إيران بعد المعركة
مركز كارنيغي
2025-07-15 05:08
بقلم: نيكول غرايفسكي
لا تزال المؤسستان السياسية والعسكرية في الجمهورية الإسلامية تبحثان في كيفية تفسير نتائج الحرب.
تجد إيران نفسها، في أعقاب ثلاثة عشر يومًا من الحرب مع إسرائيل، والتي تفاقمت بفعل الغارات الجوية الأميركية على منشآتها النووية، على شفا مشهدٍ استراتيجي آخذ في التغيّر بصورة جذرية. فترسانتها الصاروخية، التي كانت يومًا مصدر اعتزاز قوتها الرادعة العسكرية، تدهورت، في حين أن برنامجها النووي، الذي كان لفترة طويلة الركيزة الخفيّة لاستراتيجية الردع الإيرانية، تعرّض لأضرار جسيمة، وإن لم يُحدَّد حجمها علنًا بعد.
هذا وأصبحت أجهزتها الأمنية مكشوفةً بعد أن اخترقتها المخابرات الإسرائيلية بعمق. أما قيادتها، التي تزعزعت بوضوح إثر الضربات الدقيقة ضدّ كبار الشخصيات والمواقع الاستراتيجية، فباتت أكثر عزلةً من أيّ وقت مضى في الذاكرة الحديثة. ويواجه شعبها، الذي تحمّل سنواتٍ من القمع والحرمان، شبح تشديد الضوابط الداخلية تحت ذريعة حالة الطوارئ الوطنية. والسؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت القيادة الإيرانية تستطيع التكيّف مع بيئةٍ استراتيجيةٍ متغيّرة، أم ستواصل السير في مسارٍ أثبت حدودَه.
لقد سلّطت الحرب الضوء على التناقضات في قلب الجمهورية الإسلامية. فهي قوّضت الأُسُس التي وجّهت السياسة الأمنية الإيرانية على مدى عقود، وتحديدًا أن مزيجًا من الحرب غير المتكافئة والردّ الصاروخي يمكن أن يحمي النظام من هجوم واسع النطاق. لكن الضربات كشفت بدلًا من ذلك عن مكامن ضعف النظام، الخارجية والداخلية. واليوم تقف طهران أمام خيار مصيريّ: إما مواصلة انتهاج سياسات المواجهة نفسها التي فاقمت عزلتها وكشفت نقاط ضعفها، أو التكيّف مع واقع جديد تعرّضت فيه قوتها الرادعة للاختراق، وتقوّض عمقُها الاستراتيجي، ولم يَعُد بقاؤها مضمونًا بالمعادلات القديمة.
والواقع أن النقاشات بدأت بالفعل داخل النظام، حيث تدرس القيادة، التي أصبحت أكثر هشاشةً من أيّ وقت مضى منذ ثمانينيات القرن الماضي، خيارات التعافي. فإعادة بناء البنية التحتية العسكرية يجب أن تحصل الآن في ظلّ رقابة دولية مشدّدة وقيود اقتصادية متزايدة. أما البرنامج النووي، الذي كان يُنظَر إليه سابقًا على أنه رمزٌ للتحدّي السيادي والإنجاز التكنولوجي، فيجب إعادة تقييمه، سواء للحفاظ على ما تبقّى من غموضه، أم للشروع في مسارٍ جديدٍ من القدرة النووية المُعلَنة. وصحيحٌ أن محور المقاومة كان يُنظَر إليه تاريخيًا على أنه عاملٌ مُضاعِفٌ للقوة، إلا أنه تدهور إلى حدٍّ كبير قبل الحرب، على وقع تصاعد الشكوك الداخلية حول جدوى إعادة تفعليه المُكلِفة. لا يزال الكثير من الأمور غير واضح، ومع ذلك، يشير النقاش الداخلي الناشئ في أعقاب الضربات إلى أن القيادة تدرس بالفعل إجراء تغييرات مُحتملة في السياسات، في ظلّ غياب للمرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 86 عامًا، عن الأنظار على نحو مُلفت.
كان الردّ الفوري من المؤسسة المتشدّدة في طهران تصوير الانتكاسات العسكرية على أنها انتصارات استراتيجية. هذه السردية خدمت أغراضًا عدّة: صون شرعية النظام، والمحافظة على الروح المعنوية العسكرية، وتوجيه رسالة إلى الأعداء الخارجيين بأن قوة الردع لا تزال قائمة. فقد ذكرت وكالة تسنيم للأنباء، المرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي، أن "أهداف الأعداء، من تفكيك برنامج إيران النووي إلى التسبّب بانهيارٍ داخلي، فشلت فشلًا ذريعًا"، مُسلّطةً الضوء على قدرة الحرس الثوري على ضرب أهداف أميركية في قطر، و"اختراق أسطورة القبّة الحديدية". وأفادت وسائل الإعلام المتشدّدة حتى أن الحرب وجّهت ضربات ذات أثرٍ طويل الأمد على أمن إسرائيل، مثل تفكيك "حوالى 90 في المئة" من شبكات التجسّس التابعة للموساد داخل إيران أثناء الصراع.
سردية الانتصار هذه جسّدها خطاب خامنئي بعد وقف إطلاق النار، حيث أعلن أن "النظام الصهيوني، مع كل هذه الادّعاءات، كاد يُسحَق تحت ضربات الجمهورية الإسلامية"، مُتباهيًا بأن الصواريخ الإيرانية اخترقت دفاعات إسرائيل الجوية، و"سوَّت الكثير من مناطقهم الحضرية والعسكرية بالأرض". ويمتدّ هذا التفسير المتشّدد إلى ما هو أبعد من النتائج العسكرية المباشرة، ليشمل التحضير والاستعداد لخوض حرب مستقبلية مع إسرائيل. فقد أوضح اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري الكبير للمرشد الأعلى، أن وقف إطلاق النار يمثّل فاصلًا استراتيجيًا وليس نهايةً للأعمال العدائية، مُحذّرًا بالقول: "إذا ارتكب الأعداء خطأً آخر... فإن جميع مصالحهم وقواعدهم ستواجه عواقب أشدّ وأقوى تحت قيادة المرشد الأعلى".
في نظر المؤسسة المتشدّدة في إيران، لا تُفسح فترة ما بعد الحرب مجالًا لضبط النفس، بل تشكّل فرصةً لتسريع وتيرة الاستثمار في القطاع الدفاعي في البلاد. ولذا، تُصوَّر الحرب، على الرغم من تكاليفها، بأنها تبريرٌ استراتيجي لنموذج الردع الإيراني، ومسوّغ لزيادة العسكرة. فقد عبّر عن هذا الرأي مثلًا إسماعيل كوثري، العضو البارز في لجنة الأمن القومي في البرلمان، والعميد السابق في الحرس الثوري، حينما أعلن أن "العدو أُرغِم على التراجع"، وحثّ قائلًا: "علينا الآن زيادة مدى الصواريخ ودقّتها، لأن الردع لا يُجدي نفعًا إلا عندما يكون ردّنا سريعًا ودقيقًا". فالدرس المُستفاد ليس إعادة النظر في الاستراتيجية بل توطيدها: أي توسيع القدرات الصاروخية، وتعزيز مرونة القيادة والسيطرة، وتشديد الأمن الداخلي استعدادًا للمواجهة القادمة.
ولكن وراء سرديات الانتصار والتهديدات بمواصلة الأعمال العدائية، برز تقييمٌ أكثر واقعيةً، إذ أصدرت أصواتٌ وسطية وإصلاحية، بعضها متحالف مع التكنوقراط من عهد الرئيس السابق حسن روحاني، بياناتٍ متحفّظةً تحذّر من الشعور بالرضا الذاتي. دعا هؤلاء المعلّقون، على الرغم من دعمهم المستمرّ للنظام الإسلامي، إلى ضبط النفس، والتأمّل الذاتي، وإجراء تقييم صادق لنقاط ضعف إيران التي انكشفت خلال الصراع. فقد نبّهت صحيفة "اعتماد" إلى أن إيران يجب أن تجري تقييمًا ذاتيًا "دقيقًا وشجاعًا" لمعالجة أيّ مكامن ضعفٍ كشفتها الحرب، لئلّا "تعمي عظمة هذا النصر أعيننا عن الواقع". وحذّر المقال أيضًا من أن "مندسّين" مُعادين حاولوا تنفيذ عمليات تخريب داخلي خلال الحرب، وحثّت السلطات على "تحديد واقتلاع" الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه الخيانة.
فضلًا عن ذلك، أصدر روحاني بيانًا حازمًا هنّأ فيه القوات المسلحة، لكنه حذّر من أن "وقف إطلاق النار ليس نهاية التهديد". وشدّد على أن إعادة بناء ثقة الشعب وإصلاح الاستراتيجية الوطنية لا يقلّان أهميةً عن الجهوزية العسكرية، مؤكّدًا على أن "وحدة الشعب والحكومة والقيادة هي السبيل الوحيد للمضيّ قدمًا". وقد طرح حسام الدين آشنا، المستشار السابق للرئيس روحاني، تقييمًا ربما يكون الأكثر صراحةً، إذ قال: "لم نُهزَم ولم ننتصر. والعدو أيضًا لم ينتصر ولم يفشل. إن وقف إطلاق النار مشروط، وهو يعتمد على مدى السرعة التي نعيد بها بناء قدراتنا الهجومية والدفاعية، وقوتنا الاقتصادية، وتماسكنا الاجتماعي".
إحدى أبرز نقاط الالتقاء الظاهرة في الخطاب الإيراني ما بعد الحرب التوافقُ بين مختلف الفئات حول التماسك الوطني بوصفه ركيزةً أساسيةً للأمن، وهو ما يمثّل تحوّلًا جذريًا عن تركيز إيران التقليدي على الردع العسكري كضامن أساسي لبقاء النظام. فثمّة أصواتٌ من مختلف الأطياف السياسية، من المحافظين المتشدّدين إلى البراغماتيين ذوي التوجّه الإصلاحي، تقرّ بأن بقاء النظام لا يعتمد فقط على قدرته على إلحاق الضرر بالخصوم، بل أيضًا على قدرته على صون شرعيته الداخلية، ووحدته الوطنية، واستقراره السياسي تحت الضغط.
على سبيل المثال، أشار الكاتب الصحافي مرتضى مكي إلى أن "العامل الأهمّ في انتصار إيران" كان "التماسك الوطني"، ونصح إيران بأن تستغلّ فترة وقف إطلاق النار "لإصلاح الأنظمة الدفاعية"، ولمواصلة إجراءات تخفيف التبعات الاقتصادية السلبية لرفع المعنويات العامة، وتعزيز "الأمل في الفضاء العام والثقة في الدولة". وقد بات المعلّقون المحافظون أنفسهم يقرّون الآن بأن القدرة على الصمود في المستقبل ستتطلّب إصلاحًا اقتصاديًا وشرعيةً شعبية. كذلك أشار أحد البرلمانيين البارزين إلى أن على طهران الآن بناء "اقتصاد قادر على الصمود" حتى "لا يتخيّل العدو إيران في حالة فوضى في الحرب القادمة".
صحيحٌ أن الردّ الإيراني كبّد إسرائيل تكاليف واضحة، أي 28 قتيلًا، ومئات الجرحى، وأضرار بمليارات الدولارات، إلا أن الحرب بدّدت الوهم القائل بأن القوة العسكرية وحدها كفيلةٌ بضمان استقرار النظام ودفاعه عن الأراضي. ولهذا السبب، ستُرغم الحرب على الأرجح إيران على إعادة النظر في أُسُس استراتيجيتها العسكرية.
يشير أحد المسارات إلى مواصلة النهج نفسه، من خلال تكثيف العمل على البرنامج الصاروخي، وحتى إعادة إحياء محور المقاومة. لكن الصراع أبرَزَ حدودَ هذا النهج التصادمي: فهو مُكلِف، وتصعيدي، وفشل في نهاية المطاف في منع الهجمات. في غضون ذلك، ما من عزمٍ كبير داخل إيران على إعادة الاستثمار في محور المقاومة، نظرًا إلى الأعباء المالية الهائلة، وقلّة الدعم الشعبي، وانخفاض العائدات الذي تكشّف على مدى العام ونصف العام الماضيَين.
وثمّة مسار ثانٍ يميل نحو التكيّف، بالانتقال إلى موقف دفاعي إقليمي أكثر انغلاقًا، يركّز على حماية القيادة والبنية التحتية والاستقرار الداخلي. وهذا بدوره يمكن أن يتطوّر إلى مسار ثالث، وهو تكثيف العسكرة الداخلية. لكن مع توسيع الحرس الثوري دورَه الداخلي، وتزايد الرقابة، وقمع المعارضة تحت شعار التيقّظ في زمن الحرب، يخاطر النظام بتنفير شعبٍ مُرهَقٍ أصلًا.
ويستند خيارٌ رابع، وإن كان الأبعد احتمالًا، إلى عملية إعادة تقييمٍ تربط الأمن القومي بالتعافي الاقتصادي والشرعية السياسية. لكن التحوّل الأكثر تأثيرًا قد يكون التوجّه نحو التسلّح: أي تطوير قدرة نووية سرّية تحت ستار التخصيب المدني، بعد التوصّل إلى استنتاجٍ مفاده أن الردع التقليدي وحده لا يضمن بقاء النظام. هذا السيناريو الأخير بدأ يلقى صداه بالفعل في الخطاب الإيراني بعد الحرب.
تجلّى هذا التحوّل أكثر ما تجلّى في الخطاب الإيراني المتغيّر حول البرنامج النووي. فما كان يُصوَّر لفترة طويلة بلغة التقدّم العلمي السلمي وحقوق السيادة، أصبح يُعبَّر عنه الآن أكثر فأكثر بلغة الردع والانتقام والعمق الاستراتيجي. لقد حفّزت الحرب وتداعياتها بوضوح تحوّلًا في الخطاب والسياسة في إيران بشأن الملف النووي، ما دفع الجمهورية الإسلامية نحو موقف نووي حازم وذي طابع أمني بشكل مُعلَن أكثر، حتى وإن كانت التحرّكات في هذا الاتجاه قد تتسبّب بالمزيد من الهجمات الإسرائيلية و/أو الأميركية. فالمسؤولون على اختلاف توجّهاتهم يصوّرون البرنامج النووي لا على أنه رمزٌ للسيادة فحسب، بل أيضًا ركيزة من ركائز الدفاع الوطني، أثبتت جدواها من خلال الصمود تحت النار.
شدّد المسؤولون الإيرانيون مرارًا على أن الهجمات العسكرية –مهما بلغت حدّتها– لن توقف التقدّم الذي تحرزه إيران في برنامجها النووي. وقد تعزّزت هذه السردية إثر صدور تقارير مفادها أن الهجمات الأميركية والإسرائيلية المتواصلة على مدى اثني عشر يومًا أعادت البرنامج النووي الإيراني بضعة أشهر إلى الوراء ليس إلّا، ما يُعتبر دليلًا على أن البنية التحتية النووية صمدت في وجه الضربات وأن إسرائيل "فشلت في تحقيق هدفها الأساسي".
وقد جسّد سفير إيران لدى الأمم المتحدة، سعيد إيرواني، هذا الموقف الحازم الجديد حين صرّح بأن طهران "لن تقبل بأي قيود تُفرض على قدراتها الصاروخية"، مشيرًا بشكل صريح إلى أن إيران ستواصل تخصيب اليورانيوم على أراضيها ولن تتخلّى عن قدراتها المحلية على تحقيق الدورة الكاملة لإنتاج الوقود النووي. وبالمثل، لفت الممثّل الدائم للجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف إلى أن "إيران أظهرت يقظتها وعزمها الراسخ وقوتها في الدفاع عن أراضيها وشعبها وحقوقها، وستدافع بحزم عن حقها الأصيل في الدفاع عن نفسها ضدّ أي عدوان، ولن تتخلّى أبدًا عن حقها غير القابل للتصرّف في الاستخدام السلمي للمعارف والطاقة النووية".
واللافت بشكل خاص التوافق الناشئ بين مختلف الأطراف حول السياسة النووية. فقد انتقدت مقالات عدّة في وسائل إعلام ذات توجّه إصلاحي تقارير "ملتبسة ومشبوهة" صادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية مدّعيةً أنها منحت إسرائيل ذريعةً لشنّ هجومها، بينما فشلت في الدفاع عن نزاهة نظام الضمانات الخاص بها. واستغلّ المتشدّدون هذا الوضع من أجل توسيع نطاق أهدافهم. فقد نشرت صحيفة "كيهان" المحسوبة على التيار الإيراني المحافظ، افتتاحيةً نارية طالبت فيها مجلس الشورى "بإنتاج صواريخ بالستية عابرة للقارات لشنّ هجمات انتقامية على الأراضي الأميركية"، داعيةً كذلك إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 في المئة، ما يشير إلى أن الضغوط العسكرية التي يمارسها الغرب لن تؤدّي إلا إلى "مفاقمة مخاوفه" بدلًا من عرقلة التقدّم الإيراني.
لكن حتى في ظل هذا المنحى المتشدّد، ثمّة مؤشرات على بروز مسارٍ موازٍ يسعى إلى الجمع بين الردع والدبلوماسية. فقد دعا البعض إيران إلى تبنّي استراتيجية مزدوجة تتمثّل في تطبيق خطة دفاعية متينة وفي الوقت نفسه إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة. في هذا الإطار، أشار محلل السياسة الخارجية رحمن قهرمانبور إلى أن "المسار الدبلوماسي يجب أن يبقى مفتوحًا، حتى وإن كانت ساحة المعركة تتطلّب القوة والحذر". وأَقرّ بأن التفاوض في زمن الحرب أصعب بكثير، لكن المفارقة هي أن التحلّي بقوة عسكرية يُعتدّ بها من شأنه تعزيز النفوذ الدبلوماسي من خلال ردع المزيد من الضغوط. وأوضح قائلًا إن "على الجيش إظهار قدراته كي يتمّ التخفيف من حدة الضغوط الخارجية وتعزيز ثقل المسار الدبلوماسي".
اقترن التصعيد الخطابي بخطوات سياسية محدّدة. ففي أعقاب وقف إطلاق النار، أقرّ مجلس الشورى الإيراني قانون تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما لم يتم تقديم ضمانات أمنية للمنشآت النووية، في خطوة تربط بشكلٍ مباشر الشفافية بشأن البرنامج النووي بالأمن القومي. ووصف المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي هذه الخطوة بأنها ردّ على الخيانة في زمن الحرب، قائلًا إن "تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية هو ردٌّ على الهجمات غير القانونية التي استهدفت إيران"، مضيفًا أننا "كنا نتوقّع من الوكالة أن تُدين بشكل صريح وحاسم الهجوم الإسرائيلي والأميركي، لكن هذا للأسف لم يحدث".
وقد ذهب النائب سيد محمود نبويان أبعد من ذلك، معتبرًا أن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية مكّنت إسرائيل من استهداف المنشآت، قائلًا: "لغاية الآن، قدّمنا للوكالة تقارير عن أنشطتنا النووية، لكن المؤسف أنها كانت تسلّمها مباشرةً إلى النظام الصهيوني. لذا يحظّر هذا القانون تزويد الوكالة بأي معلومات". ويعبّر القانون عن موقف أكثر عدائيةً تجاه الرقابة الدولية، ويبرّر فرض قيود جديدة على الشفافية بذريعة حماية الأمن القومي.
هذه التطورات مجتمعةً لا تعكس انقطاعًا تامًا عن الدبلوماسية، بل تمثّل تحوّلًا في رؤية إيران لها. فلم يعد يجري التعامل مع البرنامج النووي كورقة مساومة تُستخدَم من أجل تخفيف العقوبات، بل بات يُصوَّر كجزءٍ لا يتجزأ من منظومة الدفاع الوطني، باعتباره برنامجًا صمد خلال الحرب ويجب تحصينه الآن ضدّ المخاطر المستقبلية. من غير الواضح ما إذا كانت إيران ستعمَد إلى تصنيع أسلحة نووية، لكن يبدو جليًا على نحو متزايد أن الملف النووي بات يحتلّ حيزًا أكبر في النقاشات المتعلقة بالأمن القومي.
تظهر إعادة ضبط الاستراتيجية الإيرانية بعد الحرب دولةً تحاول التعامل مع تأثيرات يعتبرها جميع الأطراف اختبارًا مهمًّا لأمنها القومي. اليوم، لم يعد النقاش يتمحور ببساطة حول القدرات، بل بات يتعلّق بالبقاء والاستمرار. ولابدّ من الانتظار لرؤية ما إذا كان التقارب السياسي بين مختلف الأطراف سيفرز إصلاحات ملموسة أو سيؤدّي إلى التشدّد والانكفاء الدفاعي. مع ذلك، يبدو واضحًا أن الحرب حوّلت مفهوم الردع من كونه عقيدة ثابتة إلى مشروع سياسي بات موضع جدل في الداخل الإيراني.
لم يوضح وقف الأعمال العدائية المسارَ الاستراتيجي الذي ستسلكه إيران، بل كشف عن جهد متواصل داخل المؤسستَين السياسية والعسكرية لمعرفة كيفية تفسير نتائج الحرب، وشكل الموقف الدفاعي الذي يجب أن يوجّه البلاد في المرحلة المقبلة. يُضاف إلى ذلك أن قضايا راسخة مثل الاعتماد على الذات، والتطوير العسكري المحلي، والصمود الإيديولوجي، لا تزال قائمة، لكنها تترافق اليوم مع مخاوف أكثر جديّةً مثل الإنهاك الاقتصادي، والاضطرابات الاجتماعية، والاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي المُقلق، وانحسار عنصر المفاجأة الاستراتيجية. لم يعد السؤال يتمحور ببساطة حول ما إذا كان عامل الردع الإيراني قد صمد، بل حول ما إذا كان أساس هذا الردع بكامله قابلًا للاستمرار.