علي بين الحقيقة والاسطورة
حكمت السيد صاحب البخاتي
2018-06-09 06:00
الحقيقة مطلقة أو نسبية ومع اختلاف الأفكار والتصورات في جانبها النظري تظل فاعلة حيث لا اختلاف في مفصلها العملي هذا، فالحقيقة ملهمة التصورات والسلوك، وهنا تدخل الأسطورة حين تتحول الحقيقة الى ملهمة ومؤسسة.
فالأسطورة في المعنى الحديث لها اكتسبت بعدا فكريا ومفهوما معرفيا خرج بالكاد بها عن المعنى القديم لها في الوهم والخرافة، فالأسطورة قديما هي ما سطرته الشعوب والأمم التي تجيد التدوين والكتابة واشتقاقها اللفظي من السطر المرقوم أو المكتوب، وهو ما نستنتجه من القرآن الكريم في قوله تعالى "قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" حكاية على لسان المشركين.
وفي الآية تقترن الأسطورة بالكتابة بشكل واضح لكن العقل الامي والشفاهي غير التدويني هو الذي يضخ مضامين الخرافة والوهم في ما سطرته ودونته الحضارات والأمم المتحضرة القديمة. لكن المعنى الحديث في الأسطورة يحيلها الى معنى الالهام النفسي والاجتماعي في أسطرة "تعظيم" الحدث –الحقيقة وبناء التصورات والسلوك الفردي والعام وفق فهم هذا الحدث وتتشكل خلاله الجوانب النفسية الصانعة للقناعة– التصورات بمجريات وآثار الحدث والسلوك بإزاء هذا الحدث، وهو ما نستمده من فهم الأسطورة في المنهج المجازي الذي يرى ان الأسطورة قصة تاريخية يكمن في نسقها وتمتد في خفاياها وخلفيتها أكثر معاني الثقافة عمقا ورسوخا في وعي ومكنونات مخيلة الشعوب، وأما المنهج الرمزي فانه يرى الأسطورة قصة رمزية تفكر بمنظومة العصر الفكرية والمعرفية.
ومن أجل تفكيك رموز هذه الأسطورة يقترح هذا المنهج دراسة العصر الذي نشأت فيه الأسطورة تاريخيا وثقافيا، ونستنتج عن ليفي شتراوس أهم دارسي الأسطورة في العصر الحديث ان الأسطورة تقوم على ثيمة تاريخية حقيقية لكنها تشكل جزء يسيرا ومركزيا بنفس الوقت في ما ينسج حولها وعليها من حكايات وخارقات، وهكذا فالأصل في الأسطورة هو الحقيقة، لكنها الحقيقة التي تظل دائما معرضة الى صياغة مخيلة الشعوب. والسؤال هو لماذا تتعاظم الصياغة الشعبية وتبدع المخيلة الشعبية في نتاج الاساطير؟
والجواب انها تتولد من عمق التأثير وأهميته الراسخة في وعي وضمير الشعوب، انها ثيمة تاريخية وحقيقة وجودية تجرح سديمية الزمان الشخصي والوجودي للشعوب وتتأبد فيه بمضمون ذاكرة البدء الأول للشعوب، حيث تتقرر المعاني الخالدة لديها في هذه الذاكرة الوجودية أو في ذاكرة الوجود لهذه الشعوب. فالمعاني الخالدة تكتسب عمقها من أسطرة مفاهيمها وأسطرة شخصياتها التي اجترحت تلك المعاني وأسست لتلك المفاهيم، وهكذا نفهم الغلو الذي قيل في علي بن أبي طالب (عليه السلام) لدى الفرق الغالية والمؤلهة للإمام علي عليه السلام انها الصياغة التوليفية المفارقة حول الحقائق التاريخية التي رويت في سيرة علي بن أبي طالب لكنها لدى الفرق المعتدلة أسطرة للرمز من أجل ديمومة عطائه، فهي اسطرة مجازية وتشغيل مستمر للحقائق التاريخية، وهو ما يشكل لدينا النموذج الامثل والمثل الأعلى.
وهنا تتضح مجازية الأسطرة في النموذج ورمزية الاسطرة في المثل، لكن علي حقيقة وليس أسطورة، لكن نموذجيته ومثاله المتفرد في كل التاريخ تضعه حقيقة على غرار الاساطير.
لقد ادركنا حب الخير بعلي (عليه السلام) بعد ان ادركنا الخير بمحمد النبي (صلى الله عليه واله) وبنزوع الفطرة في دين الفطرة – الاسلام وامتزج حبنا للخير بحب علي، فعلي مدرسة الحب في الدين وذلك التأسيس المؤسطر للحب في الدين من صنع علي وآثار قول النبي "لايحبك الا مؤمن"، وقد امتزج الحب الخالد للخير بحب علي في ضمير اولئك الذين استوحوا المعنى الخالد من تاريخ علي، واستحضروا تجربته في تحديات المعنى الانساني. وهنا تكمن أسطرة الذات العلوية التي تخرج في كل تحد انساني منتصرة دائما بقيم الخير الكلي، وهو ما يكفل لها الالهام المستمر في التاريخ وغير المنقطع في ثقافة المنطقة والمجتمع الذي يتغذى فيها معاني الخير من كيان وتاريخ علي عليه السلام.
وفي أسطرة العدالة يقف علي وهو سلطان الدين والدنيا على أبواب الفقراء واليتامى ويخاطب امرأة ذات أيتام قائلا: عذرا الى الله واليك...بعد ان تأخر عطاؤها وبعد ان خاطب نفسه ونار التنور تلفح وجهه وهو يخبز لليتامى: ذق ياعلي حرارة النار جزاء تضييعك الارامل واليتامى، وهكذا يؤسس علي أسطرة العدالة في ثانوية السلطة بإزاء أولوية الفقراء، وهو القائل وليس سواه: الضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه...وهكذا يكون علي هو الحقيقة في تاريخ العدل وفي أسطرة مثال ونموذج العدل.