عودة إلى انحطاط الغرب
بروجيكت سنديكيت
2015-11-19 08:46
روبرت سكيدلسكي
لندن ــ أعادت المذبحة الإرهابية التي شهدتها باريس مؤخراً إبراز معالم الغيوم العاصفة التي تتجمع في سماء القرن الحادي والعشرين، والتي أعتمت الوعد المشرق الذي استمدته أوروبا والغرب من سقوط الشيوعية. ونظراً للمخاطر التي تتنامى يوماً تلو الآخر، فإن الأمر يستحق التأمل في ما قد يكون تجنبه غير وارد.
ورغم أن النبوءة ربما تكون مضللة وخادعة، فلابد أن تكون التوقعات المخفقة هي نقطة الانطلاق المتفق عليها. فوفقاً لتقرير صادر عن معهد البحوث الاجتماعية التابع لمنظمة إبسوس موري: "لم يعد للافتراض بأن المستقبل سيكون بشكل تلقائي أفضل للجيل التالي أثر في قسم كبير من الغرب".
في عام 1918، نشر أوزوالد شبنجلر كتابه "انحطاط الغرب". واليوم، أصبحت كلمة "انحطاط" من المحرمات. إذ يتجنب ساستنا ذِكرها لصالح كلمة "تحديات"، في حين يتحدث أهل الاقتصاد لدينا عن "الركود المزمن". وتتغير اللغة، ولكن يظل الاعتقاد بأن الحضارة الغربية تعيش على وقت مستعار (ومال مقترض) ثابتا.
ولكن لماذا ينبغي أن تكون هذه هي الحال؟ يتعامل الرأي الشائع مع الأمر باعتباره ببساطة رد فعل لمستويات المعيشة الراكدة. ولكن السبب الأكثر إقناعا، والذي تسرب تدريجياً إلى فهم عامة الناس، هو فشل الغرب في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي في تأسيس بيئة دولية آمنة صالحة لإدامة أسلوب حياته وما يمثله من قيم.
ويتلخص المثال الأشد وضوحاً لهذا الفشل في نشوء الإرهاب المتأسلم. لا يشكل الإرهاب في حد ذاته تهديداً وجوديا، بل تكمن الكارثة في انهيار هياكل الدولة في العديد من البلدان التي ينطلق منها الإرهابيون.
يضم العالم الإسلامي 1.6 مليار نسمة، أو نحو 23% من سكان العالم. وقبل مائة عام كانت المنطقة واحدة من أكثر مناطق العالم سلمية؛ واليوم أصبحت الأكثر عنفا. وهذه ليست المشكلة "السطحية" التي تصورها فرانسيس فوكوياما في بيانه عام 1989 بعنوان "نهاية التاريخ". فمن خلال التدفقات الهائلة من اللاجئين، يمتد تأثير الفوضى في الشرق الأوسط إلى قلب أوروبا.
وليس لحركة الشعوب على هذا النحو علاقة كبيرة بما يسمى "صدام الحضارات" الذي تنبأ به صامويل هنتجتون. فالحقيقة الأكثر دنيوية هي أن الإمبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية البائدة التي كانت تمارس وظيفة حفظ السلام في العالم الإسلامي لم يظهر لها قط أي ورثة مستقرون. ويتحمل المسؤولية عن هذا إلى حد كبير، وإن لم يكن بالكامل، المستعمرون الأوروبيون الذين خلقوا في سكرات موت إمبراطورياتهم دولاً مصطنعة لا تسير إلا إلى انحلال وموات.
ولم يكن أداء ورثتهم من الأميركيين أفضل بأي حال. شاهدت مؤخراً فيلم "حرب تشارلي ويلسون"، الذي يروي كيف انتهت الحال بالولايات المتحدة إلى تسليح المجاهدين الذين كانوا يقاتلون السوفييت في أفغانستان. وفي نهاية الفيلم، مع تحول عملاء أميركا السابقين إلى حركة طالبان، يقول ويلسون، السياسي الأميركي الذي جلب لهم المال، "لقد فزنا فوزاً عظيما، ولكننا أفسدنا النهاية".
ويشكل هذا "الإفساد" نسقاً مستمراً يجري عبر التدخلات العسكرية الأميركية منذ حرب فيتنام. ذلك أن الولايات المتحدة تعمل على نشر قوة نيران ساحقة، إما بشكل مباشر أو من خلال تسليح جماعات معارِضة، فتحطم الهياكل الحكومية المحلية، ثم تنسحب تاركة البلاد في حالة من الفوضى.
ومن غير المرجح أن تسعى عملية صنع السياسات الأميركية إلى إرخاء قبضة تلك النظرة المثالية للعالم، حيث لا يختلف التخلص من الطغاة عن إنشاء الديمقراطيات. بل إن الاعتقاد في نتائج مثالية يشكل أسطورة ضرورية للتغطية على عدم الرغبة في استخدام القوة بشكل مستمر وبالقدر الكافي من الذكاء لتحقيق النتيجة المرجوة.
أياً كان حجم العتاد العسكري الذي تمتلكه أي قوة عظمى، فإن اضمحلال الرغبة في استخدامه لا يختلف عن اضمحلال القوة الفاعلة. وبمرور الوقت تفقد القوة العسكرية قدرتها على الردع بالتخويف والترويع.
ولهذا السبب كان اقتراح المحافظين الجدد الذي طرحه روبرت كاجان عام 2003، حيث زعم أن "الأميركيين من أبناء مارس إله الحرب، والأوروبيين من أبناء فينوس إلهة الحب والجمال"، بمثابة دليل مضلل إلى حد كبير. صحيح أن الاتحاد الأوروبي قطع شوطاً أطول على الطريق السلمي مقارنة بالولايات المتحدة. ففي المركز العصبي الضعيف لشبه الدولة الرخوة، التي تكاد تكون حدودها بلا دفاعات، يحجب الخطاب الإنساني حالة من الخنوع والضعف. ولكن استخدام أميركا للقوة على نحو متفرق وضال وعقيم إلى حد كبير لا يمت إلى طبيعة إله الحرب مارس بصِلة.
يتزامن انحطاط الغرب مع صعود الشرق، وخاصة الصين. (من الصعب أن نجزم ما إذا كانت روسيا في صعود أو سقوط؛ ولكنها في الحالتين مزعجة ومقلقة). إن إدماج قوة صاعدة في نظام دولي مضمحل نادراً ما يحدث سلميا. ولعل حِنكة إدارة الدولة في الغرب والصين تتمكن من تفادي أي حرب كبرى؛ ولكن هذا لن يكون سوى استثناء من الناحية التاريخية.
الواقع أن هشاشة النظام السياسي الدولي المتزايدة تعمل على إضعاف آفاق الاقتصاد العالمي. فنحن نعيش اليوم أبطأ فترة تعافي من ركود كبير على الإطلاق. والأسباب وراء هذا معقدة، ولكن لابد أن يكون ضعف انتعاش التجارة الدولية جزءاً من التفسير المحتمل. ففي الماضي، كان التوسع التجاري المحرك الأساسي للنمو، ولكنه يتخلف الآن عن تعافي الناتج (وهو ذاته متواضع)، لأن ذلك النوع من النظام السياسي العالمي المضياف للعولمة بات الآن في طريقه إلى الزوال.
ومن أعراض هذا الضعف الفشل بعد أربعة عشر عاماً في إتمام جولة الدوحة من المفاوضات التجارية. صحيح أن بعض الاتفاقيات النقدية تم التوصل إليها، ولكنها تتخذ على نحو متزايد هيئة اتفاقات إقليمية وثنائية، وليس ترتيبات متعددة الأطراف، فتخدم بالتالي أهدافاً جيوسياسية أوسع. فاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ بقيادة الولايات المتحدة على سبيل المثال موجهة ضد الصين؛ وكانت مبادرة طريق الحرير الجديد الصينية رد فعل لاستبعادها من الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تضم 12 دولة.
ولعل هذه الاتفاقيات الإقليمية تثبت كونها خطوة نحو تجارة حرة أوسع نطاقا. ولكني أشك في هذا. ذلك أن العالم المقسم إلى تكتلات سياسية سوف يتحول إلى عالم من التكتلات التجارية، المدعومة بتدابير الحماية والتلاعب بالعملة.
ولكن حتى مع تسييس العلاقات التجارية على نحو متزايد، لا يدخر زعماؤنا جهداً في حثنا على الاستعداد لمواجهة "تحديات العولمة"، في حين لا يشكك في الفوائد المترتبة على خفض التكاليف عن طريق التشغيل الآلي سوى قِلة قليلة. وفي الحالتين، يحاول الساسة فرض التكيف على المواطنين الكارهين الذين يتوقون إلى الأمن. ولا تتسم هذه الاستراتيجية باليأس فحسب؛ بل إنها خادعة ومضللة أيضا، فمن الواضح أن المنافسة في مجال النمو الاقتصادي لابد أن تفسح المجال للمنافسة على نوعية الحياة إذا كان لهذا الكوكب أن يظل صالحاً للسكنى.
الأمر باختصار أننا بعيدون تماماً عن التوصل إلى مجموعة يمكن التعويل عليها من المبادئ والسياسات القادرة على توجيهنا نحو مستقبل أكثر أمناً وسلامة. وليس من المستغرب وهذه هي الحال أن تنظر شعوب الغرب إلى المستقبل بتشاؤم.