جولة في ذاكرة الحروب: تكشف خبايا الضحايا المنسيين!
عبد الامير رويح
2018-09-09 04:50
شهد العالم الكثير من الصراعات والحروب بسبب خلافات حدودية بين دول متجاورة، أو لأهداف توسعية تقودها دول كبرى تريد أن تسيطر على ثروات دول صغيرة كما نقلت بعض المصادر، تلك الحروب والنزعات الخطيرة التي خلفت وراءها الخراب والدمار والضحايا، حفرت في ذاكرة التاريخ الكثير من المأسي التي تسعى الكثير من الدول والحكومات الى استذكارها، بهدف توعية الجميع بمخاطر هذه الصراعات التي ماتزال تحصد ارواح الملايين من البشر في مختلف دول العالم.
وفي آخر مناسبة يشارك فيها قبل تخليه عن العرش، أبدى الإمبراطور اكيهيتو في الذكرى السنوية لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية ”ندمه الشديد“ بشأن الحرب في حين تعهد رئيس الوزراء شينزو آبي بعدم تكرار أهوال الحرب. وفي وقت سابق اكتفى آبي بإرسال قربان إلى ضريح ياسوكوني لضحايا الحرب المثير للجدل ولم يقم بزيارته مراعاة للعلاقات مع سول وبكين على ما يبدو. وتحدث اكيهيتو (84 عاما) الذي سيتخلى عن العرش العام المقبل بعد وقوفه دقيقة حداد عند النصب التذكاري لضحايا الحرب. وقال وهو يرتدي زي الحداد وبجواره زوجته الإمبراطورة ميتشيكو في زي الكيمونو ”عندما أفكر في أوقات السلم التي امتدت لسنوات عقب الحرب وبالنظر إلى ماضينا وبشعور بالندم الشديد.. أتمنى من كل قلبي ألا تتكرر أبدا ويلات الحروب“.
وأثارت زيارات سابقة لقادة يابانيين إلى ياسوكوني غضب الصين وكوريا الجنوبية إذ يكرم الضريح ذكرى 14 قائدا حربيا يابانيا أدانتهم محكمة للحلفاء بصفتهم مجرمي حرب إضافة إلى ضحايا للحرب. وتوترت العلاقات بين الصين واليابان طويلا بسبب ما تعتبره بكين اخفاقا من جانب طوكيو في التكفير عن احتلالها لأجزاء من الصين قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية رغم تحسن العلاقات بينهما مؤخرا.
وفي بكين قالت وزارة الخارجية ”ضريح ياسوكوني يخلد ذكرى مجرمي الحرب من الطراز الأول الذين كانوا مسؤولين بشكل مباشر عن العدوان“. وأضافت الوزارة في بيان ”نعارض بحزم الممارسات الخاطئة للجانب الياباني“. وعبرت وزارة الخارجية في كوريا الجنوبية عن ”أسفها الشديد“ لقيام آبي بإرسال قربان إلى الضريح. وقالت الوزارة في بيان ”تحث حكومتنا القادة السياسيين لليابان على القيام بمراجعة جادة وصادقة ... تجاه الماضي“.
حرب فيتنام
من جانب اخر لا يتذكر بام تان كونغ سوى بعض تفاصيل اليوم الذي قتل فيه جنود اميركيون في ماي لاي عائلته امامه، في واحدة من اسوأ المجازر التي وقعت خلال حرب فيتنام، لكن بعد خمسين عاما، ذكرى هذه المأساة الى جانب محاربين اميركيين سابقين. حدث ذلك في 16 آذار/مارس 1968. وفي المجموع قتل 504 قرويين معظمهم من النساء والاطفال والمسنين. وقتل جنود مشاة معظم ضحايا المجزرة، لذا، من المستبعد ان يكون الامر اختلط عليهم من مروحية ليعتقدوا انهم من مقاتلي الجبهة الوطنية للتحرير او الفيتكونغ.
لاذ كونغ انذاك مع والدته وشقيقته وشقيقه بملجأ بيتهم عندما بدأت مروحيات قصف مزارع الارز المحيطة به. بعد ذلك هاجم جنود اميركيون ملجأ العائلة بقنبلة يدوية وقتلوا كل من فيه باستثناء كونغ الذي كان في الحادية عشرة من العمر. ولم يعثر عليه والده الا بعد ساعات وسط جثث والدته واخويه. وكان الاميركيون قد خرجوا للتو من هجوم تيت العملية التي شنها الفيتكونغ خلال هدنة عيد رأس السنة القمرية 1968. وقد تمكنوا من السيطرة على الوضع لكن العملية اثرت على معنويات قواتهم.
وقال كونغ امام نصب الحرب للتذكير بالمجزرة "اكرس نفسي لحماية ذكرى المجزرة وليكون الناس مدركين وحشية الجيش الاميركي". وحفرت اسماء الضحايا ال504 على النصب وما زالت هاجسا يطارد الرجل الذي كرس حياته لحفظ ذكرى هذه المجزرة بصفته مديرا لمتحف الموقع. وقال كونغ الذي تقاعد العام الماضي لكن ذكرى العنف الذي شهدته قريته سون ماي التي اطلق عليها الاميركيون اسم ماي لاي خلال الحرب، ما زالت تطارده. واكد كونغ "لكن حاليا يجب ان نتطلع الى المستقبل والى تنمية البلاد (...) الماضي مضى ولا نريد ان نتمسك بالحرب".
وقد ابرمت فيتنام اليوم اتفاق سلام مع العدو السابق. وقام البلدان بتطبيع العلاقات بينهما في 1995 واصبحا شريكين تجاريين مهمين. وكتب على لوحة تذكارية ازيح عنها الستار "نخص بالتكريم ارواح الموتى ونصلي حتى لا يجرب اي مكان في العالم الالم الذي عاشته سون ماي".
وقال فرانك كوركوران احد المحاربين الاميركيين القدامى الحاضرين "اشعر بالالم عندما افكر بما فعلناه هنا". وكان كوركوران خلال الحرب يتمركز في قاعدة دانانغ المجاورة. ويذكر الصحافي في الجيش الاميركي رونالد هيربيلي الذي توجه الى فيتنام لحضور مراسم احياء الذكرى ان "ما شاهدناه في القرية كان مجزرة كاملة".
ولعبت الصور التي التقطها ونشرتها في 1969 مجلة "لايف" دورا كبيرا في تعبئة الرأي العام الاميركي ضد الحرب. وكان الصحافي الاستقصائي الاميركي سيمور هيرش كشف عن وقوع هذه المجزرة. لكن الامر استغرق سنوات لكشف كل تفاصيل اكثر الانتهاكات الجماعية التي ارتكبها الجنود الاميركيون في فيتنام توثيقا. بحسب فرانس برس.
واليوم ورغم مقتل ثلاثة ملايين فيتنامي في الحرب، اصبحت ذكرى المجزرة بعيدة لمعظم الشبان الفيتناميين في هذا البلد البالغ عدد سكانه 93 مليون نسمة نصفهم لم يبلغوا الثلاثين عاما. والماضي ليس اولوية في هذه المنطقة الزراعية الفقيرة التي يعيش سكانها على صيد السمك والزراعة. وقال نغوين نغوك لونغ الذي لم يكن قد تجاوز العامين عند وقوع المجزرة ان "حياتنا قاسية (...) لدينا هموم والكثير من العائلات في حالة عوز".
معركة ستالينغراد
على صعيد متصل احتفلت روسيا بالذكرى 75 للانتصار السوفياتي في معركة ستالينغراد التي شكلت تحولا كبيرا في الحرب العالمية الثانية، ورمز الفخر المستعاد والوطنية التي يريد تجسيدها فلاديمير بوتين خلال حملته لولاية رئاسية رابعة. ونظم عرض عسكري شارك فيه حوالى 1500 جندي، وآليات مدرعة وطائرات في فولغوغراد، الاسم الحالي لمدينة ستالينغراد في جنوب روسيا، حيث وقعت تلك المعركة وينتظر وصول الرئيس الروسي في المساء.
وحضر حشد ضم آلاف السكان العرض العسكري الذي شارك فيه جنود ببزاتهم العسكرية التي تعود الى تلك الحقبة او الحديثة ودبابات بينها "تي-34" التي كانت رمز الانتصار على هتلر، بينما حلقت فوقها عشرات الطائرات الحربية. وقالت مذيعة تلفزيونية "انه حدث مقدس بالنسبة لنا، مشيرة الى ان عددا كبيرا من افراد عائلتها قتلوا في هذه المعركة. وغيرت تلك المعركة التي تعتبر واحدة من اكثر المعارك دموية في التاريخ (1942-1943) اذ سقط فيها حوالى مليوني قتيل من الطرفين، مجرى الحرب في الاتحاد السوفياتي الذي كانت معنوياته منهارة حتى ذلك الحين من جراء تعرضه لعدد كبير من الهزائم الساحقة.
وما زال الروس يمجدونها باعتبارها الحدث الذي أنقذ اوروبا من النازية. وفي تصريح صحافي، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، انه "تاريخ بالغ الأهمية لنا جميعا". واكد المحلل السياسي قنسطنطين كالاتشيف ان "الوطنية في روسيا باتت عمليا ايديولوجية الدولة". واضاف انه فيما العلاقات بين موسكو والغرب في ادنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، تحتاج السلطات الروسية الى "رموز" مثل معركة ستالينغراد "لتعزيز صورة بلد قادر على تحقيق انجازات والتغلب عاجلا ام آجلا على جميع الاعداء".
واسفر حصار لينيغراد الذي استمر حوالى 900 يوم من 1941 الى 1943، عن ما بين 600 الف و1،5 مليون قتيل، كما يفيد مختلف التقديرات. وقال بوتين آنذاك "يتعين علينا استخدام اي ذريعة حتى نتذكره وحتى يتذكرونه في العالم، حتى لا يتكرر حصوله ابدا". واستمرت معركة ستالينغراد التي اندلعت في تموز/يوليو 1942، مئتي يوم وليلة كانت المدينة خلالها مسرحا لعمليات قصف جوي المانية شرسة وحرب شوارع اتسمت بعنف غير مسبوق. بحسب فرانس برس.
وفي الثاني من شباط/فبراير 1943، استسلمت قوات الماريشال الألماني فريدريش فون باولوس، وقد حاصرها الجيش الأحمر، وهذا الاستسلام كان الاول للجيش النازي منذ بداية الحرب. واسفرت هذه المعركة بالاجمال عن حوالى مليوني قتيل من الطرفين، كما تفيد الارقام الرسمية الروسية، وخلفت دمارا شاملا في المدينة. وستالينغراد التي أعيد بناؤها بالكامل بناء على اوامر السلطات السوفياتية، سميت فولغوغراد في 1961، بعد ثماني سنوات على وفاة جوزف ستالين. ومنذ 2013، وبناء على قرار للنواب المحليين، "يعاد تسمية" المدينة ستالينغراد ست مرات في السنة، خصوصا في الثاني من شباط/فبراير، لذكرى الانتصار في معركة ستالينغراد، وفي 9 ايار/مايو حيث تحتفل روسيا بالانتصار على المانيا النازية.
الجنود المنسيون
في السياق ذاته تشبه قاعدة بومفرت العسكرية القديمة التي نهبت منازلها ودمرت متاجرها وهجر مستشفاها، منطقة حرب. لكن ما زال يعيش فيها جنود انغوليون نسيتهم جنوب افريقيا التي قاتلوا من اجلها أيام نظام الفصل العنصري. وفي صحراء كالاهاري، تذيب شمس الصيف الجنوبي القطران الباهت للشارع الرئيسي. وحده مرور أعداد قليلة من السكان الذين يتبادلون بعض الكلمات باللغة البرتغالية، يخرق سبات هذه القرية التي اصبحت شبحا.
التيار الكهربائي مقطوع وجريان الماء فيها قد توقف، لكن بومفرت ما زالت تؤوي ثلاثة آلاف شخص. والأنغولي جوزيه لورنسو (69 عاما) واحد منهم. وفي الثمانينيات، قاتل في انغولا ضد بلاده لحساب جيش جنوب افريقيا في اطار الكتيبة 32 التي كانت تتصدر الخطوط الأولى لمعارك جنوب افريقيا ضد جيرانها. واكد جوزيه الذي كان يجلس في باحة منزله الصغير، وهو من المنازل النادرة التي ما زالت قائمة في بومفرت "لم نكن نخاف من احد، كنا افضل كتيبة في العالم".
وفي تلك الفترة، كان نلسون مانديلا مسجونا في روبن ايلاند، ونظام الفصل العنصري الابيض لا يزال يحكم سيطرته على السلطة في بريتوريا، ويستخدم جيشها مرتزقة لقتال النظام الماركسي المعادي في لواندا. وقال جوزيه لورنسو فيما كان يدل على شارة تحمل صورة الجاموس شعار وحدته المعلق على جدار مطبخه، ان "الفصل العنصري لم يكن موجودا في الكتيبة 32. فحيث كان البيض يشربون، كنا نشرب. وحيث كان البيض ينامون، كنا ننام".
وبلهجته الافريكانية الخشنة، يتذكر الجنرال غيرت نل القائد السابق للكتيبة هذا الماضي. ويقول "كنا نعطي الانغوليين الطعام والمال والثياب ومستقبلا. وفي المقابل، كانوا يقدمون لنا خبرتهم الميدانية". وفي نهاية الحرب الباردة، انتهى النزاع بين البلدين الجارين. ووعدت جنوب افريقيا مجنديها الانغوليين بإلحاقهم بجيشها. وبالتالي، كانت سنواتهم الاولى في بومفرت هادئة. وقال ماكابا تشيموكو هو نجل مقاتل سابق، امام مجمع مدمر اليوم "هنا، كان النادي حيث كان الضباط يمضون سهراتهم. وكان يضم حتى قاعة للرقص".
لكن جنود الكتيبة 32 اصيبوا بخيبة امل لدى سقوط نظام الفصل العنصري. فقد فضل عدد كبير من الانغوليين التخلي عن البزة العسكرية في مقابل مبلغ ثلاثين الف يورو. وأعيد توزيع عائلاتهم تدريجيا في مناطق اخرى من البلاد، ودخلت قاعدة بومفرت مرحلة الاندثار البطيء. وفي سنوات الالفين، اعلنت حكومة المؤتمر الوطني الافريقي عزمها على اغلاقها نهائيا ونقل سكانها الى مناطق اخرى. لكن مجموعة رفضت باصرار المغادرة.
وتساءل لورنسو "وصلنا الى هنا محملين بالوعود. ثم ارادت الحكومة الجديدة ان نغادر وتخلت عنا. لماذا يتعين علينا العودة الى بلدنا؟" وعندئذ بدأ الخلاف مع السلطات. وغادرت الشرطة القرية، ونهبت المنازل وسلبت محتويات المستشفى، وغطت الاعشاب العالية المقبرة العسكرية. وباتت المياه لا تصل إلا مرة واحدة في الاسبوع الى الحنفيات. وفي 2014، اطلقت رصاصة الرحمة التي تمثلت بقطع التيار الكهربائي.
واعرب جندي سابق جنوب افريقي من الكتيبة 32 فضل التكتم على هويته، عن اسفه بالقول ان "الصعوبة التي تواجهها بومفرت هي ان المدينة الاولى تبعد عنها 200 كلم. لا تتوافر اية بنية تحتية، ولا مياه ولا كهرباء، كل ذلك في كالاهاري، وليس ثمة اي اقتصاد". ولا تزال مدرسة وحيدة تتيج للأطفال التعلم حتى مستوى البكالوريا. واعرب متقاعد آخر افريكاني من الكتيبة 32، متمنيا التكتم على هويته، عن قلقه بالقول "كم من الوقت سيتمكنون من البقاء هناك؟".
لكنه يعتبر ان اخوة السلاح الانغوليين مسؤولون الى حد كبير عن اوضاعهم. وقال ان "المال الذي تلقوه كان يفترض ان يتيح لهم شراء منازل والمغادرة. المسؤولية تقع على عاتقهم وليس على عاتق الحكومة". وتوقف الزمن في نظر جوزيه لورنسو. انه يعيش في حنين الى ماض ضائع، ممزقا بين بلاده التي ما تزال تعتبره خائنا، وجنوب افريقيا جديدة مختلفة كثيرا عن تلك التي حارب من اجلها. وبغضب قال هذا العسكري المتقاعد ان "على الحكومة ان تقول لنا ما هي الاخطاء التي ارتكبناها؟ لماذا يعاقبوننا بهذه الطريقة؟ فليأتوا ويقولوا لنا الحقيقة". واضاف "ولدت في انغولا. قلبي يحتاج للعودة الى هناك، لكني قاتلت ضد بلادي، لذلك لا استطيع العودة". بحسب فرانس برس.
ويتساءل الكسندر يواخيم، السرجنت السابق (74 عاما) "يقول الانغوليون اننا قتلناهم، والمؤتمر الوطني الافريقي يعتقد اننا قتلنا مقاتليه في تلك الفترة. ماذا نستطيع ان نفعل؟". الأيام طويلة في بومفرت المحرومة من كل شيء تقريبا. وقال انطونيو ايساك (18 عاما) المولود في بومفرت "تنقصني اشياء كثيرة هنا، لا استطيع حتى ان اقوم بواجباتي عندما يهبط الظلام. لا فائدة ترجى من البقاء. بعد البكالوريا، سأغادر" بومفرت. وعلى رغم هذه الظروف الحياتية المؤسفة، ما زال البعض يتمسك بهذه القرية المدمرة لكنها تحمي ذكرياتهم. وخلص ماكامبا تشيموكو الى القول "لا نريد ان نرحل لان تاريخ ابائنا موجود هنا".