النبي محمد بن عبد الله (ص): الأنموذج الحي لسلوك الفكرة
عادل الصويري
2017-12-02 05:40
قد يكون من المُتخيَّل لرجل أربعيني عاش في زمنٍ أنشبت الجاهلية فيه أظفارها، وتلاشت فيه القيم الإنسانية، وفي حال وجود هذه القيم فإنها محكومة بأطر الصحراء والبداوة، نقول قد يكون من المتخيَّل لهذا الرجل أن يختار خلوته المعرفية في غار، فيشاء الله تعالى وهو (المُصَوِّرُ) أن يكون هذا الأربعينيِّ شجراً يتجذَّر في الحجاز فتتدلى أغصانه على كل أرجاء العالم، ويستفزُ حمامات الإنسان المكبوتة فيملأ هديلها البديع الآفاق مبشراً بمستقبل ضوئي يغسل العتمة الموحشة.
محمد بن عبد الله، ذلك اليتيم الذي عاش احتراقاً من أجل الإنسان وقيمته، وأراد له أن يستفيق من خطر النوم والخدر على الأخطاء؛ لينطلق لعالم المعرفة والتفكير والتغيير. كان الحلم المائي يرسو على مقلتيه مبتعداً عن رمال التخلّف بينما يوفر الغار الحراسة والطمأنينة الكاملة لهذا الأربعيني في مناجاة الحقيقة حتى أتته لحظة اليقين المذهلة : (إقرأ)، كلمة كان مستعداً لها ولعمق مدلولاتها، فأدرك أن لحظة البوح بالنبوءات المتعلقة بأسرار الوجود قد حانت، وأنه الآن بريدُ الله لإتمام رسالاته الجمالية والمعرفية. البريد الذي لن يصل بسهولة فأمامه التحديات ممثلة برموز التخلف والجهل والمصالح.
احتشادُ الله في أجزائه كان كفيلاً بأن تنهار أمامه كل محاولات الإرهاب والترهيب التي تعرض لها خلال فترة إيصال البريد السماوي القائم على أنسنة حقيقية تهطل غيومها بأمطار الهداية على الرمل فيتشجر الوجود على فكرة النبوة.
كل شيء بات جاهزاً، والأبواب مشرعة لدخول المنطق المُقْفل، وعقرب ساعة الوثنية الجاهلية؛ مرتعد الدقائق واللحظات أمام هذا الوضوح المتشكل من بلاغة كلامية أذهلت أمة الشعر والبلاغة. بدأت السنوات تتسنبل بعد العجاف بعد ان أدركت أن فكرة محمد / النبوة هي قمحها الأخير، وآيات قرآنه حقول لسنابل الحقيقة.
مسارات التطبيق
وبدأت المسيرة المحمدية المضيئة في تجسيد فكرة النبوة وقصدية السماء كواقع عملي لن ينفصل عن أصل النظرية. وأهم مرتكزات هذا الواقع كانت الأخلاق التي شهد لمحمد فيها العدو قبل الصديق، كيف لا وهو الصادق الأمين بإجماع قريش. هذه الأخلاق ركزت عليها الأفكار الهاطلة من السماء: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ/ آل عمران 159"
ثمَّة بُعد أخلاقي يمتزج بروح المحبة والتشارك والحوار، وهذا البعد هو عين ماننشده اليوم في عالمنا وهذا من مصاديق كونية الفكرة المحمدية التي جسدها الرسول الأكرم (ص) تجسيداً عملياً ظهر في تعاملاته وسلوكياته مع كل الناس الذين أدركوه وأدركوا تلك الرحمة التي ندر تواجدها في مجتمع كالمجتمع المكي. فكانت الأخلاق مفتاح الدخول لعالم التأمل والتفكر في الدعوة الجديدة التي أعلنها الرجل الخلوق لتحرير الإنسان من قيده. ولو تصورنا أن الدعوة الجديدة على عظمتها وعظمة أهدافها كانت مناطة بشخص لم تكن له من أخلاق محمد (ص) وعطفه وتسامحه نصيب؛ لكان من الصعب أن تتواصل المسيرة من دون الجانب الأخلاقي الذي يمزج الفكرة / النظرية بالسلوك / التطبيق، وهو ماكان الرسول الأكرم (ص) يؤكد عليه بقوله: "إنما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ"
ولم يكن السلوك النبوي الأخلاقي محكوماً بفترة إقناع الآخر بضرورة تبني منهج السماء الختامي؛ بل امتد لمرحلة ما بعد التأسيس الحقيقي في المدينة المنورة حيث هاجر الرسول إليها وبدأ من هناك الصفحة الثانية من صفحات التطبيق العملي لتعاليم الله تعالى، والتي استهلها أولاً بالمؤاخاة بين الأوس والخزرج أكبر قبيلتين في المدينة إثر خلافات قبلية قديمة؛ إذ ليس من المنطقي أن يسود منطق التعقل والتسامح والحوار الذي يقصده الإسلام في ظل خلافات تنتج تطرفاً وعنفاً، فالتسامح واللاعنف هما الجوهر الحقيقي للإسلام. كما كان للتكافل الاجتماعي تعزيز وتأصيل للسلوكيات الأخلاقية بعد أن شارك أهل المدينة المهاجرين في زادهم ورزقهم.
وحتى في الحروب التي خاضها المسلمون تحت قيادة نبيهم؛ كانت التوجيهات تشدد على عدم البدء بالقتال، وعدم قتل الشيخ المسن، والطفل الصغير، وعدم ترويع النساء، بل تعدى ذلك إلى عدم إغفال الجانب العلمي والمعرفي حتى في الحرب بعد أن أمر بإطلاق أي أسير يُعَلِّمُ عشرةً من المسلمين القراءة والكتابة. كل هذه السلوكيات الأخلاقية، كانت إشارات إلى البناء الحقيقي للإنسان المسلم الخالي من العقد والتطرف، الإنسان النابض بالمحبة والنابذ للكراهية والعنف حتى مع من اختلف معه على صعيد الديانة والتوجه. كما أن مشاورته للثقة من أصحابه في أمور كثيرة ومصيرية كما في حادثة حفر الخندق التي أشار بها عليه صاحبه سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)؛ تؤكد على أن البناء الحقيقي للدولة لايتم من خلال التفرد بالقرارات فقدم أنموذجاً حضارياً لطريقة تعامل القادة مع الأتباع، وليس بهذا التعامل الحضاري أجدر من شخص قال فيه الله في كتابه العظيم : "وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم" في تجميل بلاغي رائع حيث لم يقل الله تعالى وإنك ذو خلق عظيم فتكون مجرد صفة؛ بل قال (لَعَلى خُلقٍ عظيم) و (على) هنا مسبوقة بلام التوكيد جاءت بمعنى الاستعلاء والتمكن من الأخلاق الحميدة وإفشائها بين الناس لتكون دستوراً وضابطاً للتعامل بين أفراد البشر الذين يجب أن يهتدوا لتلازمية الإيمان والأخلاق.
إن استلهام المنهج الأخلاقي المحمدي وتطبيقه بالشكل الذي أراده الله عبر التعاليم الواردة في نصوص القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأكرم واهل بيته من بعده عليهم صلوات الله؛ كفيل بدفع عجلة التقدم الإنساني إلى الأمام، فنستطيع عبر هذا المنهج فهم مرتكزات البناء الحضاري والاشتغال عليها باجتهاد وإيمان مخلصين لما تتبناه؛ فنصل إلى نتيجة أن القوة الحقيقية تكمن في الأخلاق ونبذ التطرف والعنف، وليس بالمصالح الضيقة التي تجعل من البشر وقوداً لحروب لايربح فيها إلا أصحاب الأجندات والمعتقدات المنحرفة.