التربية والتعليم في العصر الرقمي
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2025-11-22 04:27
التفاعل القائم بين الذكاء الاصطناعي التوليدي وهندسة الجينات وتكنولوجيا النانو، وسواها من تقنيات التقدم العلمي، سينعكس على كافة مراحل التربية والتعليم، ويعيد إنتاج هذه المراحل بكيفيات لا تتطابق بالضرورة مع ما هو متعارف عليه وموروث، سواء في نظام التعليم ومقرراته وأساليبه، أو أدوات تلقي المعرفة، أو وسائلها، أو أدوار المعلم والمتعلم.
الحياة الجامعية والتخصصات العلمية في التعليم العالي المعروفة، كما ألفناها، لا أظنها تلبث طويلًا في العصر الرقمي، إذ يعاد بناؤها على نحو يتناغم مع إيقاع هذا العصر المتعجل، ويتجاوب مع متطلبات أسواق العمل، وتنوع مصادر المعرفة وأساليبها، وتحول أدوار المعلم من ناقل للمعرفة إلى مرشد وميسر لها. لا نستطيع أن نتنبأ بما سيحدث غدًا في هذا العصر، الذي تختلف فيه مؤسسات التعليم الأساسي والتعليم العالي، وتتنوع وتتعدد طرائقها ورؤاها، ووفقًا لهذا التنوع تختلف أيضًا الحياة التعليمية للأبناء، في نظامها ومقرراتها وأساليبها، وبنائها المعرفي، وطموحاتها المستقبلية.
التعليم العالي والتخصصات العلمية كما ألفناها في الجامعات يفرض عليها الذكاء الاصطناعي أن تتغير، فلم يعد اليوم التكوين الأكاديمي التقليدي والتأهيل التخصصي المتوارث مواكبًا لمتطلبات العصر الرقمي، وصار عاجزًا عن تلبية حاجات أسواق العمل الجديدة. في العصر الرقمي، يتهاوى الشكل الموروث للتعليم العالي، لأن العالم يعتمد على معطيات الذكاء الاصطناعي، والمعرفة المتجددة، والخبرة القادرة على التكيف مع سرعة التحولات. التكوين الأكاديمي القديم لا يفي بحاجات هذا الزمن، ولا يستجيب لنداءات الأسواق التي تبحث عن عقل مبدع لا حافظ، وعن خبرة تتجدد كل يوم، لا شهادة معلقة على الجدار. في هذا الواقع يصير التعلم رحلة مستمرة، لا تنتهي بنيل شهادة، ويغدو العلم يتجدد بمكاسب الذكاء الاصطناعي المتواصلة الولادات.
ستشهد السنوات القادمة تحولات مباغتة في النظام التربوي والتعليمي، تفرضها على العالم التحولات العلمية المتنوعة، والتكنولوجيات الجديدة. الذكاء الاصطناعي التوليدي في الأيام القادمة، يفرض حضوره على كل شيء في حياة الإنسان، ويغدو قريبًا بمثابة الكهرباء التي تحرك كل ما نتداوله ويتزود بالطاقة منها.كما تحولت الكهرباء إلى شرط أساسي لحياة العصر الصناعي، فإن الذكاء الاصطناعي سيكون شرطًا أساسيًا لحياة الإنسان في العصر الرقمي. وسينعكس ذلك غدًا على مراحل التربية والتعليم التقليدية كافة، ويعيد إنتاج هذه المراحل بكيفيات لا تتطابق بالضرورة مع ما هو متعارف عليه وموروث، سواء في نظام التعليم ومقرراته وأساليبه، أو أدوات تلقي المعرفة، أو وسائلها، أو أدوار المعلم والمتعلم.
لم يعد التعليم مجرد تكديس للمعلومات في ذاكرة التلميذ، بل أصبح عملية تتوالد وتنمو بالتجربة، وتتغذى من الحوار، وتتكامل مع المهارات المتجددة، وتنفتح على آفاق الإبداع. التعليم الرقمي لا يكتفي بإعداد الطالب لمهنة، بل يسعى إلى أن يوقظ فيه ملكة النقد، ويمنحه طاقة على إعادة اكتشاف ذاته والعالم. ما لا نستطيع أن نتنبأ به هو حجم التحولات المقبلة في التعليم الأساسي والعالي، في المناهج والمقررات ووسائل وأساليب التعليم والمؤسسات والرؤى، غير أن المؤكد أن هذا التنوع الجديد سيعيد صياغة حياة الأبناء التعليمية، في بنائها المعرفي، وآفاقها المستقبلية.
يفرض الذكاء الاصطناعي أن ينصب الاهتمام على التعليم المستمر، لأن جوهر البقاء في هذا العصر لم يعد في المهنة، بل في المهارة. في زمن الذكاء الاصطناعي التوليدي، تتبدل المهن بسرعة غير مسبوقة، حتى إن الإنسان لن يمكث في مهنة واحدة طوال حياته، فقد تتغير مهنته عدة مرات تبعًا لتحوّل الأدوات والبيئات الرقمية واحتياجات أسواق العمل المتغيرة. في هذا العالم المتغير، لا تكفي الشهادة ولا اللقب، بل يصبح تحديث المهارات شرطًا للحضور الفاعل في العصر الرقمي. المهارات هي رأس المال الجديد، وهي ما يُبقي الإنسان متفاعلًا مع تحولات المعرفة والتقنية. من هذه المهارات: إتقان أدوات الذكاء الاصطناعي، والقدرة على التواصل الفعال، ومهارة التفكير التحليلي والرياضي، لأنها تمثل اللغات التي يفهم بها الإنسان العصر ويشارك في صنع مستقبله. التعليم المستمر لم يعد ترفًا معرفيًا، بل صار طريقة للحياة، فكل مَن يتوقف عن التعلم يفقد قدرته على البقاء في سباق العقول والمهارات والآلات.
كل مشروع تنموي تكنولوجي انتاجي لا ينصت لصرخة الإنسان الباطنية، ولا يدرك حاجته إلى المعنى والمحبة والرحمة والكرامة، يظل مشروعا لا إنسانيًا، مهما بدت أرقامه باهرة ومبشرة. الاستثمار الحقيقي ليس في توسيع الإنتاج وغزارته، بل في إنقاذ الإنسان لئلا يتحول إلى شيء، واسترداد الاعتبار إلى قلبه وروحه وعقله بعد استلابها، وتحريره من كونه مجرد معطى إحصائي أو رقم في موازنة مالية. التكنولوجيا التي لا تسكنها القيم، ولا تلهمها الأخلاق، سرعان ما تنقلب من وسيلة رفاه إلى آلة قهر واستعباد، وتحول العالم إلى مصنع كبير ينتج كل شيء مادي، ويعمل على أن يصيّر الإنسان شيئًا كهذه الأشياء.
أخشى أن يفتقر التعليم في هذا العصر إلى القيم، ولا يظلله الوعي بالكرامة الإنسانية، فيغدو آلة لإنتاج خبرات منفصلة عن احتياجات الإنسان المعنوية اليوم، ووعي أجوف، ومعرفة صماء. يحتاج التعليم الإنساني في هذا العصر إلى القيم بموازاة حاجته للمهارات، ليكون قادرًا على أن يمنح الأجيال القادمة هوية إنسانية قيمية حية، تصون كرامتهم، وتفتح لهم أفقًا رحبًا للمستقبل، وتمنح حياة الإنسان المعنى في عصر يشح فيه المعنى. الذكاء الاصطناعي بما أنه يعيد تشكيل كل شيء في حياة الإنسان، فهو يعيد إنتاج كيفية وجوده في العالم، الذي يختلف اختلافًا عميقًا عن كيفية وجوده قبل أن يتغلغل الذكاء الاصطناعي في الغد القريب بكل مجال من مجالات حياته.
قرأت يوم 6.10.2025 خبرًا مثيرًا في موقع إخباري أمريكي رقمي AXIOS، ينقل عن: "تقرير صادر عن الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الأمريكي يوضح أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يمحو 100 مليون وظيفة في الولايات المتحدة خلال العقد القادم"، فإذا كان عدد مَن هم خارج العمل من الأطفال وكبار السن يبلغ 135.2 مليونًا، وعدد مَن هم في سن العمل 206.8 ملايين، من مجموع سكان يبلغ نحو 342 مليون نسمة، فإن نصف العاملين تقريبًا في مختلف المهن قد يفقدون أعمالهم. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن العقد القادم سيشهد أزمة عالمية في فرص العمل، إذ سيدخل نحو 1.2 مليار شاب إلى سوق العمل في الدول النامية، بينما لن يتوفر سوى 420 مليون وظيفة جديدة، أي أن ثلث الداخلين فقط سيجدون عملًا، مع فجوة تقدر بـ 800 مليون فرصة مفقودة. كما يتوقع البنك أن تصل نسبة الوظائف المهددة بالأتمتة إلى 40 بالمئة بين العمال الأقل مهارة، مقابل 5 بالمئة فقط بين من يحملون شهادات جامعية، ما يعني أن المهن الروتينية تتجه إلى الزوال.
في المقابل، تتصاعد الحاجة إلى مهارات التفكير التحليلي، والتواصل، والتعلم المستمر، وإتقان أدوات الذكاء ألاصطناعي، بوصفها اللغات الجديدة لعصر تتغير مهنه بسرعة غير مسبوقة. إنها ظاهرة غير مسبوقة في الاقتصاد وأسواق العمل من قبل، الذي كان فيه صاحب المهنة يمكث فيها في مختلف مراحل حياته، فيراكم خبراته ويطورها باستمرار من دون أن يغادرها إلى مهنة بديلة. وتشير تقارير البنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الاقتصادات المتقدمة تعيش تحولًا بنيويًا في طبيعة العمل، إذ يتوقع أن تستبدل نحو 14 بالمئة من الوظائف التقليدية بالأنظمة الذكية والأتمتة خلال العقد القادم، بينما ستنشأ وظائف جديدة تعادل نحو 30 بالمئة من إجمالي المهن الحالية، أي ضعف ما أُنشئ في العقد الماضي. فقد ارتفع الطلب على المهارات الرقمية والإبداعية بنسبة 50 بالمئة منذ عام 2016، فيما تراجعت الوظائف القائمة على المهام الروتينية بنسبة تقارب 40 بالمئة في القطاعات الصناعية والإدارية. وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن الاقتصادات المتقدمة قد تحقق مكاسب إنتاجية تتراوح بين 25 و30 بالمئة بفضل الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في التعليم، والصحة، والخدمات المالية. في المقابل، تتصدر المهن الجديدة مجالات هندسة الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، وتصميم تفاعل الإنسان والآلة، وأخلاقيات التكنولوجيا، ويغدو الاستثمار في التعلم المستمر وتنمية المهارات المهنية والتحليلية شرطًا أساسيًا للبقاء في أسواق العمل، التي تتغير بوتيرة أسرع مما شهده أي جيل سابق.