أبو طالب (ع): حامي الإسلام والرصيد الأعظم
ذكرى وفاته في السادس والعشرين من شهر رجب في السنة العاشرة للبعثة النبوية
الشيخ باقر شريف القرشي
2021-03-13 04:50
بقلم: الشيخ باقر شريف القرشي-مقتبس من موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
أمّا أبو طالب فهو حامي الإسلام، والرصيد الأعظم للدعوة الإسلامية منذ بزوغ نورها، فهو القوّة الضاربة التي حمت الإسلام حينما هبّت طغاة قريش وعتاتهم لإطفاء نور الله وإخماد شعلة التوحيد، ومن المؤكّد أنّه لو لا حماية أبي طالب للنبيّ (صلى الله عليه وآله) لما استطاع أن يبلّغ رسالة ربّه، ويقف بعزم وشموخ أمام تلك الوحوش الكاسرة مستهينا بها محتقرا لأصنامها ساخرا من تقاليدها وعاداتها، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض مواقفه البطولية في نصرة الإسلام، والذبّ عن حمى الرسول (صلى الله عليه وآله) التي سجّلت له بمداد من النور والفخر، وفيما يلي ذلك:
رعايته للنبيّ (صلى الله عليه وآله):
وعنى أبو طالب عناية بالغة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وقام بجميع خدماته وشئونه، وتولّى رعايته منذ نعومة أظفاره، فكان المربّي والحارس له، فقد علم بما سيكون في مستقبل حياته من السمو والعظمة، وأنّه سيملأ الدنيا نورا ووعيا، وأنّه رسول ربّ العالمين، وخاتم المرسلين، وسيّد النبيّين، وقد أحاطه الكهّان علما بذلك، وحذّروه من فتك اليهود واغتيالهم له، يقول الرواة: إنّ أبا طالب سافر للتجارة إلى الشام مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) فسارع إليه الراهب فقال له: إنّي أنصحك أن ترجع بابن أخيك من مكانك هذا وإن أدّى ذلك إلى ذهاب أموالك وخسارتك في تجارتك، فإنّي لا آمن عليه من دسائس الشرك ومكائد اليهود؛ فإنّهم إن عرفوا الذي عرفته فلا يولّوا حتّى يلحقوا به الأذى، بل يغتالونه بكلّ نشاط وقوّة (1)، وقفل أبو طالب راجعا إلى مكّة، ولم يمض في تجارته إلى الشام حفظا لابن أخيه، وبلغ من رعايته له أنّه كان يصحبه معه في فراشه خوفا عليه (2)، كما كان ينقله في غلس الليل من مكان إلى مكان، ويمضي ليله ساهرا على حراسته لئلا يغتاله أحد.
حمايته للإسلام:
ولمّا أعلن النبيّ (صلى الله عليه وآله) دعوته الخالدة الهادفة لتحرير الإنسان وإنقاذه من ظلمات الجهل وعبادة الأوثان هبّت قريش عن بكرة أبيها فزعة كأشدّ ما يكون الفزع له لإطفاء شعلة التوحيد.
لقد أوجدت الدعوة الإسلامية في المجتمع الجاهلي انقلابا فكريا وتحوّلا اجتماعيا مهيبا، فقد خافت قريش على مصالحها وتقاليدها، وخافت على نسائها وأبنائها من الانجراف بالشعارات والمبادئ التي أعلنها النبيّ (صلى الله عليه وآله)، لقد خافوا على آلهتهم وأصنامهم التي سخر منها النبيّ ودعا إلى تحطيمها وتدميرها، فورمت آنافهم، وانتفخ سحرهم، وأجمعوا اكتعين على مناجزته وإطفاء نور رسالته، إلاّ أنّ أبا طالب، بطل الإسلام وقف سدّا منيعا لحمايته، وكان يبعث النشاط والحماس في نفس ابن أخيه لإشاعة مبادئه، وقد خاطبه بهذه الأبيات:
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر بذاك وقرّ منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمّد
من خير أديان البريّة دينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتّى أوسّد في التّراب دفينا (3)
وحكت هذه الأبيات إيمانه العميق بالإسلام ووقوفه إلى جانب النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحمايته لدعوته، وأنّ القوى المعادية له مهما بذلت من جهد فإنّها لن تستطيع أن تصدّه عن إشاعة مبادئه وتبليغ رسالة ربّه.
وقد صمّم أبو طالب على حماية النبيّ (صلى الله عليه وآله) والذبّ عنه بجميع طاقاته، وقد خاطب القرشيّين قائلا:
كذبتم وبيت الله نخلي محمّدا
ولمّا نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتّى نصرّع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل (4)
ومعنى ذلك أنّه لا يخلي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولا يترك قريشا تعتدي عليه، وسيدافع عنه حتّى يصرع هو وأهل بيته دونه.
لقد هام أبو طالب في ولائه للنبيّ، وملك عواطفه ومشاعره، وهو القائل فيه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقد وقع هذا البيت في نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) موقعا عظيما، ويقول الرواة: إنّ أهل المدينة أصابهم قحط شديد فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصعد المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما خشي منه أهل المدينة من الغرق، فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: « اللهمّ حوالينا ولا علينا »، فانجاب السحاب عن المدينة وصار حواليها، فقال النبيّ: « لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرّه »، فالتفت الإمام (عليه السلام) إلى النبيّ فقال له: « كأنّك أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل » (5)
كما كان لهذا البيت وقع خاصّ عند الاسرة النبوية، فقد أنشدته سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) في الساعات الأخيرة من حياة أبيها فقال لها أبوها بلطف: «هذا قول عمّي أبي طالب»، وتلا قوله تعالى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...) الآية (6).
وعلى أي حال فقد خفّ جماعة من رؤساء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يسلّم لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) لتصفيته جسديا ويعطوه عوض ذلك عمارة وهو من أنبل فتيان قريش، ومن أصبحهم وجها، فسخر منهم أبو طالب وصاح بهم: «والله ما أنصفتموني أيّها الحمقى، تبّا لكم وسحقا! أتريدون منّي أن اعطيكم روحي وولدي لتقتلوه، وتعطوني ابنكم اربّيه لكم! ما لكم كيف تحكمون، أترجون منّي أن أستبدل محمّدا بعمارة بن الوليد، فو الذي نفسي بيده لو أعطيتموني العالم كلّه لما استبدلته بظفر من رجل محمّد، فإليكم عنّي، لا تكلّموني، وإلاّ علوت رءوسكم بالسيف».
وانصرفوا خائبين خاسرين، قد خيّب آمالهم وسخر منهم أبو طالب ووقف بصلابة لحماية النبيّ (صلى الله عليه وآله). لقد وقف أبو طالب منافحا عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولو لا حمايته له لما أبقى القرشيّون للنبيّ ولا لدعوته أيّ ظلّ.
مع النبيّ في الشعب:
وضاق القرشيّون ذرعا من دعوة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، واشتدّ فزعهم منها، وزادهم أسى وحزنا إيمان بعض أبنائهم وغلمانهم ونسائهم وعبيدهم، وهم يسخرون بآلهتهم ويعيبون عليهم تقاليدهم وعاداتهم، ويحكمون بنجاستهم فأجمع رأي الطغاة والرؤساء منهم على اعتقال النبيّ، وسائر بني هاشم وبني المطّلب، وحبسهم في شعب أبي طالب خارج مكّة، وكتبوا فيهم صحيفة سجّلوا فيها بنودا قاسية وعلّقوها في جوف الكعبة، وهذه بعض موادها:
1 ـ حرمانهم من المواد الغذائية.
2 ـ منع الدخول عليهم.
3 ـ عدم الزواج منهم.
4 ـ منع ايصال الماء لهم.
5 ـ منع ايصال الفراش لهم.
6 ـ عدم فكّ الحصار عنهم، إلاّ أن يسلّموا لهم النبيّ.
7 ـ إقامة حرس على باب الشعب لمنع كلّ من يحاول الهرب منهم (7).
ووقّع على الصحيفة أبو سفيان، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبو البختري، وأبو لهب، وعمرو بن العاص وغيرهم من طغاة القرشيّين، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة.
وحاول مردة القرشيّين اغتيال النبيّ في الشعب، فخاف عليه أبو طالب فكان يقيم ولده الإمام أمير المؤمنين في مكانه، واستمر الحصار الظالم ثلاث سنين عجاف، وكانت السيّدة الزكية أمّ المؤمنين خديجة هي التي تمدّهم بما يحتاجونه من الطعام والشراب وغير ذلك من النفقات حتى أنفقت عليهم جميع ما عندها من الثراء العريض حتى فرّج الله عنهم.
وبعث الله تعالى الأرضة على صحيفتهم فأتت عليها، ولم تترك منها كلمة سوى لفظ الجلالة، وأحاط النبيّ (صلى الله عليه وآله) عمّه أبا طالب علما بذلك فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع القرشيّون فقال لهم:
إنّ ابن أخي أخبرني أنّ الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم، وتركت اسم الله تعالى فأحضروها فإن كان صادقا علمتم أنّكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذبا علمنا أنّكم على حقّ وإنّا على باطل.
فانبروا مسرعين إلى الصحيفة فوجودها كما أخبر عنها أبو طالب واشتدّت صولته، وخاطب قريش قائلا:
إنّكم أولى بالظلم والقطيعة، وقال في ذلك:
وقد كان في أمر الصّحيفة عبرة
متى ما يخبّر غائب القوم يعجب
محا الله ذكراهم وأفنى عقوقهم
وما نقموا من ناطق الحقّ معرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا
ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب (8)
وأفرج الله تعالى عن نبيّه وسائر من كان معه من الهاشميّين، فقد انبرى ابن اميّة إلى قريش فخطب فيهم خطابا بليغا، وطلب منهم فكّ الحصار عن الهاشميّين فردّه أبو جهل ردّا عنيفا إلاّ أنّ كوكبة من قريش انضمّوا إلى زهير ودعموا مقالته فاستجابت قريش لهم ورفعوا الحصار عن النبيّ وسائر من معه.
تبنّي أبي طالب الدعوة الإسلامية:
وقام أبو طالب بدور إيجابي ومتميّز في الدعوة إلى الإسلام، وقد دعا ملك الحبشة إلى اعتناق الإسلام، وكتب له رسالة بذلك، وختمها بهذه الأبيات:
أتعلم ملك الحبش أنّ محمّدا
نبيّ كموسى والمسيح بن مريم
أتى بالهدى مثل الّذي في هداهما
فكلّ بأمر الله يهدي ويعصم
وأنّكم تتلونه في كتابكم
بصدق حديث لا حديث التّراجم
فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا
فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم (9)
لقد كان أبو طالب داعية الإسلام وحاميه والذابّ عنه، وكان يذيع فضائل النبيّ (صلى الله عليه وآله) وينشر مناقبه ومآثره، وممّا قال فيه:
ظهرت دلائل نوره فتزلزلت
منها البسيطة وازدهت أيّام
وهوت عروش الكفر عند ظهوره
وبسيفه قد شيّد الإسلام
وأتاهم أمر عظيم فادح
وتساقطت من حوله الأصنام
صلّى عليه الله خلاّق الورى
ما أعقب الصّبح المضيء ظلام
وقال أيضا:
ألا يا بني فهر أفيقوا ولا تقم
نوائح قتلاكم لتدعى بالتّندّم
على ما مضى من بغيكم وعقوقكم
وإتيانكم في أمركم كلّ مأثم
وظلم نبيّ جاء يدعو إلى الهدى
وأمر أتى من عند ذي العرش قيّم
فلا تحسبونا مسلميه ومثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم
فهذي معاذير وتقدمة لكم
لئلاّ تكون الحرب قبل التّقدّم (10)
لقد كانت مواقف أبي طالب متميّزة بروح الإيمان، فقد اعتنق الإسلام وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، ولولاه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع شامخ الكيان، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين.
وصيّته الخالدة:
وأوصى أبو طالب عملاق الإسلام أبناءه وسائر أفراد اسرته بهذه الوصية التي حفلت بمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، والولاء العارم لابن أخيه سيّد الكائنات (صلى الله عليه وآله)، وهذه بعض بنودها:
«اوصيكم بتعظيم هذه البنية ـ يعني الكعبة المقدّسة ـ فإنّ فيها مرضاة الربّ، وقواما للمعاش، وثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها؛ فإنّ صلة الرحم منسأة للأجل، وزيادة في العدد واتركوا البغي وأعطوا السائل، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإنّ فيها محبّة في الخاص ومكرمة في العام...».
وحكى هذا المقطع كلّ فضيلة يسمو بها الإنسان، والتي هي من صميم القيم الكريمة التي أعلنها الرسول (صلى الله عليه وآله).
ومن بنود هذه الوصية حثّه للاسرة الهاشميّة وغيرها على الولاء والاخلاص للرسول (صلى الله عليه وآله) ومناصرته والذبّ عنه قال: «وإنّي اوصيكم بمحمّد (صلى الله عليه وآله) فإنّه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به، ولقد جاءنا بأمر قبله الجنان ووعاه القلب. وأيم الله كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف، والمستضعفين من الناس، وقد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمار الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وإذا بأعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم عنه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادتها، دونكم يا معشر قريش، دونكم ابن أخيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة، فو الله! لا يسلك أحد سبيل محمّد إلاّ رشد، ولا يأخذ به إلاّ سعد ولو كان لنفسي مدّة، وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي، غير أنّي أشهد بشهادته واعظّم مقالته» (11).
حكت هذه الوصية إيمان أبي طالب بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) واعتناقه للإسلام وتفانيه في الدفاع عنه.
لقد استشفّ هذا العملاق العظيم المستقبل الزاهر للإسلام، وأنّه سيؤمن به المستضعفون في الأرض، وأنّهم سيشكّلون قوّة ضاربة للدفاع عنه، وستكون صناديد قريش وساداتها أذلاّء صاغرين يستعطفون النبيّ وأصحابه، ويطلبون ودّهم، ولم تمض الأيام حتى تحقّق ذلك على مسرح الحياة، وإذا بجبابرة قريش أذلاّء صاغرون، ويقول الرواة: إنّ امرأة من المسلمين خطبها معاوية فجاءت إلى النبيّ وطلبت رأيه في ذلك، فنهاها عن الزواج به وقال لها: « إنّه صعلوك» (12).
وعلى أي حال فإنّ وصيّة أبي طالب حافلة بالقيم الكريمة والمثل العليا والإيمان العميق بالإسلام.
في ذمّة الخلود:
ولاقى أبو طالب جهدا شاقّا وعسيرا في حمايته للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ونصرته للإسلام، وكفاحه للقوى المعادية لابن أخيه، وقد تعرّض لأقسى ألوان المحن والخطوب من طغاة القرشيّين وعتاتهم، وقد ألمّت به العلل والأمراض ودنا منه الموت، وكان أهمّ ما يعانيه مصير الرسول (صلى الله عليه وآله) من بعده، وما ذا سيلاقيه من ذئاب قومه الذين تنكّروا لجميع القيم والأعراف، فأخذ وهو على حافة الموت يوصي أبناءه وأفراد اسرته بنصرة الرسول والوقوف إلى جانبه، وحمايته من كيد القرشيّين وبطشهم وأخذ المرض يزداد فيه حتى وافته المنيّة في شهر شوّال أو في ذي القعدة، وذلك بعد خروج النبيّ من الشعب (13).
لقد انتقل هذا العملاق إلى حضيرة القدس بعد ما أدّى ما عليه من جهد في نصرة الإسلام والذبّ عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولمّا اذيع نبأ وفاته اهتزّت مكّة من هول الفاجعة، فتصدّعت القلوب، وغامت العيون كما فرح الطغاة والجبابرة بموته.
وسارع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فغسّل جسد أبيه الطاهر وأدرجه في أكفانه، وقد ذابت نفسه عليه حزنا وأسى، وهرعت الجماهير إلى دار أبي طالب فحملوا الجثمان المقدّس بمزيد من الحفاوة والتكريم، وواروه في مقرّه الأخير، وقد واروا معه الشرف والإيمان.
لقد انطوت حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله تعالى، فنصر الإسلام، وقاوم الشرك، وقارع الباطل، فسلام الله عليه، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين!
تأبين النبيّ له:
ووقف النبيّ (صلى الله عليه وآله) على حافّة قبر عمّه، وهو واجم حزين، قد روى ثرى قبره بدموعه، وأخذ يصوغ من حزنه كلمات في تأبينه قائلا:
«وصلتك رحم يا عمّ، جزيت خيرا، فلقد ربّيت وكفلت صغيرا، وآزرت ونصرت كبيرا، أما والله يا عمّ لأستغفرنّ لك، وأشفعنّ فيك شفاعة يعجب منها الثّقلان... » (14).
وبلغ من تأثّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وشدّة حزنه على عمّه أنّه سمّى العام الذي توفّي فيه «عام الحزن».
وقد فقد النبيّ (صلى الله عليه وآله) المحامي والناصر، والركن الشديد الذي كان يأوي إليه، فقد استوحدته قريش وأجمعت على التنكيل به وقال: «ما نالت قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب» (15). وقد بالغت قريش في إيذائه، فجعلوا ينثرون التراب على رأسه، وطرح بعضهم عليه رحم الشاة وهو يصلّي... إلى غير ذلك من صنوف الاعتداء عليه (16)، وقد أجمعوا على قتله، فخرج في غليس الليل البهيم بعد ما أحاطوا بداره ميمّما وجهه تجاه يثرب، وترك أخاه ووصيّه الإمام في فراشه كما سنعرض لذلك في البحوث الآتية.
وعلى أي حال فأبو طالب حامي الإسلام وناصره، والمساهم الأوّل في إقامة دعائمه، فله اليد البيضاء على كلّ مسلم ومسلمة، فما أعظم عائدته على الإسلام! ومن سخف القول إنّ هذا المجاهد العظيم مات كافرا ولم يكن يدين بدين الإسلام، فإنّ هذا البهتان من صنع الأمويّين والعبّاسيّين الحاقدين على الاسرة النبوية، وممّا يدعم زيف ذلك شدّة حزن النبيّ (صلى الله عليه وآله) عليه بعد وفاته وتسميته لعام موته بعام الحزن، فإنّه إذا كان كافرا كيف يحزن عليه؟ وكيف يترحّم عليه ويذكره بمزيد من التكريم والتعظيم؟ وكيف يأكل ويشرب في داره؟ وحكم الإسلام صريح واضح في نجاسة الكافر؟ وكيف يكون هذا المؤمن المجاهد في النار وابنه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قسيم الجنّة والنار؟
إنّ من المآثر والفضائل والأوسمة الشريفة التي يتحلّى بها الإمام (عليه السلام) أنّه نجل هذا المجاهد العظيم الذي حمى الإسلام في أيام محنته وغربته فجزاه الله عن الإسلام وأجزل له الأجر، وحشره مع النبيّين والصدّيقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.