داعش في سلطنة عُمان
ابراهيم العبادي
2024-07-25 06:00
لم تكن الصدمة خارج عمان اقل منها في الداخل العماني بعد انتشار خبر الهجوم الارهابي، الذي طال مسجدا للاقلية الشيعية الصغيرة في مسقط عاصمة الدولة. الهجوم الذي خلف ستة ضحايا وجرحى قاربوا الثلاثين ومقتل المهاجمين الثلاثة، اثار عاصفة من الاسئلة عن سبب اختيار عمان المسالمة الوادعة وشعبها الهادئ البعيد عن التطرف والانفعال السياسي، لتكون هدفا وساحة جديدة لعمليات تنظيم داعش.
كان السؤال الاول، لماذا سلطنة عمان الآن؟ ولماذا لم تنفذ داعش طيلة سنوات نشاطها الارهابي مثل هذا العمل هناك؟ وكان السؤال الثاني، أليس التنظيم في حالة انحسار وتراجع، فكيف تسنى له اجتذاب انصار جدد، وتمكن من توسيع رقعة عملياته خلافا لما يقال عن التراجع والضعف؟.
والسؤال الثالث: لماذا تختلف وتتفاوتت تقديرات بعض القوى السياسية في المنطقة عن تقديرات الجهات الدولية النافذة، كالولايات المتحدة ومراكز الدراسات الدولية، فبينما تتحدث هذه القوى السياسية عن زوال خطر داعش، تتحدث القيادة المركزية الامريكية عن تضاعف عمليات داعش، وتزايد هجماتها في العراق وسوريا، وفي مناطق أخرى؟
وجوابا على السؤال الاول، فإن اختيار مسجد الامام علي في الوادي الكبير بمسقط، قد يكون مخططا ضمن ستراتيجية التنظيم لتوسيع نطاق حضوره وتاكيد مساحة انتشاره، وأنه فكر يجتذب انصارا جددا في أي مكان يتوفر لخطابه مستمعين ومتأثرين، قد يكونون ذئابا منفردة أو خلايا صغيرة تفهم جيدا ما يقوم به التنظيم وما يستهدفه فتنفذ وتخدم مشروعه، الأكثر أهمية هو طاقة الاجتذاب والتوظيف والانتماء والولاء، وتوفر الوسائط، والطاقة هذه هي خطاب التنظيم الايديولوجي وتفسيراته، وتأويلاته وقدرته على نشر مفاهيم التكفير وهدر الدماء وتشخيص الاعداء، ومعلوم أن تنظيم داعش يعتمد ستراتيجية قتال (العدو القريب) والانتقام ممن يراهم اعداء وجوديين حسب الأولوية، والأعداء يتسلسلون من الشيعة إلى السنة، الذين لايوافقونهم الرأي والافكار إلى المسيحيين وغير المسلمين عموما، الى القوى التي تؤمن بالديمقراطية، أو الذين يتبنون العلمانية منهجا سياسيا ثم القوات الاجنبية الموجودة في بلاد المسلمين، وأخيرا كل ساحات العالم التي يمكن للتنظيم ان يضرب فيها، كما جرى في روسيا وفرنسا وغيرهما.
عمان التي لا تشهد توترات طائفية ولا حساسيات مذهبية أو تنافسات سياسية ويعيش شعبها وئاما مثاليا، تعرضت إلى لدغة من تنظيم داعش، قام بها اخوة ثلاثة من أبناء عائلة متعلمة يحمل كبيرهم شهادة الدكتوراه، وكان اعلاميا في التلفزة، ويعمل في وزارة الخارجية وشقيقاه يعملان في البنك المركزي والبلدية، كما عمل ذووهم في وزارة الخارجية.
البيان العماني الرسمي تحدث عن تأثر هولاء الاشقاء بالفكر الضال، الذي يشير إلى فكر التكفير والقتل لأناس يختلفون مذهبيا مع فكر المنتمين لتنظيم داعش، وتظهر الوثائق أنهم بايعوا تنظيم داعش منذ فترة قريبة، وهذه رسالة كافية للاحتراز المكثف من هذا الفكر الطائفي التدميري القائم على الكراهية والعدوان، فرغم ذهاب الباحثين والخبراء إلى اعطاء اهمية كبيرة للعوامل النفسية والاجتماعية، التي يعيشها الفرد والتي تدفعه للانخراط في تنظيم انتحاري.
ورغم التعويل الكبير على الاضطرابات السياسية والفقر والتهميش الاقتصادي والطائفي والعرقي كأسباب محفزة للانتماء لهذه التنظيمات، لكن تبقى الايديولوجيا والخطاب الديني، العمود الفقري للتنظيمات الدينية التكفيرية، اعتمادا على نسق تأويلي وسياق فكري يقوم على المنابذة وعقيدة الولاء والبراء، وهذا هو الجواب على السؤال الثاني بعينه، فهذه التنظيمات لن تموت بالضربات العسكرية وحدها، ولا حتى بتجفيف المنابع وعزل الحواضن، فبذرتها الأولى دينية -نصوصية، وخطاباتها تحيل إلى فضاءات تراثية وأزمنة قديمة، كان محورها صراعات كلامية وعداوات مذهبية وأفكارا تنزيهية تشيطن الآخر وتخرجه من الملة بل من الانسانية، وما العوامل الأخرى سوى مرجحات ومحفزات وتشكيل استعدادات لقبول هذا الفكر، بوصفه ستراتيجية خلاص دنيوي وآخروي، الخلاص الدنيوي هو الحرب من أجل إقامة دولة الخلافة! حلا لمشكلة العالم المعاصر!، والخلاص الآخروي الموت انتحارا أو انغماسا في سبيل هذا الفكر.
يميل خبراء الغرب وساسته وباحثوه إلى إهمال العامل الايديولوجي كثيرا، ويذهبون إلى تفسير الظاهرة الإرهابية، بوصفها مشكلات فردية أو مجتمعية لدى هذا الصنف من المسلمين المعتنقين لأيديولوجية القاعدة وداعش واشباههما، ولذلك تبنى سياسات دحر هذه التنظيمات على مبادئ الحوكمة الرشيدة والحريات والعدالة والتنمية وحقوق الانسان والديمقراطية مع سياسات أمنية حازمة، لتجريد الأفراد من
دوافع التفكير بحلول لأزمات مجتمعية وتنموية من خارج منظومة الفكر السياسي المعاصر، هذه الستراتيجية تحقق نجاحا في احتواء الظاهرة الارهابية وليس القضاء عليها، وسيظل العالم يكابد هذه الظاهرة، ويعاني من نتائجها، التفسير الأصح لحالة صعود وهبوط العمليات الارهابية يعود إلى النجاح والإخفاق في سد الثغرات الأمنية والمطاردة المستمرة لهذه التنظيمات، وعدم السماح لها بالتمكن جغرافيا، مستفيدة من الفراغات الناشئة، بسبب الاضطرابات الاجتماعية والأزمات السياسية والمتغيرات البيئية، وبينما يرى الأمريكان احتمالية عودة داعش والقاعدة إلى النشاط القوي مجددا، فإن قوى محلية في منطقتنا تنظر إلى هذا التحذير بأنه ضرب من التخويف لمآرب سياسية للابقاء على قواتهم في المنطقة، وكذريعة لعدم الاستجابة لدعوات الانسحاب، الخطورة في السجال الحالي، هو التهوين من خطر داعش والتقليل من مضاعفات هجماته
لصالح فكرة الضغط على الأمريكان، لمنعهم من استخدام الارهاب ذريعة للتشبث والابقاء على قواتهم، فلكي تجرد أمريكا من ورقة الابقاء على قواتها العسكرية في العراق لمواجهة داعش، يقال إن داعش اندحر وأنه صنيعة أمريكية، لتصر الولايات المتحدة على القول بإنه لم يندحر نهائيا وما زال يشن هجمات متزايدة، منذ اندحاره من آخر بقعة أرض تمكن منها (الباغوز في دير الزور السورية عام 2018)، داعش شن 153 هجوما في النصف الاول من عام 2024 في العراق وسوريا وحدهما، مقارنة بـ 121 هجوما في عام 2023، وانفردت داعش خراسان بهجمات كرمان في ايران الذي أوقع مئات الضحايا بين قتيل وجريح، وهجوم موسكو الدامي الذي أوقع 150 ضحية في ايار 2024، ثم ليدشن التنظيم ساحة جديدة (مسقط )، رغم أنها أبعد الساحات عن الأزمات والمشكلات السياسية والامنية، داعش خطر كامن يهدد الأمن في العالم أجمع، وهو ينشط بقوة مجندا أفرادا جددا مستبدلا دولته (الواقعية) بدولة افتراضية (خلافة رقمية).