سعة الصدر عند رسول الله (ص)
الشيخ عبدالله اليوسف
2020-11-03 07:30
سعة الصدر وانشراح القلب من صفات الإنسان المؤمن، وهي صفة لازمة لتحقيق النجاح في الحياة العائلية والإدارة الوظيفية والاجتماعية والتطوعية وغيرها، وتبدو هذه الصفة الأخلاقية أكثر أهمية في شخصية القائد أو الإداري أو الشخصية الاجتماعية التي تتعامل مع مختلف شرائح المجتمع.
وهي صفة لا غنى عنها لكسب المعارف والأصدقاء وحفظ الود معهم، وكذا من أراد أن تتسع له مشارب الحياة فعليه التحلي بسعة الصدر وانشراحه.
سعة الصدر نعمة
امتنّ الله عز وجل في القرآن الكريم على نبيه (صلى الله عليه وآله) بجملة من النعم الإلهية، كان في طليعتها: نعمة سعة الصدر كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[1]، وهذا استفهام تقريري أي شرحنا ﴿لَكَ﴾ يا محمد ﴿صَدْرَكَ﴾، وأن تأتي هذه النعمة على رأس النعم في سورة الشرح لها دلالة قوية على ما لهذه النعمة من تأثير وتكميل لباقي النعم والفضائل.
وعندما بعث الله سبحانه نبيه موسى (عليه السلام) إلى فرعون كان أول طلبه شرح صدره كما في قوله تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿20/24﴾ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿20/25﴾ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾[2] .
ويتحقق شرح الصدر بنور إلهي يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، فينشرح له الصدر وينفسح.
فقد سُئلَ رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): عن شَرحِ الصَّدرِ، ما هُو؟
فقالَ: «نورٌ يَقذِفُهُ اللَّهُ في قَلبِ المؤمنِ، فَيَنشَرِحُ لَهُ صَدرُهُ ويَنفَسِحُ».
قالوا: فهَل لذلكَ مِن أمارَةٍ يُعرَفُ بها؟
قالَ (صلى الله عليه وآله): «نَعَم، الإنابَةُ إلى دارِ الخُلودِ، والتَّجافي عن دارِ الغُرورِ، والاستِعدادُ لِلمَوتِ قَبلَ نُزولِ المَوتِ»[3] .
معنى شرح الصدر
لشرح الصدر معنيان: الأول: معنى علمي وفكري، والثاني معنى أخلاقي وسلوكي.
فالأول منهما يعني: السعة العلمية والمعرفية والفكرية، واستيعاب العلوم والمعارف والحقائق وهضمها؛ في مقابل ضيق الأفق، وضعف الاستيعاب، ورفض تقبل الأفكار غير المألوفة، أو التي لا تنطبق مع آرائه وأفكاره.
والمعنى الآخر لشرح الصدر: السعة الأخلاقية واستيعاب مختلف الأمزجة والطبائع البشرية، وتحمل الشدائد والمصاعب، والصبر في سبيل استيعاب أمزجة الناس، وامتصاص أذاهم؛ ويقابل ذلك ضيق الصدر، والتضجر من كل موقف أو رأي أو سلوك مخالف لذاته مما يجعله غير قادر على التعامل الإيجابي مع من يعيش من حوله حتى أقرب الناس إليه.
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسعة الصدر
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتمتع بانشراح كبير في صدره مما جعله يتحمل الآلام والشدائد والمصائب التي واجهته في سبيل نشر الإسلام، ويستوعب مختلف الأمرجة والطبائع البشرية؛ بل كان لديه القدرة الأخلاقية في التعامل مع مجتمع قاس وجاف وصعب، فقد بعث (صلى الله عليه وآله) في مجتمع تسوده الأعراف والتقاليد الجاهلية، وتتحكم فيه روح القبيلة والعشيرة، ويسوده الجهل والتخلف الحضاري، لكنه (صلى الله عليه وآله) كان يتمتع بصفة (سعة الصدر) حتى استطاع أن يحول أعداءه إلى أصدقاء حميمين له، ويغير من طبائعهم الخشنة إلى أخلاقيات الإسلام الراقية، ويرتقي بالمجتمع من التدني الأخلاقي إلى الرقي الأخلاقي والرفيع.
وفي سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) نماذج عديدة تدل على خلقه العظيم كما وصفه لقرآن الكريم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[4] .
ونشير إلى نماذج من أخلاقه الرفيعة الدالة على سعة صدره، وعظيم حلمه وعفوه وصفحه وإحسانه، ومنها:
1- ليس من مالك ولا من مال أبيك:
روي عن أنس، قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة، حتى أثرت حاشية البُرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد! احمل لي على بعيريّ هذين من مال اللّه الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا مال أبيك.
فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: المال مال اللّه، وأنا عبده. ثم قال: ويقاد منك[5] يا أعرابي ما فعلت بي؟!
قال: لا.
قال: لِمَ؟
قال: لأنّك لا تكافئ بالسيئة السيئة.
فضحك النبي، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر[6] .
2- لا أحسنت ولا أجملت:
إن أعرابياً جاءه (صلى الله عليه وآله) يطلب منه شيئاً فأعطاه ثم قال: أحسنت إليك؟، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت!، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا.
ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه (صلى الله عليه وآله) وزاده شيئاً، ثم قال: أحسنت إليك؟
قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): إنك قلت ما قلت، وفى نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك.
قال: نعم. فلما كان الغد أو العشي جاء فقال (صلى الله عليه وآله): إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضى، أكذلك؟
قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه دخل النار[7] .
3- ما أردت بها وجه الله:
عن أبى وائل عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين، آثر النبي (صلى الله عليه وآله) ناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله أن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله! فقلت: والله لأخبرن (النبي صلى الله عليه وآله) فأتيته فأخبرته، فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر[8] .
4- الغلظة في الكلام:
ما ذكره قطب الدين الراوندي: أتاه أعرابي فقال: يا رسول الله، أعطني كذا وكذا، لست تُعطيني مِن مال أبيك وأمك، وأغلظ في الكلام!
فقال (صلى الله عليه وآله): هو كما تقول، كرره عليَّ يا أعرابيّ، كذلك لا أعطيك من مالي ومال أبويّ، ثم أعطاه[9] .
وهكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتعامل مع مثل هؤلاء القساة بسعة الصدر، والحلم، وكظم الغيظ، مع من كان يسيء إليه، وبذلك استطاع أن يستوعب الناس حتى أصحاب القلوب القاسية منهم.
إذ كانت سعة الصدر من الصفات البارزة في شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) العظيمة، فقد اتسع صدره لأعدائه كما اتسع لأصحابه، واتسع قلبه لفظاظة بعض قومه كما اتسع لخشونة بعض أعراب مجتمعه؛ فدانت له القلوب، وخضعت له النفوس، وتأثرت به العقول؛ فلتتسع قلوبنا لبعضنا البعض، ولتنشرح صدورنا تجاه بعضنا البعض وإن اختلفنا في الأفكار والرؤى والمواقف!
وعلينا الاقتداء والتأسي بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعامله مع الناس، وليس مجرد إظهار الإعجاب والانبهار بسيرته وإن كانت سيرته محل إعجاب وانبهار الكل، وإنما الاقتداء العملي بسيرته ونهجه الأخلاقي الرائع.
الحاجة إلى سعة الصدر
الإنسان في حياته يتعامل مع أناس يختلفون في أمزجتهم وطبائعهم وأهوائهم ومصالحهم، وبالتالي يحتاج المرء إلى التعامل معهم بسعة الصدر، وكثير من الحلم والصبر حتى يؤثر فيهم إيجابياً، ويستطيع مداراتهم ومجاملتهم، فالإنسان الناجح عليه أن يكون متصفاً بسعة الصدر، وعظيم الأخلاق.
ويحتاج كل واحد منا أن يتسع صدره في التعامل مع من حوله، وأول الناس حاجة في التعامل معهم بسعة الصدر أفراد العائلة: من الزوجة والأولاد، فهم لن يكونوا مثل الأب تماماً، بل قد يخالفونه في كثير من الأمور، أو يقومون بأعمال تثير الغضب، وعلى الأب أن يتحلى بسعة الصدر في معالجة المشاكل العائلية والأسرية، لأن الأب هو رب الأسرة ومديرها.
كما أن من يتعامل مع الناس وجهاً لوجه من أكثر الناس حاجة إلى التحلي بصفة سعة الصدر؛ لأنه يتعامل مع بشر يختلفون في كل شيء، وبحاجة إلى معاملتهم برفق وحلم وكظم للغيظ وصبر على الأذى كما هو الحال بالنسبة للأطباء الذين يتعاملون مع المرضى واختلاف حالاتهم ومعاناتهم، وانعكاس ذلك على تعاملهم مع الأطباء والممرضين والإداريين.
وينطبق الأمر نفسه على الشخصية الاجتماعية التي تتعاطى مع قضايا الشأن العام، إذ يحتاج أكثر من غيره إلى انشراح في الصدر، وحلم كثير في التعامل، ولذلك ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «آلَةُ الرِّئاسَةِ سَعَةُ الصَّدر»[10] .
إن صفة (سعة الصدر) من العوامل الرئيسة في نجاح الإدارة المجتمعية، أما (ضيق الصدر) فلا يمكنه أن يكون مديراً ناجحاً، ولا شخصية اجتماعية مؤثرة ومقبولة، ولا أباً ناجحاً، بل ولا زوجاً ناجحاً؛ لأن ضيق الصدر يؤدي إلى تفاقم المشاكل، وصعوبة الحياة وتعقدها، وازدياد حالة النكد مع من يعيش بالقرب منه.
فإذا أردت أن تكون ناجحاً في حياتك الخاصة والعامة، وناجحاً في علاقاتك الاجتماعية، وناجحاً في تجارتك، وناجحاً في حياتك العائلية، وناجحاً في عملك؛ فعليك، وتأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، التحلي بصفة (سعة الصدر)، فمن يتمتع بها ستتسع له آفاق الحياة وتنفسح.