مساعي ترمب لإبرام اتفاق سلام روسي–أوكراني
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2025-08-25 05:25
عقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، أوّل لقاء قمّة أميركي–روسي، منذ بدء روسيا حربها على أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022. وجرى اللقاء في القاعدة العسكرية "إلمندورف-ريتشاردسون المشتركة" في ولاية ألاسكا، في 15 آب/ أغسطس 2025. وتناول إمكانية التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وفي 18 آب/ أغسطس، اجتمع الرئيس ترمب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وستة من القادة الأوروبيين، وهم: المستشار الألماني فريدريش ميرتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس فنلندا ألكسندر ستوب، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إضافةً إلى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" مارك روته. وقد خُصص الاجتماع لمناقشة شروط التوصل إلى اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا، وسُبل تثبيت وقف إطلاق النار، إلى جانب الضمانات الأمنيّة الأميركية - الأوروبية الطويلة الأمد بالنسبة إلى أوكرانيا.
وجاء اللقاء مع استمرار الخلاف بين الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، سواء بشأن صيغة اتفاق السلام المحتمل، أو طبيعة الضمانات الأمنيّة وحدودها؛ ما يعكس تباينًا في الرؤى حول مستقبل الصراع ومآلاته. وعلى الرغم من غموض التصريحات خلال المؤتمر الصحفي المقتضب الذي أعقب القمة بين ترمب وبوتين، فإنّ تصريحات لاحقة أدلى بها ترمب تشير إلى أن روسيا لم توافق على وقف إطلاق النار قبل التفاوض على اتفاق، وأنها لم تتراجع عن إصرارها على ضمّ مناطق من أوكرانيا، مع ميل ترمب إلى القبول بسياسات القوة والاستخفاف بسيادة الدول.
ترجيح اتفاق السلام على وقف إطلاق النار
في اليوم التالي الذي أعقب القمة، كتب ترمب على منصته، "تروث سوشيال"، أنه صار يرى أن اتفاق السلام يجب أن يتقدّم على وقف إطلاق النار، مشيرًا إلى أنه ناقش هذا الرأي مع عدد من القادة الأوروبيين الذين "يشاركونه القناعة نفسها"[1]. وقد جاء هذا التصريح بعد أيام قليلة فقط من طمأناتٍ وجّهها ترمب إلى أوكرانيا والدول الأوروبية، أكد فيها أنه سيصرُّ على وقفِ إطلاقِ نارٍ فوريٍّ قبل الدخول في أيّ مفاوضات جدّية بشأن اتفاق سلام دائم[2]، بل إنه هدّد علنًا بأنّ رفض بوتين لهذا الشرط سيُقابَل بعواقب "شديدة جدًّا"؛ تشمل عقوبات اقتصادية إضافية على روسيا، وربما الدول التي تشتري منها الغاز والنفط أيضًا[3]. لكنه لم ينفّذ أيًّا من تلك التهديدات[4].
وتتماهى تصريحاته الجديدة مع الموقف الروسي المعلن، الذي يرفض وقف إطلاق النار بمعزل عن تسوية شاملة، ويعتبر أنّ التوصل إلى اتفاق سلام سيكون "معقدًا جدًّا" بسبب "تعارض المواقف على نحو جذري"[5]. ويخشى الأوكرانيون والأوروبيون من أنّ هذا المسار ربما يطيل أمد الحرب، وقد يمنح روسيا مزيدًا من الوقت لاستنزاف أوكرانيا و"قَضْم" أراضٍ إضافية[6]. وفنّد بعض القادة الأوروبيين تصريحات ترمب، بحذر، لتجنُّب الدخول في صدام مباشر معه. ففي بيان مشترك صدر بعد لقاء ترمب - بوتين، ووقّعه قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وفنلندا وإيطاليا وبولندا والاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي، رحّب الموقِّعون بجهود ترمب المتعلقة بوقف الحرب، وبإعلانه أنّ الولايات المتحدة مستعدّة لتقديم ضمانات أمنيّة مستقبلية بعد التوصل إلى اتفاق سلام. لكنهم لم يتبنَّوا موقفه القائل إنّ محادثات السلام يجب أن تسبق وقف إطلاق النار، مؤكدين أنهم مستعدون لمواصلة الضغط على روسيا، وتعزيز العقوبات والتدابير الاقتصادية الأوسع ضد اقتصادها الحربي، حتى يتحقق سلام عادل ودائم[7].
القبول بمبدأ التنازل الإقليمي
يُبدي ترمب استعدادًا للقبول بمبدأ تنازل أوكرانيا عن أجزاءٍ من أراضيها مقابل وقف إطلاق النار والتوجه إلى اتفاق سلام. وهو يحث زيلينسكي على القبول بهذا المبدأ، ويتهمه بعرقلة التوصل إلى اتفاق سلام في حال عدم قبوله به؛ أي إنه يبدي تفهمًا للطرف الذي بدأ الحرب، ويضغط على الطرف الذي احتُلت أراضيه. وتسعى روسيا للسيطرة الكاملة على منطقة دونباس، تحديدًا، على نحو يشمل مقاطعتَي دونيتسك ولوغانسك، مقابل تجميد خطوط الجبهة في خيرسون وزابوريجيا[8]. ويتعارض هذا الطرح مع الموقف الأوكراني-الأوروبي الرافض لأيّ تنازل إقليمي؛ إذ أفاد مسؤولون أوروبيون أنّ ترمب أخبرهم، بعد يوم واحد من القمة التي جمعته ببوتين، أنه يعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق سريع في حال موافقة زيلينسكي على التنازل عن بقية منطقة دونباس، بما في ذلك المناطق غير الخاضعة حاليًّا للسيطرة الروسية[9].
وفي الحصيلة، بدا أنّ بوتين حقَّق مكاسب ملموسة من دون تقديم تنازلات، محافظًا في الوقت ذاته على علاقة ودّية مع ترمب[10]، ونجح في نقل الضغط الأميركي إلى الأوكرانيين والأوروبيين، محذرًا من "إفساد التقدم المحرز"[11]. وقد اعتبر ترمب أنّ "إنجاز هذا الأمر متروك، الآن، للرئيس زيلينسكي، وربما يكون على الدول الأوروبية أن تنخرط في هذا الشأن قليلًا"[12]. ومع ذلك، تجنّبت أوكرانيا -على الرغم من الضغوط التي واجهتها- السيناريو الأسوأ الذي كانت تخشاه؛ وهو إعلان ترمب وبوتين عن اتفاق ثنائي مفاده "إنهاء الصراع"، ثم ممارسة ضغوط على زيلينسكي للقبول به[13].
القمة الأميركية-الأوروبية
بعد أيام على اللقاء بين ترمب وبوتين، عقد ترمب اجتماعًا مع زيلينسكي وعدد من الزعماء الأوروبيين، وقد اتسم هذا الاجتماع بنبرة أكثر دفئًا مقارنةً بالزيارة السابقة لزيلينسكي في شباط/ فبراير 2025؛ وذلك حين تعرّض لتوبيخ علني من ترمب ونائبه جيه دي فانس، بدعوى عدم إظهاره امتنانًا كافيًا للولايات المتحدة، واتهامه بالسعي لدفع العالم إلى حرب عالمية ثالثة. وفي هذه المرة، حرص زيلينسكي على المبالغة في إظهار الامتنان، وقد رافقه إلى الولايات المتحدة ستة من القادة الأوروبيين، إلى جانب الأمين العام لحلف الناتو، في خطوة قُرئت على أنها محاولة لدعم موقفه أمام الضغط الذي قد يمارسه ترمب؛ بالنظر إلى أنه بدا عازمًا على إبرام اتفاق نهائي لإنهاء الحرب، حتى لو تطلّب الأمر فَرْض تنازلات قسرية على أوكرانيا[14].
سعى زيلينسكي، بدعمٍ أوروبي، لانتزاع ضمانات أمنيّة من الولايات المتحدة في حال التوصل إلى اتفاق، في حين عمل القادة الأوروبيون على ترسيخ صورة "تحالف الراغبين" في مواجهة الضغوط الروسية[15]. ومن أبرز نتائج هذا الاجتماع إعلانُ ترمب استعداده لتقديم ضمانات أمنيّة أميركية لأوكرانيا بوصفها ضماناتٍ بديلةً من طلبها العضوية في الناتو، على الرغم من أنه لم يوضح طبيعة هذه الضمانات. وفي اليوم التالي، هيمنت هذه المسألة على مناقشات القادة الأوروبيين؛ إذ اقترح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن تُنشر قوة دولية في أوكرانيا بعد التوصل إلى هدنة أو اتفاق سلام، يراوح عددها بين بضع مئات من الجنود المراقبين وقوة دفاعية قوامها عشرات الآلاف. وبينما أشار ترمب إلى أن بوتين قد لا يعارض نشر قوات أوروبية، سارعت روسيا إلى إبداء رفضها لهذه الفكرة رفضًا قاطعًا. ومع ذلك، استمر ترمب في إجراء ترتيبات لعَقد لقاء مباشر بين زيلينسكي وبوتين، قد يضمّه هو أيضًا.
عقدة الضمانات الأمنيّة لأوكرانيا
إضافةً إلى مسألة ضمِّ روسيا أراضي بالقوة، تُمثّل طبيعة الضمانات الأمنيّة الأميركية المحتملة بالنسبة إلى أوكرانيا، في حال توقيع اتفاق سلام مع روسيا، المسألةَ الأكثر حساسيةً، بالنسبة إلى حلفائها الأوروبيين، وبالنسبة إلى روسيا أيضًا؛ إذ ترى أنّ هذه الضمانات تمثّل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وحتى الولايات المتحدة تتعامل مع هذه المسألة بحذرٍ شديد، خشية أن تجد نفسها منخرطة في مواجهة محتملة مع روسيا، وهو ما يفسّر الغموض الأميركي المستمر بشأن هذه المسألة حتى الآن. وكان ترمب قد أبلغ قادة أوروبا، بعد يوم واحد من القمة التي جمعته ببوتين، بانفتاحه على تقديم ضمانات أمنيّة لأوكرانيا؛ بما في ذلك إمكانية تقديم دعمٍ أميركي لقوة أمنيّة يقودها الأوروبيون داخل أوكرانيا[16]، على ألّا تشمل هذه الضمانات نَشْر قوات أميركية على الأرض، فهذا الأمر يُعدّ "خطًّا أحمر" بالنسبة إليه.
وخلال اجتماع البيت الأبيض، وتحت ضغط أوروبي، أكد ترمب أن الولايات المتحدة "ستشارك" في حفظ السلام بعد أيّ اتفاق، لكنه لم يحدّد طبيعة الدور الأميركي، مكتفيًا بالقول: "الدول الأوروبية ستتحمل العبء الأكبر ونحن سنساعدها، وسنجعل الأمور آمنة جدًّا"[17]. ويوحي هذا التصريح بأن الولايات المتحدة ستواصل ما تفعله حاليًّا: بيع الأسلحة، وتقديم الدعم الاستخباراتي، وربما توفير غطاء جوّي محدود. وعلى الرغم من ترحيب الأوروبيين بهذا المقترح، فإنهم أعربوا عن امتعاضهم من غموضه.
وطرحوا هم والأمين العام للناتو فكرة ضمانات أمنيّة شبيهة بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، من دون ضمِّ أوكرانيا رسميًّا إلى هذا الحلف؛ بحيث يُعتبر أيّ اعتداء على أوكرانيا بمنزلة اعتداء على الدول الضامنة[18]. غير أن هذه الصيغة تمثّل "خطًّا أحمر" بالنسبة إلى روسيا؛ فهي ترفض وجود أيّ قوات أطلسية أو أوروبية قرب حدودها. ثمّ إنّ الحلف نفسه يتحفظ عن هذه المقاربة؛ إذ إنّ أيّ هجوم مستقبلي على أوكرانيا قد يستدعي تفعيل المادة الخامسة تلقائيًّا، وهذا قد يؤدّي إلى اندلاع حرب شاملة. وفي مقابل ذلك، تميل روسيا إلى نموذج مشابه لاتفاق مينسك (2014)، أو مذكرة بودابست (1994) التي اشتملت على ضمانات أمنيّة مكتوبة، على أن تظلَّ القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية بعيدة عن الحدود الروسية. أمّا بريطانيا وفرنسا، فإنهما تقودان جهودًا لدعم أوكرانيا؛ من خلال نشر قوات أوروبية بعيدة عن خطوط القتال، وتأمين الأجواء والممرات البحرية، وحماية المنشآت النووية، وتعزيز الجيش الأوكراني من ناحيتَي التدريب والتسليح.
خاتمة
ما إن انتقلت الولايات المتحدة من دور الداعم لأوكرانيا إلى دور الوسيط حتى تغيرت موازين القوى لمصلحة روسيا. ولم يكتفِ ترمب بذلك؛ لأنه يميل إلى تفهّم سياسات القوة، وهو أمرٌ يشجع الدول الإقليمية القوية على اتباع هذه السياسة في كل مكان؛ بما فيها ضمّ أراضي دول أخرى بالقوة. وقد ظهر الفرق الكبير بين طريقة ترمب المتمثلة في استقباله زيلينسكي على نحو مهين، في البيت الأبيض، خلال زيارته السابقة من جهة، والحفاوة التي قابل بها بوتين في ألاسكا من جهة أخرى.
ومن خلال هذه القمة، حقق بوتين معظم ما كان يأمل من أهدافه؛ فقد ساهمت في كسر عزلته الدبلوماسية، وإبعاد احتمال فَرْض عقوبات أميركية إضافية، ولو مؤقتًا، فضلًا عن نجاحه في إقناع ترمب بمبدأ التنازل الإقليمي عن منطقة دونباس، بوصف ذلك شرطًا مسبقًا لأيّ اتفاق سلام، وقد رهن وقف إطلاق النار بهذا الشرط. وهكذا؛ إذا قبلت أوكرانيا بهذه التنازلات، فإنه يمكن –في هذه الحالة فحسب- الحديث عن ضمانات أمنيّة أميركية، أو تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، علمًا أنّ ترمب عندما سُئل خلال عن المساعدات العسكرية، أجاب بوضوح: "نحن لا نعطي شيئًا. نحن نبيع أسلحة". ومع ذلك، فإن إظهار القادة الأوروبيين بوصفهم جبهةً موحدة في دعم زيلينسكي ساهم في "تعديل كفة الميزان" داخل الولايات المتحدة، وقلّل من احتمالات انحياز ترمب، على نحو كامل، لشروط بوتين. ولكن أوروبا ما زالت عاجزة عن فعل ما يلزم بشأن الاستفادة من إمكاناتها وقدراتها الحالية مقارنةً بقوة عالمية، بحسب المفاهيم الاستراتيجية؛ بحيث تصبح تستطيع الاعتماد على نفسها دون الحاجة إلى حماية الولايات المتحدة، أو ملزمة بالخضوع لشروطها.
يصعب الجزم بنجاح ترمب، في المستقبل، بشأن إبرام اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا؛ نظرًا إلى تشابك جذور الصراع وتعقيداته التاريخية والجيوسياسية. ومع ذلك، فإنه يبقى معنِيًّا، إلى حدّ بعيد، بالتوصل إلى تسوية سلمية لهذا الصراع تحديدًا؛ لأنّ هذا الأمر يرتبط بطموحه المتعلق بنيل جائزة نوبل للسلام، وهو طموح غير مبرّر، وغير مفهوم، إلا من خلال تحليل شخصيته. وقد بدا لافتًا للانتباه خلال قمّتَي ألاسكا وواشنطن أنّ البيت الأبيض روّج لترشيحات دولٍ (مثل إسرائيل، وباكستان، وأرمينيا، وأذربيجان) مفادها أنها ترشحه لنيل هذه الجائزة.