المَوْلِدُ النَّبَوِي الشَّرِيفِ فِي التَّارِيخِ
مقدماتُ وإرهاصاتُ المولد المبارك
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-11-03 07:23
(في الإثنين 12 ربيع الأول عند السنة، والجمعة 17 ربيع عند الشيعة من عام الفيل)
مقدمة تاريخية
لا بدَّ لنا من إثبات، أو تثبيت المناسبة العطرة للمولد النبوي الشريف، وذلك لأن التاريخ فيه خلاف ولا قطع في هذه المسألة الهامة والضرورية، واللطيف في الخلاف أنه مشترك بين كل طوائف المسلمين، لا سيما الشيعة الكرام، وأهل السنة والجماعة، ولكل من الفريقين مَنْ يؤيده من الفريق الآخر إلى ما يذهب إليه من تاريخ المولد الشريف، والفرق بينهما حوالي أسبوع فقط، ما بين لإثنين 12 ربيع، والجمعة 17 ربيع الأول من عام الفيل.
- في يوم الإثنين 12 ربيع: قال علماء السنة ابن إسحاق، والمقريزي، وابن عبد البر، وأيدهم الشيخ الكليني في الكافي حيث قال: "ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف، في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلي الناس فيه". (الكافي: 1/439)
- في فجر الجمعة 17 ربيع: قال به علماء الشيعة وأيَّدهم الواقدي، فجاء في الحدائق الناضرة: "كان مولده بمكة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد طلوع الفجر، سابع عشر شهر ربيع الأول عام الفيل، وهذا هو المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم". (الحدائق النظرة: ج17ص423)
ويقول الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره الشريف) في تأريخه لجده رسول الله (ص): "وُلد النبي (ص) بمكة المكرمة، يوم الجمعة، عند طلوع الفجر، في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول، عام الفيل، بعد شهر أو شهرين من هلاك أصحاب الفيل.
وكانت ولادته (ص) في دار عبد الله، وقد وهبها رسول الله (ص) بعد ذلك لعقيل بن أبي طالب (ع)، فلما توفي عقيل باعها ولده، ثم جُعلت (حيث اشترته خيزران أم هارون) مسجداً يُصلَّى فيه وذلك أيام العباسيين وهو معروف إلى الآن، وكان المسلمون يزورنه ويصلون فيه ويتبركون به، ولما سيطر الوهابيون على مكة والمدينة قاموا بهدم آثار النبوة والرسالة، ومنعوا الناس من زيارته وهدموا بيت النبي (ص). (من حياة النبي محمد (ص)؛ السيد محمد الشيرازي: ص8)
والعجيب الغريب من هذه الأمة التي خرجت عن سيرة كل الأمم والشعوب باحترام تاريخها، وتراثها وحفظه وحمايته وحراسته وترميمه ليكون شاهداً لهم ولعظمائهم يتفاخرون به ويتباهون فيه أما العالم دولا وشعوب، حتى أنهم يجعلون مزاراً للجندي المجهول يزورونه بكل احترام وتقديس، إلا ما ابتدعه أهل الضلال من أتباع ابن تيمية، والوهابية الذين دمَّروا كل آثار الإسلام واحتفظوا بآثار اليهود حتى في قلب المدينة المنورة وخيبر، يقول السيد الأمين: "الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار، ثم صيَّرتها الخيزران أم الرَّشيد مسجداً يُصلي فيه الناس ويزورونه ويتبركون به، وبقي على حالته تلك، فلما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته! على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطاً للدواب". (أعيان الشيعة: 1/219)
رؤية نورانية مهولة
يروي الإمام الشيرازي الراحل هذه الرؤيا للسيدة آمنه بنت وهب (سلام الله عليها) يقول: "قالت آمنة (رضوان الله عليها): لما قربتْ ولادة رسول الله (ص) رأيت جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب الرُّعب عنِّي، وأُتيتُ بشربة بيضاء وكنتُ عطشى، فشربتُها فأصابني نورٌ عال.
ثم رأيتُ نسوة كالنخل طوالاً تُحدثني، وسمعتُ كلاماً لا يُشبه كلام الآدميين، حتى رأيتُ كالديباج الأبيض قد ملأ بين السماء والأرض، وقائل يقول: خذوه من أعز الناس.
ورأيتُ رجالاً وقوفاً في الهواء بأيديهم أباريق، ورأيتُ مشارق الأرض ومغاربها، ورأيتُ عَلماً من سندس على قضيب من ياقوتة، قد ضرب بين السماء والأرض في ظهر الكعبة، فخرج رسول الله (ص) رافعاً إصبعه إلى السماء.
ورأيتُ سحابة بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته، فسمعت نداءً: طوفوا بمحمد (ص) شرق الأرض وغربها والبحار، لتعرفوه باسمه ونعته وصورته، ثم انجلت عنه الغمامة فإذا أنا به في ثوب أبيض من اللَّبن، وتحته حريرة خضراء، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وقائل يقول: قبض محمد (ص) على مفاتيح النصرة، والريح، والنبوة.
ثم أقبلت سحابة أخرى فغيبته عن وجهي أطول من المرة الأولى، وسمعتُ نداءً: طوفوا بمحمد (ص) الشرق والغرب، وأعرضوه على روحاني الجن والإنس، والطير والسباع، وأعطوه صفا آدم، ورقة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وكمال يوسف، وبشرى يعقوب، وصوت داود، وزهد يحيى، وكرم عيسى (ع).
ثم انكشف عنه فإذا أنا به وبيده حريرة بيضاء، قد طُويت طياً شديداً وقد قبض عليها، وقائل يقول: قد قبض محمد (ص) على الدنيا كلها، فلم يبق شيء إلاّ دخل في قبضته.
ثم إن ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجههم، في يد أحدهم إبريق فضة ونافحة مسك.. وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء لـها أربع جوانب من كل جانب لؤلؤة بيضاء، وقائل يقول: هذه الدنيا فاقبض عليها يا حبيب الله؛ فقبض على وسطها، وقائل يقول: اقبض الكعبة، وفي يد الثالث حريرة بيضاء مطوية فنشرها، فأخرج منها خاتماً تحار أبصار الناظرين فيه، فغسل بذلك الماء من الإبريق سبع مرات، ثم ضرب الخاتم على كتفيه، وتفل في فيه فاستنطقه فنطق، فلم أفهم ما قال إلا أنه قال: في أمان الله وحفظه وكلاءته، قد حشوتُ قلبك إيماناً وعلماً ويقيناً وعقلاً وشجاعةً، أنت خير البشر، طوبى لمَنْ اتبعك، وويل لمَنْ تخلف عنك.. ثم أدخل بين أجنحتهم ساعة، وكان الفاعل به هذا رضوان، ثم انصرف وجعل يلتفت إليه ويقول: أبشر يا عزّ بعزّ الدنيا والآخرة.. ورأيتُ نوراً يسطع من رأسه (ص) حتى بلغ السماء، ورأيتُ قصور الشامات كأنه شعلة نار نوراً، ورأيتُ حولي من القطاة أمراً عظيماً قد نشرت أجنحتها). (المناقب: ج1ص28)
وقالت آمنة (ع): إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نور أضاء لـه كل شيء وسمعتُ في الضوء قائلاً يقول: إنكِ قد ولدتِ سيد الناس فسميه محمداً(ص). (من حياة النبي محمد (ص)؛ السيد محمد الشيرازي: ص10)
هكذا ولد الحبيب المصطفى (ص)، وبهذه الطريقة الربانية من الشرف والكرامة كانت له، فكانت ولادته – روحي فداه – ولادة الإنسانية الكاملة، في البشر، والعقل الكامل في العقلاء، والنور الأعظم في الأنوار، والإنسان الفضيل في أهل الفضائل، والشخص التام في الشخاص، فكان كما قال شاعره حسان بن ثابت:
وأحسن منك لم تر قط عيني.... وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب.... كأنك قد خلقت كما تشاء
إرهاصات الولادة الميمونة
للولادة مخاض لا بد منه، ولكن كانت ولادة الحبيب المصطفى له ليس مخاض أصاب أمه المكرمة السيدة آمنه بن وهب فقط، بل هي نسيت ما أصابها لهول ما رأته عند ولادته من أمور غير معهودة في ولادات البشر، وذلك لأن أمه الأرض – إن صحَّ التعبير – قد تمخضت في ولادته، بحيث شهدت مشاهد لم تكن معروفة، بل كانت شبه مستحيلة، واحتار الخلق فيها، من إنسهم وجنهم، وسمائهم وأرضهم، يابستهم وبحارهم، كلها حدثت فيها إرهاصات كونية كبرى.
يقول الإمام الشيرازي الراحل (رحمة الله عليه): "لما وُلد رسول الله (ص) رُميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه! وقال عمرو بن أمية ـ وكان من أزجر أهل الجاهلية ـ: انظروا هذه النجوم التي يُهتدى بها ويُعرف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شيء، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث.
وانكبَّت الأصنام كلها على وجهها صبيحة ولد النبي (ص)، وارتجَّ إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف (ألفي) عام، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق.
ولم يبقَ سرير لملك من ملوك الدنيا إلاّ أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا يتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة وبطل سحر السحرة، ولم تبقَ كاهنة في العرب إلاّ حجبت عن صاحبها.
وفي يوم مولد النبي (ص) صاح إبليس (لعنه الله) في أبالسته فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟ فقال لهم: ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رُفع عيسى بن مريم (ع)، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث؟، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه، فقالوا: ما وجدنا شيئاً.
فقال إبليس (لعنه الله): أنا لهذا الأمر؛ ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم، فوجد الحرم محفوظاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصر ـ وهو العصفور ـ فدخل من قبل حِرى.. فقال لـه جبرئيل (ع): وراك لعنك الله، فقال لـه: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له: وُلد محمد (ص)، فقال له: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا. قال: ففي أمته؟ قال: نعم. قال: رضيت). (من حياة النبي محمد (ص)؛ السيد محمد الشيرازي: ص12)
أسبوع الفرح والتبليغ
فهذه المناسبة العظيمة – بل هي أعظم مناسبة في هذه الحياة – لأنها تمثِّلُ نقطة تحوُّل حقيقية في تاريخ البشرية، ففي مثل هذه الأيام المباركة جاء إنسان الحياة، وولد إنسان الإنسانية، الذي جمع في صفاته كل الفضائل والكرم، وجمع في رسالته كل الشرائع والقيم، وفي أمته كل الشعوب والأمم، فلو أنصف عقلاء العالم لجعلوا هذا اليوم بل هذا الأيام أسبوع الإنسانية والرحمة الإلهية، يقول الإمام الشيرازي: "ينبغي أن يكون أسبوع المولد الشريف عطلة رسمية لكافة الدوائر والمدارس وتكون هذه العطلة بدلاً عن بعض العطلات الأخرى.. ويلزم على الناس أن يتخذوا من العطلة وسيلة لتجديد الحياة لا وسيلة للبطالة والفساد والإفساد كما هو شأن بعض الغربيين في عطلة ميلاد المسيح".
ثم يقترح سماحته اقتراحاً مفيداً حيث يقول: "ينبغي أن يجعل أسبوع المولد الشريف ميقات قبول الموظفين، وترفيع الموظف المستحق للترفيع، وفتح الفروع الجديدة للوظائف، وما أشبه المحتاج إليها بقدر الضرورة إذ الإسلام لا يرتضي منهج تكثير الوظائف والموظفين باعتبار أن كثيراً منها يُحدد حريات الناس، كحرية السفر والإقامة، والتجارة، والزراعة، والعمل وغير ذلك، حتى يشعر الناس بأن هذه الأيام أيام التَّقدم والقبول والعمل والارتفاع فقد اعتاد الناس النظر باهتمام إلى الوقت الذي يصلح فيه أمرهم كما ينظرون إلى الشخص الذي يصلح أمرهم باهتمام". (أسبوع المولد النبوي السيد محمد الشيرازي: ص6)
وبذلك نرفع كل قضايانا ونسيِّر كل أمور حياتنا بالتاريخ الهجري لا الميلادي، وتبدأ السنة الفعلية في ربيع الأول حيث كانت بداية التغيير في التاريخ العربي والإنساني كله، فالمولد الشريف، والهجرة المباركة كانت في ربيع الأول، وعندما نتخذ تلك المناسبة عنواناً للفرح والترقي والتوظيف فإننا نضيف بهجة إليها وينتظرها الناس بفرح وترقب ومزيد من الاهتمام فيها.
وهذه النُّكتةُ الرَّقيقة، واللَّفتةُ الدَّقيقة من الإمام الراحل (قدس سره الشريف) في الحقيقة تضفي على حياتنا الصِّبغة الإسلامية، وتنشر عليها الفرحة النبوية، وتُكللها الرحمة الإلهية، فهي بحدِّ ذاتها خير وبركة وتُرجع الأمة إلى تاريخها وسابق عهدها وتنقذها من هذه النكسة التي سقطت فيها فصارت كل حياتها مرتبطة بالغرب وعاداته السيئة، وما يُرافقها من مخازي ومعاصي.
فالمولد الشريف ثابت في ربيع الأول عند جميع الطوائف فليكن لدينا أسبوع من العمل والفرح والتبليغ لدين الله ومحبة رسول الله (ص) وأهل بيته، ولنربط حياتنا كلها بهذا الرسول العظيم (ص) لتتحوَّل حياتنا من تابع لغيرنا وعدوِّنا إلى تابعٍ ونابعٍ من نبيِّنا ورسول الله (ص) فينا.
صلى الله عليك يا نور الله فينا، وعلى آلك الطيبين الطاهرين.