لماذا ابتعدنا عن السعادة الفاطمية؟

محمد علي جواد تقي

2021-02-01 04:50

ولدت فاطمة الزهراء وسط معاناة والدها النبي الأكرم (ص) من تكذيب المشركين، وبين ثنايا حزن أمها خديجة من هجران نسائهم لانها رفضت الزواج من وجهاء الجاهلية وأثريائهم، وقبلت برجل فقير، الى درجة بلغت القساوة بإن امتنعن من زيارة خديجة وهي في حالة الولادة.

ما عسى يكون حال فتاة صغيرة في سن الخامسة، وهي تفتح عينيها على عداء المجتمع لابيها الى حدّ التهديد بالقتل، وعلى بكاء أمها من مختلف الضغوطات النفسية والجسدية، ليس أقلها الحصار الاقتصادي والتجويع الرهيب في "شعب ابي طالب"؟

نعم؛ بكت فاطمة؛ البنت الحنون ذات العاطفة الخاصة نحو الأب، عندما كانت ترى أباها يدخل الدار وقد غطى رأسه الأوساخ والتراب مما ألقاه عتاة الجاهلية على رأسه إمعاناً في الكفر والعناد للرسالة، فيما كان ساجداً لله يصلي، ولكن؛ كانت تزيل تلك الاوساخ من رأسه الشريف بيديها الصغيرتين، والرسول الاكرم ينظر اليها بنظرة ملؤها العطف والحنان والفخر ايضاً، لانه يجد في هذه التحفة السماوية مؤنسه في وحشته بين أولئك الناس، ومبعث سعادة في نفسه يجعله يتطلع الى الأفق البعيد بكل ثقة واطمئنان.

وهكذا فعلت الزهراء مع أمها خديجة وهي جنين في بطنها، عندما كانت تناجيها وتؤنسها في وحدتها، فقد جاء عن الامام الصادق، عليه السلام: "أن خديجة لما تزوجت برسول الله، هجرتها نسوة مكة، فكنّ لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت من ذلك، وكانت تغتم وتحزن اذا خرج رسول الله، فلما حملت بفاطمة صارت تحدثها في بطنها وتصبّرها، فدخل يوماً رسول الله وسمع خديجة تحدث فاطمة فقال لها: يا خديجة! من يحدثك؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني، فقال لها: هذا جبرائيل يبشرني أنها أنثى، وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، وان الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة الأمة يجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه".

هذه المحن والشدائد، والقدرة الفائقة على تحديها، لم يعزز قوة فاطمة و يزيد من صلابتها لتواجه ما هو أشدّ وأمرّ في قادم الأيام، وإنما كانت تلك الاجواء السلبية –بشكل عام- مبعثاً لخلق واقع ايجابي مفعهم بالسرور والسعادة ليس لها فقط، وإنما يشعّ لجميع الناس من حولها، وهذا ربما يكون من خصائص فاطمة بين نساء العالم من الأولين والآخرين؛ فتاة تولد من صميم المعاناة والألم والحزن، وفي شبابها تنشر السعادة والحب للجميع!

أين نجد السعادة؟

تصور العلماء، القدماء منهم والمُحدثين أن السعادة مفهوم يعني الانسان الفرد، وأنها مدعاة للطمأنينة من الخوف والألم والمعاناة، وكان من رواد هذه النظرة الفيلسوف الاغريقي؛ ابيقور (341-270 ق.م) الذي رأى في السعادة والألم مقياساً للخير والشر، وتبعاً لهذه الرؤية ذهب علماء الغرب في العصر الحديث الى تأسيس فكرة النفعية لتكون قاعدة السعادة، وحمل هذا اللواء الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جيريمي بينتام في القرن السابع عشر، واقتدى به تلميذه جون ستيوارت ميل، فوضعا مبدأ "ينظر إلى الأفعال على أنّها صحيحة وأخلاقية بقدر ما تعزز المتعة وتستبعد الألم".

وبعد إصابته بالاكتئاب، أدرك ميل أن رؤية بنتام النفعية، التي تفترض أن اللذة هي الخير الأسمى، لا تصلح إلا للخنازير، فعدم الرضا والتعاسة والألم جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية، وتوصل إلى أنه "من الأفضل أن تكون إنسانا غير راض على أن تكون خنزيرا راضيا"، ورغم أنه ظل مصراً على أهمية السعادة، فقد أدرك أن الباحث عن السعادة نادرا ما يعثر عليها. (تقرير لـ بي بي سي حول السعادة).

ولا تلام الأمم والشعوب الاخرى في عدم وصولها الى السعادة الحقيقية التي تعمّ الجميع، وتترك أثرها في الحياة بشكل عام، لافتقارها الى البوصلة والمنهج المؤدي الى هذا الهدف السامي، وحتى قبل بزوغ فجر الاسلام على ربوع الجزيرة العربية، وبعثة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كان مفهوم السعادة في المجتمع الجاهلي مشتق مما كان سائداً في العالم آنذاك، بينما النظام الاجتماعي الذي بشّر به نبي الاسلام قام على أسس متينة من الفطرة والقوانين المؤدية الى صناعة مجتمع يستشعر جميع افراده السعادة الحقيقية بشرط الالتزام بتلكم القوانين والتشريعات ومنظومة الاخلاق والآداب، وهذا ما حصل في المدينة بأهم خطوة عملية قام بها وهي؛ المؤاخاة بين المسلمين، فصار الغني أخاً للفقير، والشريف أخاً للوضيع –اجتماعياً- وبذلك أخرج النبي السعادة كحالة نفسية منعكسة على الواقع الاجتماعي من طابعها المادي والنفعي الى رحاب الجماعة و حب الخير للآخرين، وعلى هذا النهج سار أمير المؤمنين الذي رفض أكل اللحم إلا يوم عيد الاضحى حيث يطمئن أن جميع المسلمين يأكلون من لحوم الأضاحي، "كيلا يتبيغ الفقير بفقره"، فليس المطلوب أن لا يعيش احد الشقاء في حياته فقط في ظل حكم أمير المؤمنين، بل لا يستشعرها الفقير ومن لا يملك المال الكثير.

باقة من الدعاء الى الجيران

وكما في حياتها الزوجية، وهي "ربة بيت"، كانت، عليها السلام، مثال العطاء و نشر اجنحة السعادة على الناس، كانت كذلك وهي ملكومة ومضطهدة باغتصاب حقها في أرض فدك، ففي تلك الخطبة العصماء مهّدت لمطالبتها بحقها بشرح موجز عما قدمه الاسلام على يد أبيها رسول الله بأن "جَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ...".

بهذه العبارات المضيئة بشرت الصديقة الطاهرة الناس، والاجيال من بعدها كيف يكونوا سعداء، كما حذرت ايضاً في فقرات اخرى من الخطبة الفدكية من الانزلاق في مستنقع الشقاء، بيد أن الغريب جداً نسيان المسلمين آنذاك الايادي البيضاء للزهراء وأعمال البر للفقراء والمحتاجين في فترة حيازتها أرض فدك، وكانت من أغنى الاراضي الزراعية في المدينة، فقد كانت تعلم الناس أن السعادة ليست في الحيازة والتملّك بقدر ما هو حالة رضى داخل النفس، وإيمان عميق بالله –تعالى- بانه هو الرزاق والمعطي، وهو المالك الحقيقي، وأن السعادة الابدية والحقيقية في الآخرة، والى ذلك دعا أئمة اهل البيت، عليهم السلام، وقد هتف الامام الحسين لدى خروجه الى العراق: "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما".

خطأ المسلمين آنذاك، -وما يزالون- تصورهم امكانية تحقيق السعادة باللجوء الى القوة المادية من مال وسلاح جاه، فمثلاً؛ البعض يعتقد بقدرة الحاكم على توفير السعادة للموظف والعسكري والطالب وحتى الكاسب البسيط، وكانت أول تجربة فاشلة ومدمرة بشكل مريع في مسجد رسول الله عندما جلس المسلمون يستمعون الى الصديقة الزهراء وهي تصدح بخطبتها الفدكية، كما لو أنهم يسمعون بها لأول مرة، فلم يصدر أي رد فعل من أحد، وكان ما كان من المآلات والرزايا على الامة، وما تزال الامة تبحث عن هذه السعادة بين أروقة السياسة التي لم توفر السعادة لأهلها، كما وفرت الخيانات والدسائس والفتك بأبشع الصور، بينما بامكانهم الوصول الى درجة معينة من السعادة للجميع عندما يربطوها بامكاناتهم وقدراتهم الخاصة، وليس بقدرات السلطة المخادعة، فهي تبدع بصنع شقاء مستدام عندما تجعل كل فرد في المجتمع يفكر بنفسه وبالطريقة التي يحصل فيها على الوظيفة الحكومية والامتيازات والسيارة الفارهة والبيت الفخم، ولا عليه بالآخرين فان لهم طرقهم، ولا داعي للقلق عليهم! علماً أننا في بلد مثل العراق، كما هي سائر بلادنا الاسلامية، ننعم بخيرات وثروات وفرص نمو وتقدم نحسد عليه في العالم، يفترض ان تكون أدوات صالحة لتحقيق السعادة للجميع بما يوفر الامن والسلام والرخاء على أكبر مساحة ممكنة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي