دونالد ترامب وتحديات السياسة الخارجية
بروجيكت سنديكيت
2016-11-13 08:56
جوزيف ناي
كمبريدج ــ خلال حملته الانتخابية، شكك رئيس الولايات المتحدة المنتخب دونالد ترامب في التحالفات والمؤسسات التي تشكل الأساس الذي قام عليه النظام العالمي الليبرالي، ولكنه لم يعرض بالتفصيل سوى القليل من السياسات المحددة. ولعل السؤال الأكثر أهمية الذي أثاره فوز ترامب هو ما إذا كانت المرحلة الطويلة من العولمة التي بدأت في نهاية الحرب العالمية الثانية انتهت فعليا.
ليس بالضرورة. فحتى لو فشلت اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ واتفاق شراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي، وتباطأت العولمة الاقتصادية، تعمل التكنولوجيا على تعزيز العولمة البيئية والسياسية والاجتماعية في أشكال مثل تغير المناخ، والإرهاب العابر للحدود الوطنية، والهجرة ــ سواء شاء ترامب أو أبى. فالنظام العالمي ليس الاقتصاد فحسب، وتظل الولايات المتحدة تحتل مركز القلب من هذا النظام.
كثيرا ما يسيء الأميركيون فهم مكانهم في العالم. فنحن نتأرجح بين تصورات التفوق والانحدار. بعد إطلاق السوفييت للقمر الصناعي سبوتنيك في عام 1957، كنا نعتقد أننا في انحدار. وفي ثمانينيات القرن العشرين، كنا نظن أن اليابانيين عمالقة. وفي أعقاب الركود الأعظم في عام 2008، اعتقد كثيرون من الأميركيين مخطئين أن الصين أصبحت أكثر قوة من الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من اللغة التي استخدمها ترامب في حملته، فإن الولايات المتحدة ليست في انحدار. فبفضل الهجرة، تُعَد الدولة المتقدمة الكبيرة الوحيدة التي لن تعاني من انحدار ديموغرافي (سكاني) بحلول منتصف القرن؛ ولا يتزايد اعتمادها على الواردات من الطاقة بل يتجه نحو الانحسار؛ وهي في طليعة التكنولوجيات الرئيسية (التكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا النانو، والمعلومات) التي ستشكل هيئة هذا القرن؛ كما تهيمن جامعاتها على جداول التصنيف العالمية.
سوف تزاحم قضايا مهمة عديدة أجندة ترامب في السياسة الخارجية ولكن القليل من القضايا الرئيسية من المرجح أن تهيمن على الساحة ــ على وجه التحديد علاقات القوة مع الصين وروسيا والاضطرابات في الشرق الأوسط. وتظل المؤسسة العسكرية الأميركية القوية ضرورية ولكنها ليست كافية لمعالجة القضايا الثلاث. لا شك أن الحفاظ على التوازن العسكري في أوروبا وشرق آسيا من المصادر المهمة للنفوذ الأميركي، ولكن ترامب محق عندما يقول إن محاولة السيطرة على السياسة الداخلية للشعوب القومية في الشرق الأوسط وصفة أكيدة للفشل.
تشهد منطقة الشرق الأوسط مجموعة مقعدة من الثورات النابعة من الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار، والصراع الطائفي الديني، والحداثة المتأخرة كما وصفتها تقارير التنمية البشرية العربية الصادرة عن الأمم المتحدة. وقد تدوم الاضطرابات الناتجة لعقود من الزمن، وسوف تستمر في تغذية الإرهاب الجهادي المتطرف. فقد ظلت حالة عدم الاستقرار في أوروبا قائمة طوال خمسة وعشرين عاما بعد الثورة الفرنسية، وكانت التدخلات العسكرية من قِبَل قوى خارجية سببا في تفاقم الأمور سوءا.
ولكن حتى مع تراجع الواردات من الطاقة من الشرق الأوسط، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تدير ظهرها للمنطقة، نظرا لمصالحها في إسرائيل، وعدم الانتشار النووي، وحقوق الإنسان، بين أمور أخرى. والحرب الأهلية التي تدور رحاها في سوريا ليست مجرد كارثة إنسانية؛ فهي تعمل أيضا على زعزعة استقرار المنطقة وأوروبا أيضا. ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تتجاهل مثل هذه الأحداث، ولكن ينبغي لسياستها أن تركز على الاحتواء، والتأثير على النتائج من خلال دفع وتعزيز الحلفاء، بدلا من محاولة فرض السيطرة العسكرية المباشرة، التي ستكون باهظة التكلفة وهدّامة.
وفي المقابل، يجعل ميزان القوى الإقليمية في آسيا تواجد الولايات المتحدة موضع ترحيب هناك. فقد أثار صعود الصين المخاوف في الهند، واليابان، وفيتنام، ودول أخرى. ومن الواضح أن إدارة صعود الصين عالميا من تحديات السياسة الخارجية الكبرى التي تواجه الولايات المتحدة هذا القرن، وتظل الاستراتيجية الأميركية الثنائية الحزبية والمزدوجة المسار القائمة على "التكامل ولكن مع تأمين الذات" ــ والتي بموجبها وجهت الولايات المتحدة الدعوة إلى الصين للانضمام إلى النظام العالمي الليبرالي، في حين أكَّدَت على معاهدتها الأمنية مع اليابان ــ هي النهج الصحيح.
على النقيض من الحال قبل قرن من الزمن، عندما تسببت ألمانيا الصاعدة (التي تفوقت على بريطانيا بحلول عام 1900) في تغذية المخاوف التي ساعدت في التعجيل بكارثة 1914، فإن الصين لا تقترب حتى من التفوق على الولايات المتحدة في القوة الشاملة. وحتى إذا تفوق اقتصادها على الاقتصاد الأميركي في الحجم الإجمالي بحلول عام 2030 أو 2040، فإن نصيب الفرد في الدخل هناك (المقياس الأفضل للتقدم الاقتصادي) سوف يتأخر. وعلاوة على ذلك، لن تتعادل الصين مع القوة العسكرية الأميركية الصارمة أو قوتها الناعمة الجاذبة. وكما قال مؤسِّس سنغافورة الراحل لي كوان يو ذات مرة، ما دامت الولايات المتحدة منفتحة وجاذبة للمواهب من العالم، فسوف تعطيكم الصين "منافسة قوية"، ولكنها لن تحل محل الولايات المتحدة.
لهذه الأسباب، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى سياسة احتواء للصين، فالدولة الوحيدة القادرة على احتواء الصين هي الصين. فعندما تدفع الصين صراعاتها الإقليمية مع جيرانها، تحتوي ذاتها. ولابد أن تبادر الولايات المتحدة إلى إطلاق مبادرات اقتصادية في جنوب شرق آسيا، والتأكيد على تحالفها مع اليابان وكوريا، والاستمرار في تحسين العلاقات مع الهند.
وأخيرا، هناك روسيا الدولة التي تشهد انحدارا، ولكنها تمتلك ترسانة نووية كافية لتدمير الولايات المتحدة ــ وبالتالي تظل تشكل تهديدا محتملا لأميركا وغيرها. وتدير روسيا، التي تعتمد بشكل كامل تقريبا على العائدات من موارد الطاقة، "اقتصاد المحصول الواحد" في ظل الفساد المؤسسي ومشاكل ديموغرافية وصحية يتعذر التغلب عليها. والواقع أن تدخلات الرئيس فلاديمير بوتن في الدول المجاورة والشرق الأوسط، وهجماته السيبرانية على الولايات المتحدة وغيرها، برغم أن الهدف منها جعل روسيا تبدو عظيمة مرة أخرى، لن تُفضي إلا إلى زيادة آفاق البلاد في الأمد البعيد سوءا. ولكن في الأجل القصير، تخوض الدول المنحدرة غالبا المجازفات فتصبح بالتالي أشد خطورة ــ ولنتذكر هنا حال الإمبراطورية النمساوية المجرية في عام 1914.
وقد خلق هذا مأزقا سياسا. فمن ناحية، من المهم أن نقاوم تحدي بوتن الذي قد يغير قواعد اللعبة في ما يتصل بحظر النظام الليبرالي بعد عام 1945 لاستخدام الدول للقوة للاستيلاء على أراضي الجيران. ومن ناحية أخرى، كان ترامب مصيبا عندما تحدث عن ضرورة تجنب العزل الكامل لدولة تربطها بنا مصالح متداخلة عندما يتعلق الأمر بالأمن النووي، ومنع الانتشار النووي، ومكافحة الإرهاب، والقطب الشمالي، والقضايا الإقليمية مثل إيران وأفغانستان. وتمثل العقوبات المالية والعقوبات في مجال الطاقة ضرورة أساسية للردع؛ ولكننا لدينا أيضا مصالح حقيقية لن تتحقق على النحو الأفضل إلا من خلال التعامل مع روسيا. فلن يكسب أحد من حرب باردة جديدة.
إن الولايات المتحدة ليست في انحدار. وتتلخص مهمة ترامب المباشرة في السياسة الخارجية في ضبط خطابه وطمأنة الحلفاء وغيرهم إلى استمرار أميركا في الاضطلاع بدورها في النظام العالمي الليبرالي.