الفشل الديمقراطي في بريطانيا
بروجيكت سنديكيت
2016-06-29 06:34
كينيث روغوف
كمبريدج ــ لم يكن الجنون الحقيقي في تصويت المملكة المتحدة بترك الاتحاد الأوروبي في أن يجد الزعماء البريطانيون في أنفسهم الجرأة الكافية لمطالبة عامة الناس بوزن فوائد العضوية في مقابل الضغوط التي تفرضها في ما يتصل بمسألة الهجرة. بل كان الجنون في مانع الخروج المنخفض إلى حد السَخَف، والذي لم يتطلب تجاوزه سوى الأغلبية البسيطة. ولأن الإقبال على التصويت من قِبَل الناخبين بلغ 70% فإن هذا يعني أن حملة الرحيل فازت بما لا يتجاوز 36% من أصوات الناخبين المؤهلين الذين ناصروها.
هذه ليست ديمقراطية؛ بل هي أقرب إلى لعبة الروليت الروسية. فقد اتُّخِذ هذا القرار الذي ينطوي على عواقب هائلة ــ أعظم كثيرا حتى من تعديل دستور البلاد (تفتقر المملكة المتحدة إلى دستور مكتوب بالطبع) ــ في غياب أي ضوابط أو توازنات ملائمة.
فهل يجب أن يتكرر التصويت بعد عام على سبيل التأكد؟ كلا. وهل يجب أن تدعم أغلبية في البرلمان قرار الخروج؟ كلا في ظاهر الأمر. وهل كان سكان المملكة يعلمون حقا على أي شيء يصوتون؟ بالقطع كلا. الواقع أن لا أحد لديه أي فكرة عن العواقب، سواء بالنسبة للملكة المتحدة في النظام التجاري العالمي، أو التأثير على الاستقرار السياسي الداخلي. وأخشى أن الصورة النهائية لن تكون جميلة.
من الأهمية بمكان أن ننتبه إلى أن الغرب محظوظ بالعيش في زمن السِلم: حيث يمكن التعامل مع الظروف والأولويات المتغيرة من خلال العمليات الديمقراطية وليس الحروب الخارجية والأهلية. ولكن كيف نصف على وجه التحديد العملية الديمقراطية النزيهة التي تحكم اتخاذ قرارات لا رجعة فيها تحدد هوية الأمة؟ وهل يكفي حقا الحصول على 52% من الأصوات لصالح الانفصال في يوم ممطر؟
عندما يتعلق الأمر باستدامة وثبات الأفضليات، سنجد أن أغلب المجتمعات تضع في طريق أي زوجين راغبين في الطلاق عقبات أكبر من تلك التي وضعتها حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون على طريق اتخاذ القرار بترك الاتحاد الأوروبي. لم يخترع الخروج البريطاني هذه اللعبة؛ فهناك سوابق كثيرة، بما في ذلك اسكتلندا في عام 2014 وكيبيك في عام 1995. ولكن حتى الآن، لم تتوقف اسطوانة المسدس عند الرصاصة. والآن وقد انطلقت الرصاصة بالفعل فقد حان الوقت لإعادة النظر في قواعد اللعبة.
إن فكرة أن أي قرار يتم التوصل إليه في أي وقت على نحو أو آخر من خلال حكم الأغلبية هو بالضرورة قرار "ديمقراطي" تُعَد تحريفا واضحا للمصطلح. فقد أنشأت الديمقراطية الحديثة أنظمة الضوابط والتوازنات لحماية مصالح الأقليات وتجنب اتخاذ قرارات عن جهل تقود إلى عواقب مأساوية. وعلى هذا، فكلما كان القرار أعظم وأكثر دواما لابد أن تصبح العقبات والحواجز أعلى.
ولهذا السبب فإن استنان تعديل دستوري، على سبيل المثال، يتطلب في عموم الأمر تجاوز حواجز أعلى كثيرا من تمرير مشروع قانون للإنفاق. ومع هذا فإن المعايير الدولية الحالية لتفكيك بلد ما ربما تكون أقل صعوبة من التصويت لخفض سن تناول المشروبات الكحولية.
مع مواجهة أوروبا الآن لخطر قدوم عدد كبير من الاستفتاءات على الانفصال، يبرز سؤال ملح حول ما إذا كانت هناك طريقة أفضل لاتخاذ مثل هذه القرارات. وقد استطلعت آراء عدد كبير من علماء السياسة البارزين لكي أرى ما إذا كان هناك أي إجماع أكاديمي؛ ومن المؤسف أن الإجابة باختصار جاءت بالنفي.
من المؤكد أن قرار الخروج البريطاني ربما بدا بسيطا على ورقة الاقتراع، ولكن في حقيقة الأمر لا أحد يعرف ماذا قد يأتي بعد التصويت بالخروج. ما نعرفه على وجه اليقين هو أن أغلب البلدان تشترط في الممارسة العملية أغلبية عظمى عندما يتعلق الأمر بقرارات تحدد مصير أمة، وليس مجرد 51%. ولا يوجد رقم عالمي مثل 60%، ولكن المبدأ العام يقضي بأن تكون الأغلبية مستقرة بشكل واضح على أقل تقدير. ولا ينبغي لأي بلد أن يجري تغييرات جوهرية لا يمكن التراجع عنها استنادا إلى أقلية ضئيلة ربما لا تكون لها الغَلَبة إلا خلال مدة قصيرة من العاطفة الحماسية. وحتى إذا لم ينزلق اقتصاد المملكة المتحدة إلى الركود الصريح بعد هذا التصويت (ربما يعمل تراجع الجنيه الإسترليني على تخفيف الضربة الأولية)، فالفرصة قائمة بلا أدنى شك أن يؤدي الخلل الاقتصادي والسياسي الناجم عن الخروج إلى شعور بعض من صوتوا لصالح الخروج بالندم الشديد.
منذ العصور القديمة، حاول الفلاسفة ابتكار أنظمة لمحاولة إيجاد التوازن بين مواطن القوة الكامنة في حكم الأغلبية والحاجة إلى ضمان حصول الأحزاب الواعية على قوة تصويت أكبر في القرارات الحرجة ، ناهيك عن الإنصات إلى أصوات الأقلية. في مجالس اسبرطة في اليونان القديمة، كانت الأصوات تُجمَع بالتصفيق والتهليل. وكان بوسع الناس تعديل أصواتهم لعكس شدة تفضيلاتهم، في حين يصغي رئيس الجلسة بعناية ثم يعلن النتيجة. ولم تكن هذه الممارسة كاملة، ولكنها ربما كانت أفضل مما حدث للتو في المملكة المتحدة.
تفيد بعض التقارير بأن دولة أثينا، شقيقة اسبرطة، كانت تنفذ أنقى مثال تاريخي للديمقراطية. فكانت كل الطبقات تحصل على أصوات متساوية (وإن كان الذكور فقط). ولكن في نهاية المطاف، وبعد بعض قرارات الحروب الكارثية، أدرك أهل أثينا الحاجة إلى إعطاء صلاحيات أكبر لهيئات مستقلة.
ماذا كانت المملكة المتحدة لتفعل إذا كان من الواجب طرح مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي (وهو ما لم تفعل بالمناسبة)؟ من المؤكد أن العقبة كان من الواجب أن تصبح أعلى كثيرا؛ على سبيل المثال، كان من الواجب أن يتطلب الخروج البريطاني التصويت الشعبي مرتين على مدى عامين على الأقل، ويعقب ذلك التصويت في مجلس العموم بنسبة 60%. وإذا كانت الغَلَبة لخروج بريطانيا رغم ذلك، فسوف يكون بوسعنا أن نعلم أن الأمر لم يكن مجرد لقطة لمرة واحدة في الزمن لشريحة صغيرة من السكان.
الحق أن تصويت المملكة المتحدة ألقى بأوروبا إلى حالة من الارتباك والفوضى. وسوف يتوقف الكثير على ردة الفعل العالمية والكيفية التي تدير بها حكومة المملكة المتحدة عملية إعادة تشكيل نفسها. ومن الأهمية بمكان أن نؤكد على الحقائق ليس فقط في ما يتصل بالنتيجة، بل وأيضا العملية ذاتها. وأي إجراء لإعادة تعريف ترتيب طويل الأمد بشأن حدود أي بلد لابد أن يتطلب ما هو أكثر من مجرد الأغلبية البسيطة في تصويت لمرة واحدة. والواقع أن معيار الأغلبية البسيطة الدولي الحالي، كما رأينا للتو، يُعَد صيغة للفوضى.