمته، فالحق يؤخذ ولا يُعطى، نعم؛ رسالة أهل بيت رسول الله ومنهج الإسلام تدعوان الى التضامن والتعاضد، بيد أن الواقع الاجتماعي له استحقاقاته، وإلا فان حاكم عادل بكل المواصفات التي لم يأت بها أحدٌ من بعده مثل؛ أمير المؤمنين، هل كان يجوب بيوت وطرقات الكوفة وهي بتلك الوسعة والكثافة السكانية؟

ولنا في قصة تلك المرأة المتخاصم معها زوجها وكانت تبكي خارج الدار بعد أن طردها زوجها، فبعد أن صالح أمير المؤمنين بينهما، قال لها وهي تدخل الدار: "لا تلجأي زوجك الى مثل هذا". هذه الكلمات السريعة في لحظات خاطفة هي التي تدوّن آلية أخذ الحق دون خوف أو عجز.

مجتمع الغدير يصنع الشجعان أمام الباطل

هنا يقفز السؤال: ما هي الآلية التي تمكّن الناس من أخذ الحق لصاحبه "غير متتعتع" ولا خائف، بل بكل شجاعة واقتدار؟

بعد أن عرفنا منهج الغدير، حريٌ بنا البحث عن لبنات المجتمع الغديري الباحث عن الحق أبداً، وهذا بدوره يضعنا أمام الحاجة لمعالجة حالة الاستضعاف التي سلبت من صاحب الحق حقه، وهل هي حالة نفسية ملازمة لبعض أفراد المجتمع؟

القرآن الكريم يكشف لنا حقيقة القوة والمكنة الموهوبة للانسان من الله –تعالى- وأنه لم يُخلق مطلقاً ليكون ذليلاً وضعيفاً أمام غيره، وفي آيات عدّة يشير القرآن الكريم الى حالة "الاستضعاف" في سياق الحديث عن المواجهة بين الحق والباطل، وبين الحاكم والمحكوم، وبالامكان مراجعة الآيات الخاصة بالصراع الدائر بين بني اسرائيل وفرعون، ومن ثمّ مسيرة العلاقة فيما بينهم وبين نبيهم؛ موسى، عليه السلام: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ}، (سورة القصص، الآية:4)، بما يعني ثمة عوامل خارجية وأخرى ذاتية تسبب حالة الاستضعاف فتعيي الانسان عن استحصاله حقّه، والقرآن الكريم يدعو الانسان لمعالجة هذه الحالة وعدم استسهالها؛ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، (سورة النساء، الآية97)، "ولم يقولوا ضعفاء لان الله لم يخلق أحداً ضعيفاً بل الناس هم الذين يساهمون في إضعاف انفسهم، او اضعاف بعضهم البعض"، وهذا بدوره يفتح لنا باباً جديداً نحو كيفية الخروج من حالة الاستضعاف الى حالة القوة والمَنَعة –قدر الإمكان-، وهذا استحقاق اجتماعي اكثر مما هو فردي، فالمجتمع المسكون بمشاعر الضِعة والهزيمة النفسية كيف يتسنّى له مساعدة أحد ابنائه على استعادة حقّه وبالشكل اللائق الذي يطمح اليه أمير المؤمنين، عليه السلام؟

مرة أخرى نستعين بالقرآن الكريم ليرشدنا الى سبل معالجة الاستضعاف للتمكّن من مواجهة الطغيان والظلم، وفيه تأكيد على أن "المسؤولية كبيرة وثابتة عقلاً وشرعاً، بدلالة الآيات القرآنية الكريمة والروايات الشريفة المتواترة الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منها؛ الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"، وليس المراد المنكر الذي يصدر من الافراد العاديين فحسب، بل وايضاً المنكر الذي يصدر من الحاكم وأولي المُكنة والقوة بشكل أولى، لأنه أشد نكراً، واشدّ تأثيراً، وأكثر تخريباً، فالواجب في مواجهة الطغاة بمختلف السبل الشرعية والعقلائية مثل؛ وسائل الاعلام، والاحتجاج السلمي"، (ملامح العلاقة بين الدولة والشعب- آية الله السيد مرتضى الشيرازي).

هذا هو منهج الغدير، ومنهج أمير المؤمنين، ومن قبله رسول الله، أرادوا لأفراد الأمة العزّة والكرامة دون الحاجة الى الصدامات والدماء، فالحق الذي يقصده الأمام، عليه السلام، يمثل أمراً بديهياً في الحياة، وليست منّة او فضل يتفضل به أحد على آخر، إنما الباطل والانحراف هو الحالة الشاذة التي يفترض ان يكون صاحبها "متتعتع" تعيه الحيلة كيف يمررها بين الناس؟!

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي