الامام علي (ع): لكي نفهم المعنى
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2021-05-04 04:28
مدرسة أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
دروس للأب الذي يريد أن يربّي أبناءه..
دروس للتلميذ وكيف يتعامل مع أستاذه..
دروس للمعلم وكيف يعلّم تلاميذه..
دروس للزوج وكيف يجب أن يكون في البيت..
دروس للصديق وكيف يلزم أن يكون مع أصدقائه..
دروس لمن يريد أن يعيش في المجتمع سعيداً..
دروس للمصلح الذي يريد صلاح مجتمعه..
دروس للحاكم الذي يريد لشعبه أن الخير والتطور..
ولدولته أن تكون متقدمة دائماً..
فالمستقبل بأيدينا، ونحن قادرون على صنعه إذا صممنا على ذلك. بأن نسلك الطريق الذي سلكه أمير المؤمنين (عليه السلام) لنسعد في الدنيا ونفوز في الآخرة.
قال عزوجل: (وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ) (1).
صف لي علياً (عليه السلام)
وقد وصف الإمام علياً (عليه السلام) أحد أصحابه، وهو ضرار عندما سأله معاوية قائلاً: صف لي علياً. فقال ضرار:
(كان (عليه السلام) والله بعيدَ المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة على لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظُلمته، كان والله غزيرَ الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله معنا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع دنوه لنا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ النظيم.
يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولاييأس الضعيف عن عدله.
أشهد بالله لرأيته (عليه السلام) في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، مماثلاً في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني اسمعه وهو يقول: "يا دنيا يا دنيا أبي تعرّضتَ، أم إليّ تشوقتِ، هيهات هيهات، غُرّي غيري لا حان ضيك، قد ابَنْتُكِ ثلاثاً، عمرك قصير، وخيرك حقير، وخطرك غير كبير، آهٍ آهْ من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق)(2).
وقال صعصعة بن صوحان في وصفه للإمام (عليه السلام): (كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير...) (3).
الزهد في السلطة
بعد مقتل عثمان أجمعت الأمّة على بيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة للمسلمين، ولأوّل مرّة تمّ مثل الإجماع على اختيار خليفة وحاكم على الأمة، بعد ما أجمعوا عليه يوم الغدير ولكنهم لم يفوا ببيعتهم.
وقد حاول الإمام (عليه السلام) حينما جاء الناس إليه ثانية، أن يتخلّص من هذه المسؤولية، قائلاً لهم:
(دعوني والتمسوا غيري؛ فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لاتقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت..)(4).
فالإمارة المجرّدة عن المبادئ والأهداف لا تساوي عند أمير المؤمنين (عليه السلام) جناح بعوضة، بل الدنيا كلّها عنده كعفطة عنـز(5)، أو عراق خنزير في يد مجذوم(6)، أو نعل مرقع(7) (كما عبّر هو (عليه السلام) عن ذلك) إلاّ أن يقيم حقّاً أو يدفع باطلاً (8).
قال الإمام (عليه السلام) في خطبة له:
(فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون عليّ من كل جانبٍ حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفةٌ ومرقت أخرى وقسط آخرون!! كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لايُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(9) بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقاروا على كظة ظالمٍ ولا سغب مظلومٍ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ..) (10).
وهو (عليه السلام) القائل: (إن دنياكم هذه لأهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم، وأحقر من ورقة في فم جرادة، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لاتبقى) (11).
وهو (عليه السلام) القائل: (والله، لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً أو أجرّ في الأغلال مصفداً أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيءٍ من الحطام؛ وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها؟!..
والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها... )(12).
العدالة في معناها
روي عن أبي إسحاق الهمداني، قال: إن امرأتين أتتا علياً (عليه السلام) عند القسمة: إحداهما من العرب، والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسةً وعشرين درهماً وكُرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم؟!
فقال علي (عليه السلام): (والله، لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق).(13)
وخطب أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أيها الناس، إن آدم لم يلد عبداً ولا أمةً، وإن الناس كلهم أحرارٌ، ولكن الله خول بعضكم بعضاً، فمن كان له بلاءٌ فصبر في الخير فلا يمن به على الله عزوجل، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوُّون فيه بين الأسود والأحمر).
فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما؛ قال: فأعطى كل واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء بعدُ غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير. فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين هذا غلامٌ أعتقته بالأمس، تجعلني وإياه سواءً؟!
فقال (عليه السلام): (إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً) (14).
جاء في العهد الشريف إلى محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه):
(فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة؛ حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولاييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإنّ الله تعالى يُسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإنّ يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم)(15).
وكتب الإمام (عليه السلام) لوال آخر من ولاته:
(سَعِ الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإيّاك والغضب؛ فإنّه طيرة من الشيطان، واعلم أنّ ما قرّبك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار)(16).
وفي مرة وصلته (عليه السلام) أخبار عن أحد ولاته وهو عثمان بن حنيف ـ واليه على البصرة ـ أنّه حضر مأدبة لأحد أغنياء البصرة، فخشي الإمام (عليه السلام) أن ينجذب واليه إلى هذا الشكل من الحياة، وإلى هذا النمط من الرجال؛ فينحرف عن الحقّ ويهمل قيم العدالة والمساواة، فكتب إليه:
(أمّا بعدُ يا بن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تُستطاب لك الألوان وتُنقل إليك الجفان، وما ظننتُ أنّك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفو وغنيهم مدّعو!! فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضّم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألاّ وإنّكم لا تقدرون على ذلك؛ ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةً وسداد) (17).
وكتب الإمام (عليه السلام) إلى عامله مصقلة الشيباني، مهدداً متوعداً إيّاه في شيء بلغه عنه:
(بلغني عنك أمرٌ، إن كنتَ فعلتَه فقد أسخطتَ إلهك وعصيتَ إمامك؛ أنّك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لئن كان ذلك حقّاً لتجدنّ لك عليّ هواناً، ولتخفّنّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحقّ ربّك ولا تصلح دنياك بمحق دينك؛ فتكون من الأخسرين أعمالاً، ألا وإنّ حقّ من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواءٌ، يردون عندي عليه، ويصدرون عنه)(18).
وكتب الإمام (عليه السلام) إلى عامل آخر من عمّاله:
(أمّا بعدُ، فقد بلغني عنك أمر إن كنتَ فعلتَه فقد أسخطت ربّك وعصيت أمامك وأخزيت أمانتك، بلغني إنّك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس) (19).
وكان الإمام (عليه السلام) لا يدخر شيئاً لنفسه أو لأحبته أو لعماله أو غيرهم، بل كان يقسمه بين جميع المسلمين.
ذكر الحَكَم: شهدت عليّاً (عليه السلام) اُتي له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى وقال: (ذوقوا والعقوا)، حتّى تمنيت أنّي يتيم، فقسّمه بين الناس وبقي منه زق فأمر أن يسقاه أهل المسجد(20).
وعن هارون بن عنترة عن زاذان قال: انطلقت مع قنبر إلى علي (عليه السلام) فقال: قمّ يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئة!!
قال (عليه السلام): (فما هو؟!). قال: قمّ معي.
فقام فانطلق به إلى بيته، فإذا بأسنة مملوَّة جامات من ذهب وفضّة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك لا تترك شيئاً إلاّ قسمته فادخرت لك هذا!!
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة).
فسلّ سيفه فضربه فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه أو ثلثه، ثمّ قال:(اقسموه بالحصص) ففعلوا، فجعل يقول:
هذا جناي وخياره فيه-----وكل جان يده إلى فيه (21).
وعن الحَكَم: إنّ عليّاً (عليه السلام) قسّم فيهم الرّمّان حتّى أصاب مسجدهم سبع رمّانات وقال: أيّها الناس إنّه يأتينا أشياء نستكثرها إذا رأيناها ونستقلّها إذا قسمناها، وإنّا قد قسمنا كل شيء أتانا(22).
وقال: وأتته (عليه السلام) صفائح فضة فكسّرها وقسّمها بيننا(23).
وعن أبي مصعب، قال: كان علي (عليه السلام) يقسم بيننا كل شيء حتى كان يقسم العطور بين نسائنا(24).
وعن أم علاء قالت: قسم علي (عليه السلام) فينا ورساً وزعفراناً(25).
وروي عن أبي حمزة الثمالي عن الأصبغ بن نباتة أنه قال: كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا أتي بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثم جمع المستحقين، ثم ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة، وهو يقول: (يا صفراء، يا بيضاء، لا تغريني غُري غيري، هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه). ثم لا يخرج حتى يفرق ما في بيت مال المسلمين، ويؤتي كل ذي حق حقه، ثم يأمر أن يكنس ويرش ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يطلق الدنيا ثلاثاً يقول بعد التسليم: (يا دنيا لا تتعرضين لي ولا تتشوقين ولا تغريني فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي عليك)..(26).
وقد انتشر العدل في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) وزال الظلم من بلاد المسلمين حتّى لم يشهد العالم مثله.
يقول الإمام (عليه السلام) في كلمة له: (ولو شئت لاهتديتُ الطريق إلى مصفى هذا العسل ولُباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكباد حرى...
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم من مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش)(27).
هكذا كان يعيش
كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أوّل ما طبق العدالة طبّقها على نفسه وأسرته، فقد ساوى (عليه السلام) بينه وبين أفقر الناس في معيشته وفي مسكنه وكان يواسيهم.
عاش (عليه السلام) في بيت متواضع لا يختلف عمّا يسكنه فقراء الأمّة، وقيل: كان البيت أجاراً.
وكان (عليه السلام) يأكل الشعير الذي تطحنه زوجته الصديقة فاطمة (عليها السلام) أو يطحنه هو بيده، سواء في ذلك قبل خلافته أو بعدها.
وكان (عليه السلام) يمشي لوحده بلا أبهّة ولا حاشية، وكان يجالس الفقراء، ويجلس على الأرض للقضاء وغيره، وقد شابه في ملبسه أفقر الناس، فكان يلبس أخشن لباس وأبسطه، ومبدؤه في ذلك:
(..ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطُمريه، ومن طُعمه بقُرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك؛ ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد. فو الله، ما كنـزتُ من دنياكم تِبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعدّدت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزتُ من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة(28))(29).
وعن هارون بن عنترة عن أبيه إنّه قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخورنق وهو يرعد تحت سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين! إنّ الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعم، وأنت تصنع ما تصنع؟! فقال (عليه السلام): (والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً، وإن هذا لقطيفتي التي أخرجتها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها)(30).
وروي أن علياً (عليه السلام) خرج إلى السوق يوماً ليبيع سيفه وقال: (من يشتري مني هذا فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته)(31).
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال علي (عليه السلام): (دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين)(32).
وفي رواية قال علي (عليه السلام): (يا أهل البصرة ما تنقمون مني، إن هذا لمن غزل أهلي) وأشار إلى قميصه(33)..
وترصد غداءه (عليه السلام) عمرو بن حريث يوماً، فأتت فضة بجراب مختوم فأخرج (عليه السلام) منه خبزاً متغيراً خشناً، فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق و طيبتيه، قالت: كنت أفعل فنهاني وكنت أضع في جرابه طعاما طيبا فختم جرابه، ثم إن أمير المؤمنين (عليه السلام) فتّه في قصعة وصب عليه الماء ثم ذر عليه الملح وحسر عن ذراعه فلما فرغ قال: (يا عمرو لقد حانت هذه ومدّ يده إلى محاسنه، وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام وهذا يجزيني)(34).
ورآه (عليه السلام) عدي بن حاتم و بين يديه شنة فيها قراح ماء و كسرات من خبز شعير وملح فقال: إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاويا مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك؟ فقال (عليه السلام):
(علّل النفس بالقنوع، وإلا طلبتْ منك فوق ما يكفيها)(35).
وقال سويد بن غفلة: دخلت عليه (عليه السلام) يوم عيد فإذا عنده فاثور عليه خبز السمراء وصفحة فيها خطيفة وملبنة، فقلت: يا أمير المؤمنين يوم عيد وخطيفة؟ فقال: (إنما هذا عيد من غفر له)(36).
وفي المناقب: وضع خوان من فالوذج بين يدي علي (عليه السلام) فوجأ بإصبعه حتى بلغ أسفله ثم سلها ولم يأخذ منه شيئاً وتلمظ بإصبعه وقال: (طيب طيب وما هو بحرام ولكن أكره أن أعود نفسي بما لم أعودها)(37).
وفي خبر آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنه (عليه السلام) مد يده إليه ثم قبضها، فقيل له في ذلك، فقال: ذكرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يأكله قط، فكرهت أن آكله)(38).
وفي خبر آخر عنه (عليه السلام) أنه قالوا له: أتحرمه؟ قال (عليه السلام): (لا، ولكن أخشى أن تتوق إليه نفسي ثم تلا: (أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا)(39)) (40).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في خبر: (كان علي (عليه السلام) ليطعم خبز البُرّ واللحم وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل)(41).
وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يوماً وليس في داره سوى حصير صغير رث، وهو جالس عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، بيدك بيت المال، لست أرى في بيتك شيئاً مما يحتاج إليه البيت.. أنت ملك المسلمين والحاكم عليهم، وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود، وليس في بيتك سوى هذا الحصير؟!
فبكى (عليه السلام) وقال: (يا سويد، إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة، ولنا دار قد نقلنا إليها خير متاعنا، وإنّا عن قليل إليها صائرون).
قال سويد: فأبكاني والله كلامه(42).
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا أراد أن يكتسي دخل السوق فيشتري الثوبين فيخير قنبرا أجودهما ويلبس الآخر، ثم يأتي النجار فيمد له إحدى كميه ويقول: خذه بقدومك، ويقول: هذه تخرج في مصلحة أخرى، ويبقى الكم الأخرى بحالها ويقول: هذه تأخذ فيها من السوق للحسن والحسين)(43).
هذا وقد روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: (ما أصبح بالكوفة أحد إلاّ ناعماً، إن أدناهم منزلة ليأكل البُرّ، ويجلس في الظل، ويشرب من ماء الفرات)(44).
وفي سبيل تربية الأمة وتدريبهم على التعامل الصحيح وبناء العلاقة السليمة مع القائد يقول الإمام (عليه السلام):
(فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منى بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي؛ فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحقٍ أو مشورةٍ بعدل)(45).
وخرج الإمام (عليه السلام) يوماً على أصحابه وهو راكب، فمشوا معه فالتفت إليهم فقال لهم: (لكم حاجة؟)
فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبُّ أن نمشي معك.
فقال لهم: (انصرفوا، فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي)(46).
وقد استقبله زعماء الأنبار وترجلوا بين يديه فقال الإمام (عليه السلام):
(ما هذا الذي صنعتموه؟). فقالوا: خلقٌ منا نعظّم به أمراءنا.
فقال (عليه السلام): (والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنّكم لتشقون به على أنفسكم، في دنياكم وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار)(47).
وكان (عليه السلام) يوصي ولاته وجباة الأموال والجيوش برعاية أدق معاني الفضيلة والعدالة والإنسانية، فمن قوله (عليه السلام) لولاته:
(سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان، واعلم أنّ ما قربك من الله يباعدك من النار وما باعدك من الله يقربك من النار)(48).
وكان (عليه السلام) يقول: (انصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيتك؛ فإنك إلاّ تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)(49).
وكان (عليه السلام) يقول لجباة الصدقات:
(إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنا أمرنا أن نأخُذ منهم العفو)(50).
كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحنّ على الأمّة ويواسيهم، وإذا رأى ضعيفاً أو يتيماً أصلح حاله.
ولما رأى إنساناً يتكفف في الكوفة وقف وقال: (ما هذا؟).
قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال)(51).
الوصية الخالدة
وفي اللحظات الأخيرة من حياته (عليه السلام) أوصى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) بوصايا هي في الواقع وصية لكل المسلمين، قال:
(أوصيكما بتقوى الله، وإلاّ تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفاً على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم؛ فإنّي سمعت جدكما (صلى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام).
وقال (عليه السلام): (أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل.
أيّها الناس: إنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عَقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا. فقال سبحانه وتعالى:
(فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ)(52) فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة)(53).
وقال (عليه السلام): (أيها الناس: إنما الدنيا دار مجازٍ والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختُبرتم، ولغيرها خُلقتم، إن المرء إذ هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ لله آباؤكم، فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً، ولا تخلفوا كلاً فيكون فرضاً عليكم)(54).
وقال (عليه السلام):
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد، زاد مبلغ ومعاد منجح، دعا إليها أسمع داعٍ، ووعاها خير واع، فأسمع داعيها وفاز واعيها. عباد الله، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والري بالظمأ، واستقربوا الأجل، فبادروا العمل، وكذبوا الأمل، فلاحظوا الآجل)(55).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَلا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ، إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ وَضَمِنَهُ وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ)(56).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لا يَسْتَفِيقُ عَنْ جَهْلِهِ، بَلْ قَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَالْحَسْرَةُ أَدْوَمُ عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْمُنْسَلِخِ مِنْ عِلْمِهِ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْجَاهِلِ الْمُتَحَيِّرِ فِي جَهْلِهِ، وَكِلاهُمَا حَائِرٌ بَائِرٌ، لا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا، وَلا تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا، وَلا تُرَخِّصُوا لأنْفُسِكُمْ فَتُدْهِنُوا، وَلا تُدْهِنُوا فِي الْحَقِّ فَتَخْسَرُوا، وَإِنَّ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَفَقَّهُوا، وَمِنَ الْفِقْهِ أَنْ لا تَغْتَرُّوا، وَإِنَّ أَنْصَحَكُمْ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُكُمْ لِرَبِّهِ، وَأَغَشَّكُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاكُمْ لِرَبِّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ يَأْمَنْ وَيَسْتَبْشِرْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يَخِبْ وَيَنْدَمْ)(57).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنِ انْزَعَجَ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ فِيهِ، وَلا بِحَكِيمٍ مَنْ رَضِيَ بِثَنَاءِ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ، النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ، وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ، فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ تَبَيَّنْ أَقْدَارُكُمْ)(58).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً، وَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلافٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى)(59).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ لَوْلا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ كُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، أَلا إِنَّ لِكُلِّ غُدَرَةٍ فُجَرَةً، وَلِكُلِّ فُجَرَةٍ كُفَرَةً، أَلا وَإِنَّ الْغَدْرَ وَالْفُجُورَ وَالْخِيَانَةَ فِي النَّارِ)(60).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الإِسْلامِ، وَلا كَرَمَ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَى، وَلاَ مَعْقِلَ أَحْرَزُ مِنَ الْوَرَعِ، وَلا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلاَ لِبَاسَ أَجْمَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَلاَ وِقَايَةَ أَمْنَعُ مِنَ السَّلامَةِ، وَلاَ مَالَ أَذْهَبُ بِالْفَاقَةِ مِنَ الرِّضَا بِالْقَنَاعَةِ، وَلا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقُنُوعِ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ، وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ التَّعَبِ، وَالاحْتِكَارُ مَطِيَّةُ النَّصَبِ، وَالْحَسَدُ آفَةُ الدِّينِ، وَالْحِرْصُ دَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَهُوَ دَاعِي الْحِرْمَانِ وَالْبَغْيُ، سَائِقٌ إِلَى الْحَيْنِ وَالشَّرَهُ، جَامِعٌ لِمَسَاوِي الْعُيُوبِ، رُبَّ طَمَعٍ خَائِبٍ، وَأَمَلٍ كَاذِبٍ، وَرَجَاءٍ يُؤَدِّي إِلَى الْحِرْمَانِ، وَتِجَارَةٍ تَئُولُ إِلَى الْخُسْرَانِ، أَلا وَمَنْ تَوَرَّطَ فِي الأمُورِ غَيْرَ نَاظِرٍ فِي الْعَوَاقِبِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمُفْضِحَاتِ النَّوَائِبِ، وَبِئْسَتِ الْقِلادَةُ الذَّنْبُ لِلْمُؤْمِنِ)(61).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لا مَالَ هُوَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلا فَقْرَ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلا وَاعِظَ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ النُّصْحِ، وَلا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ، وَلا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلا وَحْشَةَ أَشَدُّ مِنَ الْعُجْبِ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَلا حِلْمَ كَالصَّبْرِ وَالصَّمْتِ)(62).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ، وَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ، وَمَنْ لا يَعْلَمْ يَجْهَلْ، وَمَنْ لا يَتَحَلَّمْ لا يَحْلُمْ، وَمَنْ لا يَرْتَدِعْ لا يَعْقِلْ، وَمَنْ لا يَعْلَمْ يُهَنْ، وَمَنْ يُهَنْ لا يُوَقَّرْ، وَمَنْ لا يُوَقَّرْ يَتَوَبَّخْ، وَمَنْ يَكْتَسِبْ مَالاً مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِ أَجْرِهِ، وَمَنْ لاَ يَدَعْ وَهُوَ مَحْمُودٌ يَدَعْ وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِ قَاعِداً مُنِعَ قَائِماً، وَمَنْ يَطْلُبِ الْعِزَّ بِغَيْرِ حَقٍّ يَذِلَّ، وَمَنْ يَغْلِبْ بِالْجَوْرِ يُغْلَبْ، وَمَنْ عَانَدَ الْحَقَّ لَزِمَهُ الْوَهْنُ، وَمَنْ تَفَقَّهَ وُقِّرَ، وَمَنْ تَكَبَّرَ حُقِّرَ، وَمَنْ لا يُحْسِنْ لا يُحْمَدْ)(63).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الْمَنِيَّةَ قَبْلَ الدَّنِيَّةِ، وَالتَّجَلُّدَ قَبْلَ التَّبَلُّدِ، وَالْحِسَابَ قَبْلَ الْعِقَابِ، وَالْقَبْرَ خَيْرٌ مِنَ الْفَقْرِ، وَغَضَّ الْبَصَرِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّظَرِ، وَالدَّهْرَ يَوْمٌ لَكَ وَيَوْمٌ عَلَيْكَ، فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلا تَبْطَرْ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ، فَبِكِلَيْهِمَا تُمْتَحَنُ)(64).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ، وَلا عِزَّ أَرْفَعُ مِنَ الْحِلْمِ، وَلاَ حَسَبَ أَبْلَغُ مِنَ الأَدَبِ، وَلا نَصَبَ أَوْضَعُ مِنَ الْغَضَبِ، وَلا جَمَالَ أَزْيَنُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلا سَوْأَةَ أَسْوَأُ مِنَ الْكَذِبِ، وَلا حَافِظَ أَحْفَظُ مِنَ الصَّمْتِ، وَلا غَائِبَ أَقْرَبُ مِنَ الْمَوْتِ)(65).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ أَعْجَبُ مَا فِي الإنْسَانِ قَلْبُهُ، وَلَهُ مَوَادُّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَأَضْدَادٌ مِنْ خِلافِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ، وَإِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَإِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الأسَفُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَإِنْ أُسْعِدَ بِالرِّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ، وَإِنْ نَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ، وَإِنِ اتَّسَعَ لَهُ الأمْنُ اسْتَلَبَتْهُ الْعِزَّةُ، وَإِنْ جُدِّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، وَإِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَإِنْ عَضَّتْهُ فَاقَةٌ شَغَلَهُ الْبَلاءُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ، وَإِنْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، وَإِنْ أَفْرَطَ فِي الشِّبَعِ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ، وَكُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ)(66).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ مَنْ فَلَّ ذَلَّ، وَ مَنْ جَادَ سَادَ، وَمَنْ كَثُرَ مَالُهُ رَأَسَ، وَمَنْ كَثُرَ حِلْمُهُ نَبُل، وَمَنْ أفْكَرَ في ذاتِ اللهِ تَزَنْدَق)(67).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ، وَمَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ اللَّهِ لَمْ يَأْسَفْ عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ، وَمَنْ حَفَرَ لأخِيهِ بِئْراً وَقَعَ فِيهَا، وَمَنْ هَتَكَ حِجَابَ غَيْرِهِ انْكَشَفَ عَوْرَاتُ بَيْتِهِ، وَمَنْ نَسِيَ زَلَلَهُ اسْتَعْظَمَ زَلَلَ غَيْرِهِ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ، وَمَنِ اسْتَغْنَى بِعَقْلِهِ زَلَّ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ)(68).
وقال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ آدَمَ لَمْ يَلِدْ عَبْداً وَلا أَمَةً، وَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ)(69).