باقر العلوم: ملتقى الكرامات ونور يسطع بين الظلمات
بمناسبة ولادة الإمام الباقر (ع)
فهيمة رضا
2017-03-30 08:18
صوت مكتوم يتصاعد من داخلها ليشعرها بجمال نوره، يجعلها نصف مستيقظة تحلم بذلك النور الساطع في أحشائها، فهو ثمرة من الشجرة النبوية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، قمر يسكن في أحشائها يشعرها بأنها نجمة تسطع في سماء الدوحة المحمدية، أفكارها تناجيه بين ألم وألم، وُلد الأمل، ابتهج الجميع، جاء ليهدي للعالم المحبة والحنان وليحلق الجميع في سماء الجنان، وكانت تلك الحادثة التي يعجز عن وصفها اللسان.
خرج من بحرين ملتقيان كاللؤلؤ الصافي والمرجان، انه ملتقى الكرامات من سيدا شباب أهل الجنة (الحسن والحسين عليهما السلام)، فهو أول هاشمي علوي يولد من جهة الحسن والحسين، لأن أباه علي بن الحسين وأمه فاطمة بنت الحسن، اندهشت العيون وغرقت بالدموع فرحاً بقدوم ذلك النور الذي لطالما كانوا ينتظرون ولادته لان النبي صلى الله عليه واله بشّر به منذ عشرات السنين، فكان (ص) يتكلم عنه ويقول لجابر بن عبد الله الأنصاري والحسين عليه السلام في حجره وهو يلاعبه: يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين ويولد لعلي بن الحسين ابن يقال له محمد يا جابر إن أدركته فأقرئه مني السلام.
ولادته الشريفة
وُلد الإمام محمد الباقر في المدينة المنورة في شهر رجب المبارك عام 57هـ ويكنى بأبي جعفر، وهو من فحول علماء الإسلام، حدث عن أبيه، له عدة أحاديث في الصحيحين وهما من كتب الحديث عند أهل السنة، وكان من الآخذين عنه أبو حنيفة وابن جريج والاوزاعي والزهري وغيرهم، قال محمد بن مسلم: سألته عن ثلاثين ألف حديث، وقد روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين، ورؤساء فقهاء المسلمين ولقب بالباقر لبقره العلوم بقراً (أي أظهر العلم إظهاراً).
علم الباقر عليه السلام
كان زاهداً عابداً وقد بلغ من العلم درجةً عاليةً سامية، حتى إن كثيراً من العلماء كانوا يرون في أنفسهم فضلاً وتحصيلاً، فإذا جلسوا إليه أحسُّوا أنهم عِيالٌ عليه، وتلاميذٌ بين يديه، ولذلك لُقِّب بالباقر: من بَقَر العلم أي شَقَّه، واستخرج خفاياه، وقد كان إلى جانب علمه من العاملين بعلمهم؛ فكان عفَّ اللسان، طاهر.
ومن كلماته الذهبية إنه قال عليه السلام :
- إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا، فانظر إلى قلبك فان كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير: والله يحبك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير: والله يبغضك، والمرء مع من أحب*1.
- من كف عن أعراض الناس أقاله الله نفسه يوم القيامة، ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه غضبه يوم القيامة.*2
- إن جميع دواب الأرض لتصلي على طالب العلم حتى الحيتان في البحر.*3
التحدي الثقافي العدو الأكبر للمجتمعات
إن أخطر ما تواجهه كل أمة هو خطر التحدي الثقافي الذي اذا نجح في هدفه وغايته، فإنه يسلب الأمة هويتها ويقضي عليها ولَم يبق منها شيئا وأمة بلا هوية ستتلاشى بالتأكيد عاجلا أم آجلاً وأمة بلا هوية لا شخصية لها ولا كيان، وأحياناً التحدي الثقافي يعطي الأمة إذا نجح وقضى عليها هوية أمة أخرى، فهذه الأمة تصبح لها حالة الاغتراب والتيه، لا تملك أي استقلال ولا حرية وتكون مستعبدة من داخلها، تارة الاستعباد يكون خارجيا، أمة تأتي وتستعبد أمة أخرى وتهيمن على بلاد أخرى.
كما عرف عهد الامام الباقر عليه السلام بكثرة التحديات الثقافية وكثرة المناظرات والمحاججات والحوارات المفتوحة، لان دولة بني أمية فتحت المجال للبدع والمذاهب المنحرفة والاتجاهات الضالة والآراء الفاسدة الكاسدة، فتصدى الإمام الباقر بكل جهاد لهذه التيارات المنحرفة، يعظهم ويرشدهم ويصحح لهم أفكارهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم، وسنذكر هنا مناظرة من مناظراته :
الرتق والفتق: جاء عمرو بن عبيد الى الإمام الباقر وأراد أن يمتحنه بسؤال فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى (أولم يرى الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقنهما) ما هذا الرتق والفتق؟.
فقال الإمام الباقر: كانت السماء رتقا لا تنزل القطر ما كانت الأرض رتقاً لا تخرج النباتات. فانقطع عمرو ولم يجد اعتراضا ثم قال له: أخبرني عن قوله تعالى (وما يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما غضب الله؟. فقال الإمام: غضب الله عقابه يا عمرو من ظن أن الله يغيره شيء فقد كفر.
وهذا جواب رائع من الإمام لأن السائل كان يتصور أن غضب الله مثل غضب الإنسان عبارة عن الحالة النفسية عند الاهتياج، فنبهه الإمام إلى ذلك وقال له: إن غضب الله عبارة عن الآثار التي يخلقها الله تعالى مثل البطش والعقاب.
تصحيح المسار
روى مخول ابن ابراهيم عن قيس بن الربيع قال :سألت أبا إسحاق عن المسح على الخفين الحذاء أو الجوارب قال: أدركت الناس يمسحون حتى لقيت رجلاً من بني هاشم لم أر مثله قط محمد ابن علي ابن الحسين اسأله عن المسح فنهاني عنه وقال لم يكن علي أمير المؤمنين يمسح وكان يقول سبق الكتاب المسح على الخفين أي ان القرآن صرح بوجوب المسح على الرجلين وحكم الله سابق ومقدم على حكم الناس. قال أبو إسحاق فما مسحت منذ نهاني عنه.
ومن هذه القصة نستفيد درسا رائعا عن الإمام الباقر، فكان يصحح للناس سننهم وشرائعهم ويستدل على ذلك في القرآن كما أشار الله تعالى في قوله: (وامسحوا على أرجلكم) وينهاهم عن البدع والقول بالرأي.
كان الإمام الباقر يحرر العقول من أسر العصبية والجهل ويرشدهم إلى الطريق الصحيح كي لا تنهار الأمة، وكان نوراً في وسط الظلام لينير درب السالكين، وكان العقلاء يدعون إلى التأمل بكلام الإمام الجميل وأسلوبه الرائع الذي كان يدخل إلى القلوب من دون استئذان.