متى وكيف يمكنك أن تلتقي بالإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف؟!

(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (10)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2025-11-22 04:36

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[1].

وقال جل اسمه: (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[2].

ونقرأ في الدعاء: (اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ وَاكْحُلْ نَاظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ)[3].

المقدمة: يتناول هذا البحث مسألة مدى إمكانية اللقاء بالإمام الحج (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في زمن الغيبة، ويدرس معاني روايات (وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ)، و(لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ أَمَدُهَا طَوِيلٌ)، وإطلاقها و(لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ مَهْدِيُّكُمْ)، و(وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ)، فالأصل الأصيل عدم إمكانية المشاهدة، ولذا لا يصح تصديق الكثيرين جداً ممن ادعوا المشاهدة أو ادعيت لهم المشاهدة.

ثم يتناول البحث بالتحليل النقض على ذلك ببعض الروايات التي تتضمن دعاءً مثل (اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ) والنقض بمشاهدات أعاظم العلماء الورعين (السيد بحر العلوم والمقدس الأردبيلي مثالاً) ويجيب بأن الاستثناء هو أندر من النادر وأنّه لا نصدّق دعوى المشاهدة إلا لو اجتمعت شروط خمسة، صعبة جداً حتى لتجعلنّها أقرب للمستحيل إلا بما يضيِّق الدائرة إلى حد بعيد بعيد شديد شديد نادر نادر.

ويستعرض البحث أيضاً البديل وأن السعي لمشاهدته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) محفّز لتهذيب الأنفس، والقول بأنه أصعب من الصعب، بل لعله أصعب من الوصول إلى كرامة المشي على الماء أو المشي على الهواء، مثبّط؟ ويجيب بأن البديل المحفّز هو تهذيب النفس وخدمة الخلق، لكي نحظى بنظرة عطف ولطف منه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وننال مقام القرب لديه ونحصل على بركات دعواته الخاصة لنا وهي مهمة جداً وكبيرة حقاً.

أُمنيّة اللقاء بالإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

مَن منّا لا يتمنّى أن يحظى بشرف اللقاء ولو لثوانٍ بأعظم خلائق الله تعالى وأهم شخصيّةٍ في عالم الوجود الإمكاني، صاحب العصر والزمان، وإمام الإنس والجانّ؟ بل إنّ الكثير من المؤمنين يبذل جهوداً مضنية في تهذيب النفس، وصقل الروح، والدعاء، والتضرّع، والالتزام بالذهاب أربعين ليلة أربعاء إلى مسجد السهلة، أو مسجد جمكران، أو غير ذلك، بأمل أن يحظى بهذا الشرف العظيم، خاصة وأنّه إذا كان (النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ)[4]، فكيف بالنظر إلى خاتم الأوصياء، وسيّد الكائنات؟

وإذا كان الناس عندما يذهبون إلى الملوك والرؤساء، فلا بدّ أن يحصلوا على هديةٍ جليلةٍ تتناسب مع كرم ذلك الرئيس، ومع حجم إمكانيّاته، فما بالك بمن يحظى بالتشرّف بخدمة مَن بيده مفاتيح عالم الإمكان، والذي (بِيُمْنِهِ رُزِقَ الْوَرَى، وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ)[5]، وهو ممن: (بِكُمْ يُبَاعِدُ اللَّهُ الزَّمَانَ الْكَلِبَ، وَبِكُمْ فَتَحَ اللَّهُ، وَبِكُمْ يَخْتِمُ اللَّهُ، وَبِكُمْ يَمْحُو مَا يَشَاءُ، وَبِكُمْ يُثْبِتُ، وَبِكُمْ يَفُكُّ الذُّلَّ مِنْ رِقَابِنَا، وَبِكُمْ يُدْرِكُ اللَّهُ تِرَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ يُطْلَبُ بِهَا، وَبِكُمْ تُنْبِتُ الْأَرْضُ أَشْجَارَهَا، وَبِكُمْ تُخْرِجُ الْأَشْجَارُ أَثْمَارَهَا، وَبِكُمْ تُنْزِلُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا وَرِزْقَهَا، وَبِكُمْ يَكْشِفُ اللَّهُ الْكَرْبَ، وَبِكُمْ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْغَيْثَ، وَبِكُمْ تَسِيخُ الْأَرْضُ الَّتِي تَحْمِلُ أَبْدَانَكُمْ، وَتَسْتَقِرُّ جِبَالُهَا عَنْ مَرَاسِيهَا.

إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ، وَتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَالصَّادِرُ عَمَّا فَصَلَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادِ)[6].

ولكنّ السؤال هو: هل ذلك ممكن؟ أو بأية شروط، ومتى، وكيف؟ والسؤال بعبارة أخرى هو: إنّه إذا كانت هنالك درجات: المشاهدة، المكاشفة، الرؤيا في المنام، وشبه ذلك، فأيٌّ منها مُمكنٌ وعمليّ؟ أو هنالك بديل رابع، مثل الحظوة بمقام القرب لديه (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

قبل الجواب، علينا أن نستعرض قضيتين: إحداهما معروفة منقولة مُكرّراً، والثانية سمعتها أنا شخصيّاً من صاحبها:

قصة القفّال الذي اشترى ما يسوى درهماً بتسعة دراهم، والتقى بالإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

القضية الأولى: قصة نُقلت ببعض الاختلاف بحسب المصادر المتنوعة، وسنذكر ههنا إحدى نقولاتها، وهي أنّ شخصاً كان شديد الشوق للتشرّف بلقاء الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فاستمرّ فترةً من الزمن، لعلّها أربعون يوماً، على العبادة، وتهذيب النفس، والدعاء، والتضرّع، وقيل إنّه استعان بعلم الجفر والأعداد، أو الرمل والأسطرلاب، ليكتشف مكان وجود الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فاستعان بهذا العلم، وقيل إنّه كُشف له في المنام، فعرف بأنّ الإمام سيكون في اليوم الكذائي، في الساعة الكذائية، في البلد الكذائي، وقيل إنّه مشهد المقدّسة، في السوق الكذائي، عند دُكّانٍ معيّن، أعطى أوصافه بالضبط.

فلمّا عرف ذلك، سافر إلى ذلك البلد، وأوصل نفسه قبيل الساعة المحدّدة، عند الدُكّان المحدّد، فوجد رجلاً يصلح ويبيع الأقفال ونحوها، كما وجد الإمام (عليه السلام) بطلعته البهيّة جالساً عنده (أو أن الإمام حضر بعد مجيء هذا الرجل). لكنّ هيبة الإمام منعته من التقدّم والكلام (أو أنّ الإمام أشار إليه بأن لا يتقدّم)، فظلّ ينظرُ وينتظرُ.

وإذا بامرأةٍ عجوزٍ تأتي، ومعها قفلٌ قد ضاع مفتاحُهُ، فطلبت منه أن يشتريه منها القفّال، حيث كانت محتاجةً إلى ثمنه أشدَّ الحاجة.

لكنّ القفّال فاجأها (كما تفاجأ ذلك الرجل المشاهِد أيضاً)، إذ قال لها: إنّ القفل وحده يسوى (شاهياً) –درهماً– مثلاً، والمفتاح وحده يَسوى (شاهياً)، لقلّة فائدة أحدهما دون الآخر، لكنّهما إذا جُمعا، صارت قيمتهما أضعافاً، أي عشرة شاهيات.

فقالت المرأة: لا أملكُ المفتاح.

فقال: لكنّني أملكه. فبدل أن أشتري منك القفل وحده، وقيمته زهيدة (شاهي واحد)، سأبيعك المفتاح المناسب له، والذي قيمته بوحده شاهي واحد، وحيث إنّك لا تملكين ثمنه، لذا سأبيعه لك نسيئةً (تأخذينه الآن وتدفعين لي الثمن لاحقاً).

وأضاف: فإذا اشتريتِ منّي المفتاح، صار بحوزتك قفلٌ ومفتاحٌ، فتكون قيمتهما عشرة شاهيات، فتُرجعين لي الدرهم النسيئة، وتبقى لك تسعة شاهيات، فتربحين بهذه الطريقة مبلغاً أكبر!. وهذا أفضل لك بكثير من أن تحصلي على شاهي واحد فقط!!، (وكان القفّال قد أراد أن يخدمها بطريقةٍ حكيمةٍ، لا يريق ماء وجهها، ولا يحوجها إلى السؤال ويعطيها مبلغاً كبيراً، فكأنّه ابن لها أو وكيل عنها يريد أن يربحها في معاملتها).

وهنا التفت إليه، حسب هذا النقل، الإمامُ (عليه السلام)، وقال له: متى أصبحت مثل هذا الرجل (أي منصفاً، شهماً، عطوفاً على المحتاجين، تفكر في مصلحتهم قبل مصلحتك)، فإنّني سآتيك كما أتيت هذا الرجل، ولا حاجة بك إلى أن تبحث عنّي عبر الجفر أو الرمل والأسطرلاب!

ارتاض أربعين يوماً فرأى الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)!

القضية الثانية: نقلها لي أحد الكسبة ممّن أعرفه بالصلاح، قال: فكّرت ذات مرّةٍ أنّ الخير كلَّ الخير في التشرّف بلقاء الإمام صاحب العصر والزمان، فقرّرت أن أعتزل الناس أربعين يوماً، فاعتزلتهم، وتفرّغت لصيام نهارها، وقيام ليلها، والدعاء، والتضرّع، وتهذيب النفس، والتفكّر في الموت، والقبر، والقيامة، والجنّة، والنار، وما إلى ذلك...

ولـمّا انتهت الأربعون يوماً، كنت أنتظر أن أرى الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ولكن لم يحدث شيء أبداً... فعدت إلى محلّ كَسبي ودُكّاني حزيناً كئيباً، ولمـّا مضى يومٌ أو يومان، اتّصلت بي أُمُّ أحد أصدقائي، فقالت لي: إنّ ابني، وهو صديقٌ لك، قد خرج عن طوره، وتحدى أباه وتلاسن معه، وخرج من المنزل بزعلٍ واختفى.

قلت: لماذا؟

قالت: لأنّه كان يحب فتاةً بشدّة، وكان يريد الزواج منها، لكنّنا كلّما نهيناه بقي مُصرّاً، حتى أمس، إذ جرى حديثٌ غاضبٌ بينه وبين والده، فقال له والده كلمةً نابيةً عن الفتاة (مثلاً: إنّها لا تناسبك وليست بتلك اللياقة...)، فغضب الولد بشدّة، وانفلتت أعصابه، حتى بدأ يكسر الكراسي والأواني ونحوها، ثم خرج من البيت غاضباً، ولا خبر لنا عنه منذ ذلك الوقت!

يقول هذا الرجل الصالح: فقرّرت ترك كسبي ودكّاني، والتفرّغ لإصلاح ذات البين: بين الولد ووالديه، فاتّصلت به، ودعوته إلى مطعم، وظللت ساعات (وربّما قال: حتى صباح اليوم التالي) أحدّثه، حتى أقنعته، بعد محاولات شائكة، بالعودة إلى أحضان والده والاعتذار إليه.

فاتّصلت بهما، وبشّرتهما، ثمّ اصطحبته معي، ونصحته أن يقبّل يدي والده ويعتذر بحرارة... وهكذا كان.

ولقد كان العناق بينهما مؤثّراً... وعندما أردت الخروج، دعت لي أُمُّه بدعاءٍ مؤثّرٍ مُعبّر، قالت: أسأل الله تعالى لك الخير، وأن ترى ما تُحبّ.

يقول: في تلك الليلة، تشرفت في المنام بخدمة الإمام صاحب الزمان، بوجهه المنير المشرق، والأعجب أنّه (صلوات الله عليه) قبّلني...

وعندما انتهى صاحبنا الكاسب من سرد قصته، قلت له: لعلّ في قصّتك، وقصّة القفّال (بناءً على النقل)، رسالةً مهمّة، وهي أنّ الذي يُقرّبنا إلى إمام زماننا أكثر، هو قضاء حوائج الناس، وإصلاح ذات البين، وأنّ العبادة مطلوبة دون شكّ، (ولعلّها كانت علّةً مُعدّة، فلمّا أكملها بقضاء حاجة الأمّ، وإصلاح ذات البين، صلح لأن يشاهده (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في المنام). ولكن أين العبادة المستحبّة من إصلاح ذات البين؟ فقد ورد: (صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ)[7].

هل المطلوب منّا السعي للقاء الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وهل الباب مفتوح أو منسدّ؟

وهنا نعود إلى صلب السؤال: هل المطلوب منّا أن نسعى لكي نرى الإمام في زمن الغيبة؟ أم المطلوب شيءٌ آخر، وهو أن نسعى لمقام القرب، وأن يرضى عنّا إمام زماننا، ويدعو لنا، ويُحبّنا، عبرَ الأعمال الصالحات، زائداً تهذيب النفس من الرذائل وسيّئات الصفات (من حسدٍ، وعُجبٍ، وكِبرٍ، وحبٍّ للشهرةِ أو الرئاسة... إلخ)؟

وهنالك سؤال أسبق رتبةً وهو: هل أصلاً الباب مفتوح، أم أنّه منسدّ، سواءٌ على المشاهدة أم المكاشفة؟ والفرق بينهما: أنّ المشاهدة تكون بالعين العاديّة – الباصرة، وأمّا المكاشفة فتكون بالعين البرزخيّة، التي تكشف الماورائيّات، لا بهذه الباصرة بما هي حاسّة عاديّة من الحواسّ الخمس.

الأصل الأصيل إنسداد باب المشاهدة؛ للروايات

والجواب: إنّ الأصل الأصيل، الذي يبدو كسدّ إسكندر، أنّ باب الرؤية في زمن الغيبة مُنسدٌّ على البشر، وقد استظهر عدد من العلماء انسداد هذا الباب بقولٍ مطلق، وذلك استناداً إلى مجموعة من الروايات، نقتصر في هذا الموجز على أربعة منها:

1- ما جاء عنه (عجل الله فرجه الشريف) في الرسالة التي وجّهها إلى سفيره الرابع، علي بن محمد السمري (رضوان الله عليه)، والتي جاء فيها: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَيَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ.

وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الْأَرْضِ جَوْراً)[8].

وظاهرُ عبارة: (وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ) هو كونها عامّة شاملة، أفهل يصحّ بعد ذلك أن يأتي هذا أو ذاك، في هذا البلد أو ذاك، يمانيّاً كان أو عارفاً أو زاهداً أو غير ذلك، فيدّعي أنّه شاهد الإمام، وأنّه جالسه، وحادثه، أو مشى معه، وسأله، وأجابه... إلخ؟ خاصة أولئك الذين يروون لأنفسهم أو لصاحبهم مشاهدة له (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ثم مشاهدة، ثم مشاهدة... وهكذا.

لا يُقال: إنّ الرواية خاصة بالسفارة، لأنّ السياق عنها؟.

إذ يُقال: العبرة بعموم الوارد، والسياق غير مخصِّص، خاصة وأنّ عبارة: (وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ) واقعة موقع التعليل، فهي مُعمّمة، فلئن كان المورد مورد السفارة والوصاية، لكنّ العلّة عامة، لا تتخصّص بالمورد، و(التَّامَّةُ) تعمّ كل شخص في كل وقت.

ثم أقول: لا أقلّ من الشكّ، وأنّه يحتمل أن يقصد الإمام (عليه السلام) الأعمّ،

فكيف نصدّق كلَّ مَن ادّعى الرؤية والمشاهدة، لمجرّد أنّه ظاهر الصلاح، أو الورع، أو العلم، أو الزهد؟

2- عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ أَمَدُهَا طَوِيلٌ، كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ يَجُولُونَ جَوَلَانَ النَّعَمِ فِي غَيْبَتِهِ، يَطْلُبُونَ الْمَرْعَى فَلَا يَجِدُونَهُ.

أَلَا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَلَمْ يَقْسُ قَلْبُهُ لِطُولِ أَمَدِ غَيْبَةِ إِمَامِهِ، فَهُوَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): إِنَّ الْقَائِمَ مِنَّا إِذَا قَامَ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، فَلِذَلِكَ تَخْفَى وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ شَخْصُهُ)[9].

والإطلاقُ في كلامِه (عليهِ السلام) واضح: (لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ...)، فكيف نصدّق مدّعي المشاهدة؟ ويؤكّد الإطلاق قوله (عليهِ السلام): (كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ يَجُولُونَ جَوَلَانَ النَّعَمِ فِي غَيْبَتِهِ، يَطْلُبُونَ الْمَرْعَى فَلَا يَجِدُونَهُ)، وهو عام، إذ (الشيعة) يشمل كل أحد: عالماً وجاهلاً، ورعاً وزاهداً وصالحاً... إلخ

3- وعن الإمام الصادق (عليهِ السلام): (أَمَا وَاللَّهِ، لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ مَهْدِيُّكُمْ، حَتَّى يَقُولَ الْجَاهِلُ مِنْكُمْ: مَا لِلَّهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ حَاجَةٌ! ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ، فَيَمْلَؤُهَا عَدْلًا وَقِسْطاً، كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً)[10].

والأمر فيه كالسابق، إذ يقول (عليهِ السلام): (أَمَا وَاللَّهِ، لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ مَهْدِيُّكُمْ، حَتَّى يَقُولَ الْجَاهِلُ مِنْكُمْ مَا لِلَّهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ حَاجَةٌ)، فهو يغيب عنكم، لا عن بعضكم، وقد أكّده (عليه السلام) بالقَسَم.

4- ورد في تتمة رواية السمري: (وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ، [أَلَا فَمَنِ ادَّعَى الْمُشَاهَدَةَ] قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ، فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ)[11].

أقول: اختلف العلماء في قوله: (وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ)،

فأبقاها بعضهم على ظاهرها، فقال بعموم النفيِ والتكذيب لكل من ادعى رؤيته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ومشاهدته.

وقال بعضهم: المراد مَن يدّعي المشاهدة عن معرفةٍ به (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، إذ يمكن أن يراه الشخص ولا يعرفه، كما ورد في عرفة أنّهم يرونه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ولكن لا يعرفونه، (فعلى هذا، لا يصحّ تصديق دعوى مَن ادّعى أنّه رآه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وعرفه في نفس وقت الرؤية).

وقال بعضهم: المراد من (مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ) أي السفارة، بقرينة السياق، وفيه: إنّ السياق لا يشهد بالاختصاص، بل لو كان، فضعيفٌ جدّاً، لا يصلح لتقييد (مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ).

ثمّ نتنزّل فنقول: لا أقلّ من أنّه يحتمل أن يكون المراد الإطلاق، أي مَن ادّعى المشاهدة، سواءٌ ادّعى معها السفارة أم لم يدّع، ومع وجود هذا الاحتمال، فالاحتياط يقتضي عدم التصديق، والاحتياط الأكيد يقتضي عدم الترويج لمن ادّعى المشاهدة أبداً، فهذا كله حسب جمع من العلماء.

ولكن لِمدّعي إمكان المشاهدة أدلة أيضاً

ولكن في المقابل استدل بعضهم ببعض الروايات الدالة على إمكان المشاهدة كالدعاء الذي صدّرنا به صدر البحث (اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ وَاكْحُلْ نَاظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ)، خاصة وقد جاء بعده قوله (عليه السلام): (وَعَجِّلْ فَرَجَهُ وَسَهِّلْ مَخْرَجَهُ وَأَوْسِعْ مَنْهَجَهُ وَاسْلُكْ بِي مَحَجَّتَهُ فَأَنْفِذْ أَمْرَهُ وَاشْدُدْ أَزْرَهُ).

والجواب: لكنّ السياق القوي يفيد اختصاص ذلك بما بعد الظهور المبارك فلاحظ الدعاء (... اللهُمَّ إن حالَ بَيني وَبَينَهُ المَوتُ الَّذي جَعَلتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتماً مَقضياً فَأخرِجني مِن قَبري مُؤتَزِراً كَفَني شاهِراً سَيفي مُجَرِّداً قَناتي مُلَبِّيا دَعوَةَ الدَّاعي في الحاضِرِ وَالبادِي،

اللهُمَّ أرِني الطَّلعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالغُرَّةَ الحَمِيدَةَ وَاكحُل ناظِري بِنَظرَةٍ مِنّي إلَيهِ وَعَجِّل فَرَجَهُ وَسَهِّل مَخرَجَهُ وَأوسِع مَنهَجَهُ وَاسلُك بي مَحَجَّتَهُ وَأنفِذ أمرَهُ وَاشدُد أزرَهُ،

وَاعمُرِ اللهُمَّ بِهِ بِلادَكَ وَأحيِ بِه عِبادَكَ فَإنَّكَ قُلتَ وَقَولُكَ الحَقُّ: ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أيدي النَّاسِ فَأظهِرِ اللهُمَّ لَنا وَلِيَّكَ وَابنَ بِنتِ نَبِيِّكَ المُسَمّى بِاسمِ رَسُولِكَ حَتّى لا يَظفَرَ بِشيءٍ مِنَ الباطِلِ إلاّ مَزَّقَهُ وَيُحِقَّ الحَقَّ وَيُحَقِّقَهُ، وَاجعَلهُ اللهُمَّ مَفزَعاً لِمَظلُومِ عِبادِكَ وَناصِراً لِمن لا يَجِدُ لَهُ ناصِراً غَيرَكَ وَمُجَدِّداً لِما عُطِّلَ مِن أحكامِ كِتابِكَ وَمُشَيِّداً لِما وَرَدَ مِن أعلامِ دِينِكَ وَسُنَنِ نَبِيِّكَ (صلى الله عليه وآله))[12].

فلاحظ أن الكلام عما بعد الرجعة وأنه يدعو الله تعالى بأنّه إن مات قبل الظهور ( فَأخرِجني مِن قَبري مُؤتَزِراً كَفَني شاهِراً سَيفي مُجَرِّداً قَناتي مُلَبِّيا دَعوَةَ الدَّاعي في الحاضِرِ وَالبادِي)، ثم يقول بعدها مباشرة: ( اللهُمَّ أرِني الطَّلعَةَ...)، ولاحظ تتمة الرواية المؤكدة أنه يتحدث عما بعد الظهور (اللهُمَّ أرِني الطَّلعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالغُرَّةَ الحَمِيدَةَ وَاكحُل ناظِري بِنَظرَةٍ مِنّي إلَيهِ وَعَجِّل فَرَجَهُ وَسَهِّل مَخرَجَهُ وَأوسِع مَنهَجَهُ وَاسلُك بي مَحَجَّتَهُ وَأنفِذ أمرَهُ وَاشدُد أزرَهُ، وَاعمُرِ اللهُمَّ بِهِ بِلادَكَ وَأحيِ بِه عِبادَكَ).

والبحث حول أدلة الطرفين طويل وقد اكتفينا ههنا بالموجز السريع، لأنها مجرد محاضرة، ولسنا الآن في مقام بحث معمق مستوعب فيوكل ذلك إلى وقت آخر.

ولكن ماذا عن مشاهدات السيد بحر العلوم والأردبيلي؟

ولكن يبرز هنا سؤال وهو ماذا نصنع بما رواه علماؤنا عن مشاهدة السيد بحر العلوم أو المقدس الأردبيلي (قدس سرهما) مثلاً للإمام عليه الصلاة والسلام؟

والجواب: إنّ العمومات وإن كانت تُخصّص، حتى ورد (ما من عام إلّا وقد خُصّ)،

إلّا أنّ الملاحظ للحن تلك الروايات الشريفة ونظائرها، سيجد أنّ الخارج بالتخصيص هو أندر من النادر، حتى لكأنّه يشبه الكيمياء (وهي مادّة كيماويّة يطلى بها الحديد أو النحاس، فيتحوّل ذهباً!)، أو يشبه دعوى قدرة شخص ما على أن يمشي على الماء كعيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) وحواريّيه، أو على الهواء، فإنّ ذلك أندر من النادر، فصحيح أنّه ممكن، لكنّه أشبه بالممتنع، إلّا اللاوحدي من أعاظم الرجال، الذي تنطبق عليه الضوابط الخمسة الآتية.

وبذلك نسدّ الباب على دعوى المدّعين، وما أكثرهم، للمشاهدة، ونُبقِى على الاستثناء، كاستثناء مَن يمشي على الهواء، فإنّه وإن أمكن، ولكن هل يمكن أن نصدّق كل زاهدٍ أو عالمٍ أو ورعٍ أنّه مشى على الهواء؟ كلا، بل مَن اجتمعت فيه الشروط الآتية، وهو أندر من النادر حقّاً.

المشاهدة ممكنة لكن بشروط أشبه بالممتنعة؟!

والشروط هي:

أولاً: أن تتوفّر دواعي القطع أو الاطمئنان بصدقه، كجلالة شأنه، وبلوغه أعلى درجات الزهد والورع، ومعرفة تاريخه وسيرته، وإحراز عدم حبّه للشهرة أو الرياسة أو المنزلة أو ما أشبه، وكيف يحرز ذلك بالقطع أو الاطمئنان إلّا في الأوحدي النادر ندرة العنقاء البيضاء!

ثانياً: أن تتوفّر دواعي الاطمئنان بضبطه، أي بأن لا تكون دعواه المشاهدة مستندة إلى غلبة القوّة المتخيّلة أو المتوهّمة عليه، أو حكومة أحلام اليقظة عليه، أو خلطه بين الأحلام والمنامات وبين الواقع، إذ الكثير من الناس يتصوّر ما يراه في المنام أنّه قد رآه في اليقظة، ويكفي احتمال ذلك عقلائياً في حقه في إسقاط حجيته دعواه المشاهدة.

والحاصل: إنّ غلبة القوّة المتوهّمة لا تتنافى مع عدالته ومع صدقه، فليس بالضرورة أن يتعمّد الكذب، لكنّه قد يكون متوهّماً مخطئاً، كما يشهد الطبّ القديم والحديث بوجود أمراضٍ تجعل الإنسان يتوهّمُ رؤية أشياء لا وجود لها أو يتوهم سماع أصوات لا واقع لها، وهو معروف في الطبّ.

ثالثاً: أن لا يتّخذ دعوى الرؤية والمشاهدة طريقاً للشهرة أو الحظوة لدى الناس أو صنفٍ منهم، ويعرف ذلك بأن يكتم الخبر، لو صحّ لديه ثبوتاً، تماماً، لا كمن تجده يتفكّه بمشاهدته للإمام (عليه السلام)، ويجعله حديث هذا المجلس وذاك، والمعروف أنّ من شاهد الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حقّاً، من كبار العلماء الصالحين، كتم الخبر تماماً، إلّا عن واحدٍ أوصاه بأن لا ينقل الخبر إلّا بعد وفاته، وبذلك نحرز أنّه لم يكن يطمع في شهرة أو حظوة أو شبه ذلك.

رابعاً: أن لا يتّخذ دعوى الرؤية والمشاهدة دَأباً وديدناً، أبداً، وهو مستبطنٌ فيما سبق، لكنّه أفرد بالذّكر لمزيد الإلفات إليه.

خامساً: والضابط الإثباتي لذلك: أن يذعن مشهور علماء الشيعة بمشاهدته، وهذا الضابط وإن كان أخصّ[13]، إلّا أنّه يكفي لكي نذعن فقط بمن اتّصف بالصفات الأربعة السابقة مع هذا الكاشف الخامس، وأمّا غيره، فعلى الأقل لا يصحّ البناء على صحّة كلامه.

المطلوب بالأساس الحظوة بدعائه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) والقرب منه، لا الرؤية الآن

أخيراً: إذا لم يكن المطلوب، وربّما لم يكن الممكن إمكاناً عاديّاً، مشاهدة الإمام في زمن الغيبة، فما المطلوب؟ خاصّة وأنّ هذا يعدّ أكبر محفّزٍ للكثيرين لتهذيب الأنفس، وصقل الأرواح، والتحلّي بمكارم الأخلاق، وحميد الخصال؟

نقول: المطلوب بالأساس هو أن نسعى لكي نحظى بقبول الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لنا، وحبّه لنا، ودعاءه لنا ونيل مقام القرب لديه، وذلك أعظم من العظيم وأهم من كل مهم، ولذا نجد في دعاء الندبة هذا الدعاء المرشد لما نقول، والذي لا يدعو فيه الداعي بأن يرى الإمام في زمن الغيبة، بل بأن يحظى بقربه، ودعائه، ورضاه:

(وَصِلِ اللّهُمَّ بَيْنَنا وَبَيْنَهُ وَُصْلَةً تُؤَدِّي إِلى مُرافَقَةِ سَلَفِهِ، وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَأخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ، وَيَمْكُثُ فِي ظِلِّهِمْ، وَأَعِنّا عَلى تَأدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ، وَالاجْتِهادِ فِي طاعَتِهِ، وَاجتِنابِ مَعْصِيَتِهِ،

وَامنُنْ عَلَيْنا بِرِضاهُ، وَهَبْ لَنا رَأفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدَعاءَهُ وَخَيْرَهُ، ما نَنالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَفَوْزاً عِنْدَكَ.

وَاجْعَلْ صَلاتَنا بِهِ مَقْبُولَةً، وَذُنُوبَنا بِهِ مَغْفُورَةً، وَدُعائنا بِهِ مُسْتَجاباً، وَاجْعَلْ أَرْزاقَنا بِهِ مَبْسُوطَةً، وَهُمُومَنا بِهِ مَكَفِيَّةً، وَحَوائِجَنا بِهِ مَقْضِيَّةً.

وَأَقْبِلْ إِلَيْنا بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ، وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنا إِلَيْكَ، وَانْظُرْ إِلَيْنا نَظْرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِها الكَرامَةَ عِنْدَكَ، ثُمَّ لا تَصْرِفْها عَنا بِجُودِكَ.

وَاسْقِنا مِنْ حَوضِ جَدِّهِ (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) بِكَأسِهِ وَبِيَدِهِ، رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سائِغاً، لا ظَمأَ بَعْدَهُ، يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ).

فلاحظ الأدعية السابقة وهي كلها من عيون الأدعية وجواهر الطَلِبات الحاجات، ولا يوجد بينها دعاء بأن نرزق مشاهدته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في غيبته.

والملاحظ أيضاً نظير ذلك في دعاء العهد فقد روي عن الصادق (عليه السلام): (مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِهَذَا الْعَهْدِ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ قَائِمِنَا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَعْطَاهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ)[14]

فلاحظ أنّ أجر من يقرأ هذا العهد أربعين صباحاً هو أن يكون من أنصاره صلوات الله عليه وأنّه إن مات قبله حظي بالرجعة، ولم يقل (عليه السلام) أنّه يحظى بالمشاهدة.

وفي هذا العهد تجد أن المدعو به هو: (اجعَلني مِن أنصارِهِ وَأعوانِهِ وَالذَّابِّينَ عَنهُ وَالمُسارِعِينَ إلَيهِ في قَضاءِ حَوائِجِهِ وَالمُمتَثِلِينَ لأوامِرِهِ وَالمُحامِينَ عَنهُ وَالسَّابِقِينَ إلى إرادَتِهِ وَالمُستَشهَدِينَ بَينَ يَدَيهِ) ولا تجد فيه إشارة إلى طلب مشاهدته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) زمن الغيبة.

ومن الحسن أن نختم البحث بقراءة تمام دعاء العهد بخضوع وخشوع: (اللهُمَّ رَبَّ النُّورِ العَظِيمِ، وَرَبَّ الكُرسِيِّ الرَّفِيعِ، وَرَبَّ البَحرِ المَسجُورِ، وَمُنزِلَ التَّوراةِ وَالإنجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالحَرُورِ، وَمُنزِلَ القُرآنِ العَظِيمِ، وَرَبَّ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، وَالأنبياءِ وَالمُرسَلِينَ.

اللهُمَّ إنّي أسألُكَ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ، وَبِنُورِ وَجهِكَ المُنِيرِ، وَمُلكِكَ القَدِيمِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ، أسألُكَ بِاسمِكَ الَّذي أشرَقَت بِهِ السَّماواتُ وَالأرَضُونَ، وَبِاسمِكَ الَّذي يَصلَحُ بِهِ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، يا حَيا قَبلَ كُلِّ حَيٍّ، وَيا حَيا بَعدَ كُلِّ حَيٍّ، وَيا حَيا حِينَ لا حَيَّ، يا مُحيِيَ المَوتى، وَمُمِيتَ الأحياءِ، يا حَيُّ لا إلهَ إلاّ أنتَ.

اللهُمَّ بَلِّغ مَولانا الإمام الهادِيَ المَهدِيَّ القائِمَ بِأمرِكَ (صلوات الله عليه وَعَلى آبائِهِ الطَّاهِرِينَ)، عَن جَمِيعِ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِناتِ، في مَشارِقِ الأرضِ وَمَغارِبِها، سَهلِها وَجَبَلِها، وَبَرِّها وَبَحرِها، وَعَنّي وَعَن وَالِدَيَّ، مِنَ الصَّلَواتِ زِنَةَ عَرشِ اللهِ وَمِدادَ كَلِماتِهِ، وَما أحصاهُ عِلمُهُ وَأحاطَ بِهِ كِتابُهُ.

اللهُمَّ إنّي أُجَدِّدُ لَهُ في صَبيحةِ يَومي هذا، وَما عِشتُ مِن أيامي، عَهداً وَعَقداً وَبَيعَةً لَهُ في عُنُقي لا أحُولُ عَنها وَلا أزُولُ أبَداً.

اللهُمَّ اجعَلني مِن أنصارِهِ وَأعوانِهِ وَالذَّابِّينَ عَنهُ، وَالمُسارِعِينَ إلَيهِ في قَضاءِ حَوائِجِهِ وَالمُمتَثِلِينَ لأوامِرِهِ وَالمُحامِينَ عَنهُ، وَالسَّابِقِينَ إلى إرادَتِهِ وَالمُستَشهَدِينَ بَينَ يَدَيهِ.

اللهُمَّ إن حالَ بَيني وَبَينَهُ المَوتُ الَّذي جَعَلتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتماً مَقضياً فَأخرِجني مِن قَبري مُؤتَزِراً كَفَني شاهِراً سَيفي مُجَرِّداً قَناتي مُلَبِّيا دَعوَةَ الدَّاعي في الحاضِرِ وَالبادِي.

اللهُمَّ أرِني الطَّلعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالغُرَّةَ الحَمِيدَةَ وَاكحُل ناظِري بِنَظرَةٍ مِنّي إلَيهِ وَعَجِّل فَرَجَهُ وَسَهِّل مَخرَجَهُ وَأوسِع مَنهَجَهُ وَاسلُك بي مَحَجَّتَهُ وَأنفِذ أمرَهُ وَاشدُد أزرَهُ.

وَاعمُرِ اللهُمَّ بِهِ بِلادَكَ وَأحيِ بِه عِبادَكَ فَإنَّكَ قُلتَ وَقَولُكَ الحَقُّ: ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أيدي النَّاسِ فَأظهِرِ اللهُمَّ لَنا وَلِيَّكَ وَابنَ بِنتِ نَبِيِّكَ المُسَمّى بِاسمِ رَسُولِكَ حَتّى لا يَظفَرَ بِشيءٍ مِنَ الباطِلِ إلاّ مَزَّقَهُ وَيُحِقَّ الحَقَّ وَيُحَقِّقَهُ.

وَاجعَلهُ اللهُمَّ مَفزَعاً لِمَظلُومِ عِبادِكَ وَناصِراً لِمن لا يَجِدُ لَهُ ناصِراً غَيرَكَ وَمُجَدِّداً لِما عُطِّلَ مِن أحكامِ كِتابِكَ وَمُشَيِّداً لِما وَرَدَ مِن أعلامِ دِينِكَ وَسُنَنِ نَبِيِّكَ (صلى الله عليه وآله).

وَاجعَلهُ، اللهُمَّ مِمَّن حَصَّنتَهُ مِن بَأسِ المُعتَدِينَ.

اللهُمَّ وَسُرَّ نَبِيَّكَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) بِرُؤيَتِهِ وَمَن تَبِعَهُ عَلى دَعوَتِهِ وَارحَمِ استِكانَتَنا بَعدَهُ اللهُمَّ اكشِف هذِهِ الغُمَّةَ عَن هذِهِ الاُمَّةِ بِحُضُورِهِ وَعَجِّل لَنا ظُهُورَهُ إنَّهُم يَرَونَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ.

ثمّ تضرب على فخذك الأيمن بيدك ثلاث مرّات وتقول كلّ مرّة : العَجَلَ العَجَلَ يا مَولايَ يا صاحِبَ الزَّمانِ).

وأيضاً نقرأ ما يزار به مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه كل يوم بعد صلاة الفجر: (اللَّهُمَّ بَلِّغْ مَوْلَايَ صَاحِبَ الزَّمَانِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَبَرِّهَا وَبَحْرِهَا، وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا، حَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ، وَعَنْ وَالِدَيَّ وَوُلْدِي، وَعَنِّي، مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالتَّحِيَّاتِ، زِنَةَ عَرْشِ اللَّهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وَمُنْتَهَى رِضَاهُ، وَعَدَدَ مَا أَحْصَاهُ كِتَابُهُ، وَأَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ بِهِ.

اللَّهُمَّ أُجَدِّدُ لَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ، عَهْداً وَعَقْداً، وَبَيْعَةً لَهُ فِي رَقَبَتِي.

اللَّهُمَّ فَكَمَا شَرَّفْتَنِي بِهَذَا التَّشْرِيفِ، وَفَضَّلْتَنِي بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ، وَخَصَصْتَنِي بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَصَلِّ عَلَى مَوْلَايَ وَسَيِّدِي صَاحِبِ الزَّمَانِ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَشْيَاعِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ، فِي الصَّفِّ الَّذِي نَعَتَّ أَهْلَهُ فِي كِتَابِكَ، فَقُلْتَ: صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ، عَلَى طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَآلِهِ (عليهم السلام).

اللَّهُمَّ هَذِهِ بَيْعَةٌ لَهُ فِي عُنُقِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[15].

وقد خلصنا في هذا البحث إلى أن مشاهدة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) بالحواس الظاهرة، والمكاشفة بالعين البرزخية ربما تكاد تبلغ في الندرة ندرة الكيمياء والمشي على الهواء، وأن مدعي المشاهدة كثير منهم كاذبون، وكثير منهم غلبتهم قوتهم المتوهمة، وأنه لا يمكن تصديق من يدعي المشاهدة إلا بشروط خمسة: توفر القرائن القطعية على صدقه أولاً، وعلى ضبطه واستقامة مزاجه وعدم غلبة قوته المتوهمة ثانياً، وإحراز أن لا يكون متخذاً دعوى المشاهدة طريقاً للحظوة أو الشهرة، بل يكتمها عن الجميع (غاية الأمر أن يخبر أميناً لكي ينقلها بعد موته لا في حياته كي يشك في أنه طالب شهرة أو حظوة) ثالثاً، ولا يتخذها دأباً وديدناً رابعاً، وأن تكون مشاهداته، بعد ذلك كله، بحيث يصدّق بها مشهور علماء الشيعة.

وخلصنا إلى أن المطلوب الأساس منّا في زمن الغيبة هو العروج الروحي والتكامل المعنوي وخدمة الدين والمذهب وخدمة الخلق، لننال بذلك القرب لديه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ودعاءه وخيره وما أعظم ذلك وأروعه.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

..........................................

[1] سورة الرعد: 11.

[2] سورة يونس: 62.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار: ج53 ص96.

[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج2 ص205.

[5] العلامة المجلسي، زاد المعاد ـ مفتاح الجنان، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت: ص423.

[6] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج4 ص577.

[7] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص51.

[8] كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص516، والغيبة للطوسي: ص395، والاحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي: ج2 ص478.

[9] كمال الدين وتمام النعمة: ج1 ص303.

[10] كمال الدين وتمام النعمة: ج1 ص303.

[11] كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص516، والغيبة للطوسي: ص395، والاحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي: ج2 ص478.

[12] مفاتيح الجنان: دعاء العهد.

[13] إذ قد يحدث للأوحدي النادر أن يشاهد، لكن لا يبلغ مشهور العلماء.

[14] بحار الأنوار: ج53 ص327.

[15] مصباح الزائر ص 234، بحار الأنوار: ج99 ص110.

ذات صلة

انتخابات مجلس النواب 2025.. قراءة في المشاركة والنتائجمواصفات الآداب الرفيعةالتربية والتعليم في العصر الرقميإنقاذ الثقافة من الرداءةمن هو العنيد؟