تآكل الاقتصاد السياسي والتراجع عن الحرية
حاتم حميد محسن
2016-04-23 04:23
تتعرض الليبرالية الكلاسيكية للهجوم من عدة جبهات. فرديتها يُنظر اليها من حيث الجوهر كشيء غير مألوف للطبيعة الاجتماعية للانسان. الفروقات في الدخل والثروة تكشف ان الحريات الرسمية والمساواة امام القانون ليست الا زيفا محضا. حب المرء الطبيعي لبلد ما يتداخل مع الرفض الشوفيني للطرق الاجنبية. التصويت الديمقراطي ليست له حدود. وحتى الحرية الاقتصادية الاساسية، وهي المجال الذي تُستشعر فيه الثمار النافعة للحرية، يتم التعامل معها بشيء من الريبة والرفض العلني.
الليبرالية الكلاسيكية، اساسا، عُرضت كأيديولوجية اقتصادية ضيقة يُشك بصلاحيتها العلمية، وتفتقر الى العمق الفلسفي والسياسي. هذه المفارقة جرى التعبير عنها بمصطلح "الليبرالية الجديدة" الذي اُستخدم على نطاق واسع للاستهزاء بحزب الحرية(1). ربما سيتم في نهاية المطاف القبول بـ"الليبرالية الجديدة" كاسم ملائم لنوع من الليبراليين الأكثر تماسكا مما هو حاصل في التنوع الامريكي. في الحقيقة، رفع وليم كولمان راية "الليبرالية الجديدة" مفتخرا ليشير الى ان اقتصاد السوق هو الدعامة الرئيسية لأي ليبرالية محترمة. ان مصطلح "الليبراليين الكلاسيك" هو افضل من "الليبراليين الجدد" لأنه يذكّر بالنسب المتميز والاتجاه الواسع للفلسفة.
ان اختزال الليبرالية الكلاسيكية في الاقتصاد، خاصة ذلك النوع من الاقتصاد الهش الذي يروج له تقنيو حرفة الاقتصاد سيجعل مهمة اولئك النقاد اكثر سهولة. نحتاج فقط للوقوف امام قائمة مظاهر فشل السوق التي يضيف لها الاقتصاديون الحاليون في كل يوم. لنتطرق الآن الى القليل من مظاهر الفشل هذه.
اولى هذه المظاهر واكثرها سوءا هي النقود والتمويل والتي يعزى انهيارها الاخير الى الحرية والطمع اللامحدود، مع انها تعود بالدرجة الاولى الى سوء الادارة في البنوك المركزية والمنظمون، الذين يطالبون الآن وبوقاحة بسلطات اكبر.
المظهر الثاني هو تقلبات المناخ –الذي يسمى سابقا الاحتباس الحراري– والذي لا يستطيع السوق الحر معالجة نتائجه الكارثية، ولذا يمكن تجنبها فقط عبر اتفاق سياسي عالمي لمنع استخدام الوقود الحجري وتشجيع الطاقة النظيفة. هناك ايضا فكرة ان المنافسة التي تُركت لوسائلها الخاصة سوف تؤدي الى انتشار واسع لشركات القلة وهو ما يتطلب يقظة عالية لسلطات منع الاحتكار. شعار اليوم هو ان الاغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا، وهي النزعة التي تُعالج فقط بالضرائب الباهظة جدا.
اخيرا، من المسلم به ان السوق الحر هو غير قادر على تقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية، من الصحة والتقاعد الى التعليم والتوظيف الكامل. يبدو احيانا ان الاقتصاديين المهنيين الذين يضعون باستمرار العلاجات لهذه العيوب هم المصدر الرئيسي للشك بشأن فاعلية وعدالة الرأسمالية.
يجب ان لا تحمل ردة الفعل تجاه هذه العيوب اية ادانة ضمنية للحرية الاقتصادية او دعوة فورية للسلطات "لعمل شيء ما بشأنها". عادة مثل هذا النشاط اللاواعي يجعل الامور اكثر سوءا، حينما تكون هناك امكانية للحصول على منافع من المنافسة والتطور المؤسسي.
في الحقيقة، ان التحليلات الاقتصادية تعاني من قصر نظر مقرف عندما لا تتأسس على قاعدة صلبة من الفلسفة السياسية الليبرالية. وبالعكس، الفلسفة السياسية سوف تُضرب بتيارات ورياح الموضة المجردة اذا لم توضع على اساس متين من الاقتصاد. لذا فان المطلوب هو انعاش الاقتصاد السياسي كجهد مشترك للفلسفة الليبرالية والبحوث الاقتصادية لإنقاذ الليبرالية الكلاسيكية من وضعها الحالي المخيف. الاقتصاد السياسي يأخذ بالاعتبار كل من النماذج المكتشفة والسياسات المقترحة في الحقل الضيق للاقتصاد وتعاليم الفلسفة السياسية عند النظر للانعكاسات الواسعة لتلك الاكتشافات والمقترحات على حاضر المجتمع ومستقبله. الاقتصاد السياسي كجهد مشترك من الفلسفة الاجتماعية والسياسية والاقتصاد يجب ان يكون في الجبهة الامامية لقلعة الحرية.
تأسيس جمعية مونت بيلرين Mont Pelerin Society
السؤال الذي يبرز مباشرة هو كيف ان مهنة الاقتصاد خلال المائة والخمسون سنة الماضية تخلّت باستمرار عن فلسفة الحرية التي كانت الطابع المميز خلال الفترة الكلاسيكية. اثناء الحرب العالمية الثانية نشر فردريك هايك كتابه (الطريق الى العبودية) عام 1944 ليمثل تحذيرا قويا للجمهور من الخطر الذي يمثله الفكر الجمعي من داخل دول التحالف التي تكافح ظاهريا لأجل الحرية. التركيز الرئيسي والشيء الاكثر اهمية لهايك كان مواجهة أخطار الانزلاق نحو الجماعية وإضعاف الليبرالية، لذا هو نظم عام 1947 تجمعا لمجموعة من الاقتصاديين والمؤرخين والفلاسفة وطلاب في الشؤون السياسية في قرية مونت بلرين السويسرية. رواد الحرية المجتمعون اختتموا اجتماعهم بتأسيس جمعية باسم القرية التي اجتمعوا فيها. الاهداف المعلنة لجمعية بلرين تعطي اشارة لحجم نوايا المؤسسين. كانت هناك مسألة لم يرغب الرواد تضمينها في اعلانهم: هم متفقون ضمنا بان حرية السوق هي الافضل. بدلا من ذلك، هم ركزوا على نقاط اخرى وحيث تحتاج الفلسفة الليبرالية الى اصلاح. بدأ الاعلان بالحاجة الى تحليل وتوضيح الازمة القائمة عبر الفهم الدقيق لاصولها الاقتصادية والاخلاقية الاساسية – اهمية "الاخلاق".
هم استمروا بالمطالبة بإعادة تعريف وظائف الدولة في النظام الليبرالي بما في ذلك تأسيس حد أدنى للمعيشة "لا يؤذي مقدرة ووظيفة السوق". السؤال الاكثر اهمية لهم كان اصلاح حكم القانون الذي تآكل بشدة اثناء الثلاثينات من القرن الماضي. هم ايضا عبّروا عن الحاجة لنظام دولي "يفضي للسلام والحرية وعلاقات اقتصادية دولية منسجمة". لكن، من بين تلك الاهداف نشير الى اهتمام اخر لهايك انعكس في ذلك الاعلان: الحاجة الملحة للتصدي لـ"اساءة استعمال التاريخ وما ينتج عن هذا الاستعمال من ترسيخ للمذاهب المعادية للحرية". هو اعتقد بأهمية وقف اللامبالاة المتزايدة بمسائل التاريخ، سواء فيما يتعلق بالتاريخ الاقتصادي (تاريخ الهروب الكبير للإنسان من الجوع والموت المبكر والاستعباد والجهل)، والتاريخ الفكري (تطور مذهب الفردية في أبعادها السياسية والاقتصادية).(2)
جون ستيوارت مل كنقطة تحول
في منتصف القرن التاسع عشر وحينما كانت حرية التجارة في اوج انتصارها، بدأت الليبرالية الكلاسيكية تسير في الاتجاه الخاطئ. رغم ان جون ستيوارت مل (1806-1873) كان من اشهر فلاسفة الحرية واكثر المساهمين في تقدم الاقتصاد هو كان اداة مؤثرة في تآكل الليبرالية التي لطالما اعتنى بها. رؤيته لمنزلة الفرد في المجتمع كانت نخبوية وابوية جدا. كان مل يرى ان الجمهورية الامريكية العظمى هي مجتمع لقاطفي الدولار اعطي لمن يخلقون أعدادا جديدة من قاطفي ذلك الدولار.
ايضا، اقتراحه الاساسي بتغيير نظام الملكية الخاصة كان الخطوة الاولى نحو الحد من اسلوب المتعة اللامسؤولة. اعتقد مل انه انجز مساهمات هامة في الاقتصاد السياسي بتمييزه بين قوانين الانتاج وقوانين التوزيع. بالنسبة له، يرى ان قوانين الانتاج قريبة من قوانين الطبيعة، كونها اساسا حكمت افعال الناس في المجتمع: هذه مثل قوانين مالتس في السكان، هبوط انتاجية الارض، دور رأس المال في الفعالية الانتاجية، او الكلفة المقارنة لتدفق التجارة الدولية. اما بالنسبة لتوزيع الثروة فهي ليست كذلك. انها مسألة تتعلق بالمؤسسة الانسانية وحدها. حالما تكون الاشياء هناك، يمكن للبشر افرادا او جماعات التصرف بها كما يشاؤون وبالطريقة التي يرغبون بها.
في التوزيع، يستطيع المجتمع صنع قوانينه الخاصة
هو لا يعني عدم اختبار نتائج ترتيبات التوزيع الجديدة قبل اجراء الاصلاحات، بل لا وجود هناك لحدود طبيعية للتجارب الجديدة في التوزيع. هو درس ووجد عيوبا في مقترحات مختلف الجماعات الاجتماعية في زمانه. ولكن مع ذلك، هو اقترح اصلاحات عميقة لأنظمة الملكية الخاصة. التغيرات التي اقترحها كانت مرتكزة على تبرير جون لوك للملكية عبر العمل: المرء يجب ان يكون له الحق فقط لما ينتجه بالعمل(3). وبما انه لا احد يمتلك حق اساسي بتراكم الثروة بالوراثة او باحتلال قوى الطبيعة المنتجة، هو اراد تقييد ما يرثه المرء واقترح اصلاح الملكية في الارض. هو ايضا فضّل التشاركيات وزيادة مشاركة العمال بأرباح الشركة.
انهيار الاقتصاد السياسي الكلاسيكي
ما تقدم كان مثالا للجاذبية المتنامية للاشتراكية لدى كل من الجمهور العام والسياسيين. الكتاب والفنانون الذين شعروا بالاسى من العدد الكبير للمصانع البريطانية الشريرة الداكنة ايضا بدأوا حربهم على الرأسمالية في ذلك الوقت. بموازاة ذلك، كانت القومية تزداد قوة، وباستمرار استُخدمت من جانب السياسيين لربط الاقتصاد الحر بتأسيس الدولة وتوسيعها.
بدأ تآكل الليبرالية الكلاسيكية في السبعين سنة الممتدة من 1875 الى 1945 او 1947. الظاهرة الجديدة للتصنيع تطلبت جهدا نظريا لم يقم به الاقتصاديون الكلاسيك بالكامل. كان يُنظر للفلسفة الوضعية التي نالت الدعم من المعرض الكبير عام 1851 (اقيم في لندن) والمعارض اللاحقة في فرنسا والمانيا وامريكا كشيء سطحي وغير تام. ان سوء عرض وتطبيق المنهجية العلمية من جانب الدارونيين الجدد الذين فسروا المنافسة على مستوى الفرد والعرق كسيادة للقوي على الضعيف، بدلا من ان يكون شكلا من التعاون الاجتماعي، شكّل هزيمة لأصدقاء الانسانية. وفي نهاية القرن أصبح التباين واضحا بين منافسة السوق وتعاون المجتمع المنسجم اجتماعيا. ان الرأي السياسي والفكري أصبح باستمرار يميل نحو الجماعية في ذلك القرن. وكما اشار القاضي والمنظّر البريطاني A.V. Dicey عام 1905 بان النمو المتزايد في ادارة وتدخل الدولة في انجلترا انما تطور من الفلسفة النفعية. ومهما كانت الاسباب، فان الليبرالية في نهاية القرن غيرت ثوبها واصبحت "ليبرالية اشتراكية".
وعلى مستوى القارة وُضعت القدرات الانتاجية للرأسمالية في خدمة الدول القومية، الجديدة منها والقديمة. افريقيا وجنوب شرق اسيا تمزقت بين القوى الكولنيالية. اعادة التسليح تسارعت. نظام التأمين الاجتماعي البسماركي لعام 1880 وجد له مقلدين في جميع انحاء العالم. نيوزيلاند صاغت قانونها التقاعدي عام 1898، استراليا شرعت في عام 1908 نظاما تقاعديا قديما. في نفس العام من 1908 قام لويد جورج بزيارة شهيرة لالمانيا، حيث نال الدعم من جانب اصلاحات بسمارك الاجتماعية وعند عودته الى انجلترا دشن ميزانية الشعب عام 1909. اما اسبانيا فقامت بإصلاحات اجتماعية عام 1910(4). الولايات المتحدة لم تكن متحررة كليا من هذه الانماط من الرفاهية والقومية. كانت امريكا ضمت جزءا كبيرا من مكسيكو وجميع كوبا وبورتوريكو والفليبين. ثيودور روزفلت كان صائبا عندما ادخل فكرة الدولة الراعية عام 1912 في ميثاق حزبه التقدمي الجديد(5).
كانت اهوال الحرب العالمية الاولى عمقت ردود الفعل ضد الليبرالية الكلاسيكية. الشيوعية السوفيتية والفاشية الايطالية اصبحتا محترمتين في عدة اصقاع من اوربا. في امريكا، اختير فراكلن روزفلت رئيسا عام 1932، فقام مرة اخرى بإعادة التقدمية واطلق علنا على برنامجه بـالبرنامج "الليبرالي"، وهو ما كان مناقضا من حيث الجوهر لما كان يدرّسهُ الليبراليون الكلاسيك من آدم سمث حتى فردريك باستيت.
وبعد الحرب العالمية الثانية والانتعاش السريع لالمانيا الغربية وايطاليا ذلك اعطى الاقتصاد الرأسمالي فترة من الراحة، مقابل النتائج الخطيرة للاقتصاد شبه المخطط في بريطانيا وفرنسا. الانعكاسات الناجمة عن سقوط جدار برلين منحت الاقتصاد الحر فترة اخرى من الحياة. ولكن في القرن 21 عاد التيار مرة اخرى ضد الحرية الاقتصادية. حاليا، تتحمل الملكية الخاصة وحرية السوق مسؤولية اثبات الادّعاء، الاسواق والشركات هي تحت تمحيص مستمر، الوسائل القانونية لتجنب الضرائب اصبحت أقل احتراما، حجم الحكومة توسع الى النقطة التي لم يعد معها وجود فائض يمكن استخلاصه من دافعي الضرائب في الحاضر او المستقبل، الفعل الجماهيري اصبح اختياريا بدلا من ان يكون على اساس القاعدة، وبشكل عام، ساد الايمان بان الفرد لا يمكن الوثوق به في حياته الخاصة او في قراراته.
ليس مصادفة ان الانسحاب من الحرية المتلازم مع العلم الكئيب (الاقتصاد) اصبحا اكثر عرضة للشك(6). قرن من التغيير الاجتماعي والنقد النظري وضع الليبرالية الاقتصادية في موقف الدفاع وقاد الى رفض ايديولوجي للرؤية الاقتصادية السائدة لدى تلك القطاعات من الناس ذوي النوايا الحسنة. جزء من المسؤولية لهذا التراجع يجب ان يوضع على الاقتصاديين انفسهم، الذين اظهروا لاادرية اجتماعية وسياسية متزايدة واليوم يرون الاقتصاد كمجموعة من الوسائل التقنية وليس كجزء اساسي من الرؤية الليبرالية العالمية(7).
التصور الاقتصادي للطبيعة الانسانية لم يكن واقعيا، النمو الاقتصادي يُرى كاسراف، جميع اشكال اللامساواة أدينت كلاعدالة. وبوضوح، هناك حاجة ملحة لإعادة صياغة نظام للحرية الاقتصادية خال من التنازلات لأعداء السوق. جوهر هذا المقال هو ان العودة الى خيمة الاقتصاديين الكلاسيك الكبار هي فقط منْ يساعد في وقف الضرر لليبرالية الناتج عن قرن كامل من التردد.