الإمام الكاظم(ع).. وقفات
موقع الامام الشيرازي
2015-05-14 07:37
بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، كان لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أكبر الأثر في نشر الفضيلة بين المسلمين، وتربيتهم على المُثُل الرفيعة، وبث مكارم الإخلاق والقيم السامية، وعياً منهم (عليهم السلام)، أن المجتمع الإسلامي الجديد، في حاجة ماسة، إلى صيانته وحصانته، بعد أن انشغل ولاة الأمر، في أمور الدولة والسياسة، وترصين الحكم والسلطة، وما تخلل ذلك من ظلم وفساد، فنهض الأئمة بتلك المهمة، كل في مرحلته وأدواره، في استجابة للحاجة الفكرية والحضارية الحقيقية، التي قامت عليها العقيدة الإسلامية.
جامعة الصادق(ع)
ورث الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، عن أبيه الإمام الصادق (عليه السلام)، أعظم الخصال في العلم والحلم والشجاعة والكرم والإباء، وعزة النفس ومساعدة المحتاج، والصبر على الأذى، فكانت الدار التي ولد ونشأ بها في المدينة المنورة، جامعة كبيرة، تموج بالحكماء وأهل العلم، إذ يجيب والده على أسئلتهم وإشكالاتهم، دون التفات إلى نحلهم وأهوائهم، ومذاهبهم العلمية أو الفقهية، وكان بينهم كبار التابعين، الذين لم يدركوا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنهم أدركوا أصحابه أو تابعي التابعين، أو الفقهاء المجتهدين، حتى تشرب الإمام العلم والمعرفة، من أصولها وأركانها.
وقد كانت جميع الأمصار وقبائل العرب، ترسل أفضل أبنائها، للدراسة في جامعة الإمام الصادق (عليه السلام)، التي أنشأها كأول مدرسة علمية في تاريخ المسلمين، حتى بلغوا الآلاف، ممن جمع دروسه في أربعمائة مجلد، سموها بالأصول الأربعمائة، حتى وصفه أبو حنيفة بـ"إمام الحق"، وأنه "أعلم الناس لأنه الأعلم باختلافهم"، إذ كان يدير الحوارات والنقاشات، الفقهية والفكرية والفلسفية، باقتدار عجيب، ومن هذه الجامعة العلمية، خرجت المدارس الفقهية الإسلامية: مدرسة "الحديث والسنة" لـ"مالك - إمام المالكية"، وتعرف بمدرسة أهل المدينة، ومدرسة "القياس والرأي"، لـ"أبي حنيفة – إمام الحنفية"، وتعرف بمدرسة أهل العراق.
في تلك الفترة، أخذت المدارس الفلسفية اليونانية، تدخل ثقافة المسلمين، فوضع الصادق (عليه السلام) منهجاً لمواجهتها، كما شملت اهتماماته (عليه السلام) أيضاً سائر العلوم، في الكيمياء والطب والصيدلة والفلك والرياضيات وسواها، ومن تلامذتها، العالم الشهير جابر بن حيان الكوفي، الذي كان رائداً في علم الكيمياء، وهو ما تثبته كبريات الجامعات والمتاحف الأوربية، في آثاره الشاخصة فيها، وفي جميعها يقول: "حدثني أستاذي ومولاي جعفر بن محمد".
ثم انتقل الإمام الصادق (عليه السلام) إلى الكوفة، فيشيع فيها إشعاع العلم والمعارف، حتى يروي عنه فيها، مئات العلماء والفقهاء والمحدّثون، في تسعمائة حلقة درس، جميعهم يذكر "حدثني الإمام جعفر بن محمد"، وكانت تلك الجامعة العلمية الأولى في الإسلام، التي تواصلت إلى يومنا هذا، من خلال الحوزات العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وقم المقدسة، وقد قال مالك (إمام المالكية) في الإمام الصادق (عليه السلام): "مارأت عين ولا سمعت اذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد، علماً وأدباً وعبادة وورعاً"، حتى دعي بإمام الأئمة والفقهاء وأستاذهم.
العبد الصالح
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) أحسن الناس صوتاً في تلاوة القرآن الكريم، وكان يطيل في سجوده تعبداً، ولقب بالعبد الصالح، فكان أهلاً للإمامة بعد أبيه، الذي أولاه رعاية خاصة، رغم أنه لم يكن أكبر أنجاله، فالأكبر كان "إسماعيل"، الذي شاءت حكمة الله أن يتوفاه في حياة والده، كي لا يحصل الاختلاف بين الناس في تعيين الإمامة، فقد نص الإمام عليه لبعض خاصته، ربما لأسباب أمنية، فضلاً عن مقولته أنهم سيهتدون اليه، فمن المنطق أن لا تنتقل الإمامة إلى اللاحق إلّا بعد وفاة السابق.
كان الظرف الأمني والسياسي، صعباً للغاية في فترة إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام)، بخلاف جل فترة إمامة أبيه الصادق (عليه السلام)، التي شهدت فترة انحلال الدولة الأموية واضمحلالها، ثم قيام الدولة العباسية، فالدول كحال دورة الإنسان في الطبيعة، تنشأ ضعيفة ثم يشتد عودها وتقوى، وتستقر لفترة، ثم يدب فيها الضعف، حتى زوالها.
استلم الإمام الكاظم (عليه السلام) مهام إمامته، في أقوى مراحل الدولة العباسية، والتي يعبر عنها التأريخ بـ"الفترة الذهبية"، إذ عاصر في إمامته، خلافة "المنصور والمهدي والهادي والرشيد"، فالدولة العباسية التي بدأت حركتها، في راياتها السوداء والدعوة إلى الرضا من آل محمد، بمعنى إلى إمام واجب الطاعة من آل البيت (عليهم السلام)، دون إشهار لتنظيماتهم وزعاماتهم، وقد بات الحكام العباسيون بدعم "وعاظ السلاطين"، وما ينشره إعلامهم المضلل، متزامناً مع سياسة قمع وترهيب، وكأنهم الأحق بالخلافة والحكم، دون سائر قريش وبني هاشم.