ما الذي يريده الامام الرضا من العلماء الرساليين؟

محمد علي جواد تقي

2020-07-04 03:31

"عليٌ ابنك الذي ينظر بنور الله، ويسمع بتفهمه، وينطق بحكمته، يصيب ولا يخطئ، ويعلم ولا يجهل، وقد مُلئ حِكَماً وعلماً". رسول الله، مخاطباً ابنه الامام موسى بن جعفر، عليهما السلام.

العلم والحكمة والمعرفة عند الامام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، هي ضمن سلسلة متواصلة، مترابطة بين الأئمة الأثني عشر المعصومين، لديهم الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، يجسدون مصداق قول جدهم رسول الله: "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، فجميعهم علماء بالنور الإلهي والبصيرة النافذة، وجميعهم لا يُقهرون أمام السائل مهما كان، ومهما أتى به، إنما الفارق في الظروف المساعدة أحياناً لانتشار هذه العلوم، أو قمعها والتضييق عليها احياناً أخرى.

الترجمة سلاح ضد علوم أهل البيت

لاشك أن الترجمة تمثل أحد أهم وسائل تطور العلوم والمعارف في أية أمة، فهي نافذتها للتعرف الى تجارب الآخرين وما توصلوا اليه من نتائج في بحوثهم وتجاربهم في ميادين العلم المختلفة، وربما تكون الترجمة من مصاديق الحديث النبوي: "اطلبوا العلم ولو بالصين"، وكان، صلى الله عليه وآله، قد دعى مبكراً الى هذه الخطوة الحضارية، ولعل من محاسن الفتوحات الاسلامية، و وصول المسلمين الى أقاصي الشرق، وأقاصي الغرب، انفتاحهم على مختلف العلوم الطبيعية مثل الطب، والهندسة، والفلك، والكيمياء مما موجود لدى الشعوب والأمم الاخرى.

ولكن! الحكام العباسيون اتخذوا من الترجمة وسيلة لمواجهة "المشكلة الثقافية" التي واجهتهم بقوة بعد انتهائهم من المشكلة السياسية وتثبيت ركائز حكمهم عبر سلسلة دموية من تصفية المعارضين، فقد كانت الامة تتجه نحو مزيد من النضج الثقافي والفكري يستمد قوته من مصادر عليا مثل؛ القرآن الكريم وسيرة أهل بيت رسول الله، وكان هذا بفضل وجود الامام الرضا في المدينة طيلة فترة حياته قبل أن يتوجه الى خراسان مُكرهاً سنة 201للهجرة، فقد عاش خمسة وثلاثين سنة الى جانب والده الامام الكاظم، وأمضى الاربعة عشر سنة الاخرى في منصب الإمامة وهو في مدينة جده، وهذه الفترة الطويلة كانت كفيلة بأن يبين الامام المنهج الصحيح لدراسة العلوم في مختلف حقولها، وأن التوصل الى الحقائق العلمية يجب أن يتأطر بالقيم الاخلاقية والانسانية، ولا يكون نتاج تصورات بشرية، او انعكاس لحالات نفسية، ربما تكون سيئة وسقيمة فتأخذ بزمام العلم الى متاهات الضلال والدمار.

وبالرغم من أن حركة الترجمة بدأت مبكراً في العهد الاموي، بيد أنها شهدت تنظيماً ومساندة كبيرة في عهد المأمون، ويرى بعض المؤرخين في الاخير أنه كان مميزاً بين الحكام العباسيين، وحتى قبلهم من الامويين في اهتمامه بالعلم وتقريبه وثنائه على العلماء منذ استيلائه على مقاليد السلطة بعد قتله أخيه الأمين ونقل مقر الحكم الى خراسان، وطالما أشاد بالامام الرضا، عليه السلام، وبمنزلته الدينية، وعلمه على أنه "أعلم أهل زمانه"، وذلك أمام الأشهاد في مجالسه ومحافله، بيد أن هذه الإشادات كانت ترمي الى مصب واحد تجعل من الامام وعلمه رقماً بين الارقام الاخرى من العلماء والعرفاء من سائر المذاهب والديانات، حتى غير الاسلامية منها.

وكان استشعار المأمون بالخطر المحدق به من جانب الامام الرضا وهو الى جواره في خراسان أن يستعجل تنفيذ خطته بإطلاق "الفكر والثقافة البديلة"، ومن أجل أن تكون "الأمة الاسلامية أمام فكر بديل وثقافة جديدة، ومن هذا الفكر والثقافة ما يضمه الفكر اليوناني من أقوال مثل: إن الله تعالى لا يعلم ذاته! وهذا الكلام يصدر من شخص يؤمن بالله سبحانه وتعالى، فاذا يعلم الانسان انه موجود، فان الله تعالى لا يعلم أنه هو موجود! وجاء في احدى النظريات حول الله تعالى: "قد قيل لا علم له بذاته وقيل لا يعلم معلولاته"، أي ان الله يدري هو موجود ولكنه لا يعلم بوجودنا نحن البشر، وهو يعلم الكليّات فقط، ولا يعلم بوجود افراد البشرية"! (من محاضرة لسماحة الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي).

وعندما تيقن المأمون أن الامام الرضا ليس بذلك "العالم" الذي يمكن ضمّه تحت وصاية البلاط، وممن يسوّقون علومهم للسلاطين مقابل دراهم معدودة، أيقن ايضاً أنه ليس وحده يشكل خطراً عليه، وبالامكان تصفيته جسدياً بكل سهولة، إنما المشكلة والتحدي الأكبر امامه فيما يخلّفه من علوم وثقافة وفكر في اوساط الأمة، ولعل جرس الانذار الكبير عنده تمثل في تلك المناظرة الشهيرة والتي أعدّها بنفسه، ليضع الامام في مقابل اصحاب الديانات والمذاهب ليتناظروا في أمور العقيدة والفكر، ولم يكن يتوقع أن يتهاوى أولئك بأجمعهم أمام الإمام، ويفحمهم بأجوبة لا قِبل لهم بها، فأجاب على اليهود بتوراتهم، وعلى النصارى، بأنجيلهم، والمجوس والصابئة بما لديهم من نصوص يعتقدون بها، في هذه اللحظة أدرك المأمون أنه ليس أمام عالم من سائر العلماء، يأخذ علمه من الكتب والمناظرات والمحاججات والتصورات الذهنية، إنما هو علم جامع وحاسم في حقائقه ونتائجه، يواكب تطور البشرية دون أن يكون بحاجة للتعديل او التجديد، كما هي الافكار والعلوم البشرية على مر التاريخ البشري.

لذا اتخذ المأمون عدة خطوات في حياة الامام الرضا، وبعد استشهاده؛ أولها: الخطوة العقدية، بأن تبنى مذهب الاعتزال وجعله المذهب الرسمي في البلاد الاسلامية، وهي خطوة غير مسبوقة في مسيرة الحكم في الدولة الاسلامية، مع علمه بوجود مذهب أهل البيت، وتراثهم الزاخر الممتد الى سيرة الرسول الأكرم، فبدلاً من أن يجعل المذهب الرسمي امتداداً لهذه السيرة العطرة والمطابقة للفطرة الانسانية، ولحاجات البشرية، عمد الى فكرة تقدس العقل وتجعله محور الايمان والعقيدة، وتنفي أن يكون القرآن الكريم كلاماً من الله –تعالى- سمعه رسوله و دونه ثم جمعه ليكون قرآناً يقرأه المسلمون، إنما هو "قرآن مخلوق"، فلا "خبر جاء ولا وحي نزل"، أما عن علاقة النبي بالقرآن –حسب زعمهم- فانها لتبيين الامور الغيبية الواردة فيه، لاسيما ما يتعلق بحياة الانبياء، والاحكام والسنن، ولعلهم يقولون: إن النبي كان مثل أحدهم، عالم من العلماء، استخدم عقله فأصبح مفسراً ومتحدثاً بما لا يحسنه الآخرون!

أما الخطوة الاخرى فكانت باتجاه العلوم والفكر والثقافة، فراح يبحث في كل مكان عمن يتقن اللغات اليونانية والفارسية لينقل ما لديهم من افكار وعقائد الى العربية، ويشحن المكتبة الاسلامية بهذه المؤلفات بغية تحقيق "التوازن الثقافي" إن صحت العبارة، مع ما موجود من تراث عظيم لأهل البيت، من روايات وأحاديث، لاسيما ما حفظه ودونه العلماء عن الامام الصادق، عليه السلام، بل وربما لترجيح الكفة لصالح العلوم والافكار المستوردة، وينقل المؤرخون أن المأمون خصص رواتب سخية، وعطايا وهبات للمترجمين من مسلمين وغير مسلمين، لينقلوا الى الامة علوم الفلسفة والكلام، وما كان يعتقد به فلاسفة اليونان القديمة عن الوجود، والخلق، والانسان، وايضاً ما كان يعتقده المجوس والهنود، خدمة لنشر المعرفة بين أفراد الامة الاسلامية! ومن أبرز الشواهد التاريخية ما يذكره البعض بشيء الزهو؛ "بيت الحكمة" المشيّد في بغداد جعله المأمون مركزاً لتلاقي مختلف العلوم والافكار والثقافات.

علوم الإمام الرضا فنارٌ للعلماء

هذا ما أدّاه الإمام الرضا، عليه السلام، من دور عظيم، وما قام به المأمون العباسي من خطوات بالمقابل، يبقى الحديث عن دور العلماء المقربين من الامام الرضا، ومن الأئمة المعصومين، عليهم السلام، ليس فقط في زمانهم فقط، وإنما على مر التاريخ، وحتى اليوم.

يقول أمير المؤمنين ذات مرة وهو يحادث أصحابه المقربين: "إن ها هنا لعلمٌ جمّا –يشير الى صدره الشريف- يحتاج حَمَلة". وقد شهد التاريخ الاسلامي –الشيعي اجيالاً من العلماء العباقرة ممن أغنوا الأمة بمنجزاتهم وأعمالهم التي أسهمت في تنظيم حياة الناس ردحاً طويلاً من الزمن بما يجعلهم يعيشون بعيداً عن التناقضات والازمات والمحن مستلهمين الدروس والعبر الى جوار المراقد المشرفة لأمير المؤمنين، والامام الحسين، والامامين الكاظميين، والامامين العسكريين، من خلال تشييد المدارس والمكتبات والمساجد حول تلك المشاهد المشرفة، كما فعل الأئمة المعصومون من قبل عندما بدأوا حياتهم العلمية ملاصقين لحرم جدّهم المصطفى في المدينة المنورة، ولعل في هذا حثّ لسائر المسلمين بأن يكونوا قريبين من هذه المشاهد المشرفة يستذكروا وجودهم المبارك، ويستشعروا النفحات الايمانية منهم.

ومن الجدير بعلماء الأمة تشييد المدارس والحوزات والمكتبات في مدينة مشهد المقدسة الى جوار مرقد الامام الرضا، عليه السلام، لتلتحق بالمدن المقدسة في حواضرها العلمية واستذكارها الجهود العلمية التي بذلها الامام الثامن في حياته، ولتكون سلسلة متواصلة مع الاجيال والزمن تشع ليس فقط للمسلمين، بل ولغير المسلمين ايضاً، كما كان كذلك في حياته، عليه السلام.

إن قصة عمران الصابئي معروفة في التاريخ، ينبغي ان تتحول الى درس وعبرة للاجيال، فقد كان هذا الانسان من أشد خصوم الإمام الرضا، وكان من بين المدعويين من قبل المأمون في تلك المناظرة المعروفة، وقد عرف بين الناس آنذاك، بأنه الأقوى جدلاً وتضلعاً في علم الكلام (الفلسفة)، يخشاه الجميع، حتى أن أحد المقربين من الامام قال له: "لو تبتعد عن هذا الشخص –مضمون الرواية- فهو كثير الجدل والمغالطة"، وكان يعبر عن خشيته وشفقته على الإمام المعصوم والمؤيد بالعلم الإلهي، فكان جواب الإمام مفحماً ولاذعاً: "ألا تعرف إمامك"؟! ونفس هذا المتكلم والمتفلسف الذي جادل وغالط وحاول النيل من الإمام، والذي كان يمشي ويتحدث عن نفيه لوجود الله –تعالى-، يتحول الى أقرب المقربين والمخلصين للإمام الرضا، عليه السلام، ويتوب على يديه، و يمحي كل ماضيه.

فكم لدينا اليوم من امثال عمران الصابئي، وعلي الجهمي وغيرهم من الذي كانوا مشككين ومنكرين، وما نزال نرى أمثالهم بيننا ولكن أشد بأساً وثباتاً على ضلالهم وربعدهم عن الحقيقة، رغم الظروف والاجواء والامكانات الموجودة اليوم؟

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي