بعد مرور عام على الاضطرابات في الشرق الأوسط
فإن المنطقة بانتظار المزيد
مجموعة الازمات الدولية
2024-10-16 05:58
مع استمرار الحرب في غزة، وغزو إسرائيل للبنان، تلوح مواجهة مباشرة متصاعدة في الأفق بين إيران وإسرائيل. يقدم خبراء مجموعة الأزمات نظرة شاملة للكيفية التي أثَّرت فيها هذه الأحداث على البلدان في جميع أنحاء المنطقة وما الذي ما يزال من الممكن لصراع أوسع أن يحدثه.
بعد عام على بداية حرب غزة، يقف الشرق الأوسط على عتبة ما يمكن أن يتحول إلى أكبر حريق إقليمي منذ عقود. فإضافة إلى حملتها الساحقة في غزة، التي أطلقتها بعد أن هاجمت حماس بلدات في جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أطلقت إسرائيل غزواً برياً للبنان، سبقه هجوم هو الأول من نوعه على أجهزة اتصالات حزب الله وأيضاً ضربات جوية قضت على قيادة الميليشيا الشيعية التي أصبحت حزباً، فقتلت قائد الحزب حسن نصر الله وعدداً من كبار قادته. كما انتقلت إيران وإسرائيل إلى مواجهة مباشرة. في 1 تشرين الأول/أكتوبر، قالت إيران إنها تنتقم لحليفها نصر الله، وأيضاً لقائد حماس إسماعيل هنية، الذي كانت إسرائيل قد قتلته في طهران في تموز/يوليو، بإطلاق صلية من الصواريخ باتجاه إسرائيل (كما كانت قد فعلت في نيسان/أبريل). اعتُرِض عدد كبير من الصواريخ، لكن صور الأقمار الصناعية أظهرت أن قاعدتين جويتين على الأقل أصيبتا بأضرار.
يبدو من المؤكد أن إسرائيل ستردّ. لجزء كبير من العام الماضي، دأب حزب الله ولاعبون غير دولتيين آخرين في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران على ضرب أهداف إسرائيلية وأميركية دعماً لحماس والقضية الفلسطينية بشكل عام. في تشرين الأول/أكتوبر 2023، دخل الحوثيون في اليمن الصراع، فبدؤوا سلسلة من الهجمات على السفن الإسرائيلية والمرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر وخليج عدن، توسعت لتشمل سفناً يُعتقد أنها متوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. في هذه الأثناء، تخشى مصر والأردن طرد الفلسطينيين إلى أراضيهما والتداعيات التي يمكن أن يحدثها هذا التطور على أمنهما الوطني.
رغم تصاعد الضربات والضربات المضادة في جميع أنحاء المنطقة، فقد تم، حتى الآن، تجنب صراع أكبر يشمل إيران والولايات المتحدة، على الأقل لأن كلا الجانبين لا يريدان مثل تلك الحرب. لا ترغب طهران بأن تُجَر إلى حرب لا يمكن الانتصار فيها في الوقت الذي تواجه فيه استياءً محلياً متصاعداً وخلافة مرتقبة لآية الله علي خامنئي، القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية، بينما تسعى واشنطن إلى تقليص وجودها في الشرق الأوسط، لا زيادته. لكن فتح جبهات جديدة وتبادلات مباشرة لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل يجعل احتواء الصراع أكثر صعوبة، ولا سيما مع تلاشي آفاق التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة وتوسيع إسرائيل لهجومها في لبنان.
في هذه اللمحة العامة الشاملة، يجسُّ محللو مجموعة الأزمات نبض عدة بلدان في الشرق الأوسط بعد مضي عام على بداية حرب غزة ووسط التهديد بتصعيد كبير بين إيران وإسرائيل – ويقيّمون آثار الصراع على الحياة السياسية الداخلية والسياسات الخارجية، وردود فعل هذه البلدان على استمرار الحرب وهواجسها مع التهديد بتوسيعها.
لبنان
لقد كان لبنان ثاني مسارح الحرب منذ أيامها الأولى. ففي 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدأ حزب الله بإطلاق الصواريخ على القوات الإسرائيلية في منطقة مزارع شبعا المحتلة، وفتح، على حد تعبيره، ”جبهة إسناد" لحليفته حماس. تبع ذلك ضربات إسرائيلية انتقامية. وعلى مدى أحد عشر شهراً بعد ذلك، انخرط حزب الله وإسرائيل في حرب استنزاف تتصاعد حدتها، فرضت، رغم محدودية نطاقها، ثمناً مرتفعاً في لبنان، فقتلت نحو 600 شخص وهجَّرت نحو 110,000، معظمهم من الجنوب (كما هجَّرت 80,000 إسرائيلي من شمال إسرائيل).
بداية من منتصف أيلول/سبتمبر 2024، وسَّعت إسرائيل حملتها العسكرية على نحو هائل أولاً بموجتي هجمات على أجهزة النداء (البيجر) وأجهزة الاتصال الأخرى قتلت وجرحت أفراد حزب الله الذين يحملون هذه الأجهزة (إضافة إلى عدد من المدنيين الذين كانوا بقربهم)، ثم بغارات جوية على جميع المناطق ذات الأغلبية الشيعية في البلاد، وبهدف معلن هو القضاء على أصول حزب الله من الأسلحة وغيرها، التي تقول إسرائيل إنها مخبأة غالباً في مناطق سكنية. في 1 تشرين الأول/أكتوبر، غزت إسرائيل الأراضي اللبنانية بهدف معلن هو تفكيك البنى التحتية لحزب الله، مثل منصات إطلاق الصواريخ والأنفاق، في المنطقة الحدودية المباشرة. وقد تعرضت قواتها لسقوط عدد من القتلى، عند مواجهة كمائن لحزب الله فيما يبدو.
يبدو أن الهجوم الإسرائيلي منذ منتصف أيلول/سبتمبر قد أضعف حزب الله، لكن بكلفة مرتفعة على لبنان. فطبقاً لوزارة الصحة اللبنانية، فإن الضربات الإسرائيلية تسببت في مقتل 2,000 شخص من بينهم 127 طفلاً و261 امرأة، وأكثر من عشرة آلاف جريح. كثير من القتلى والجرحى مدنيون. في أعقاب الغزو البري الأولي، أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرات لسكان أجزاء من جنوب لبنان كي يبتعدوا إلى شمال نهر الأوّلي، الذي يبعد نحو 60 كم عن الحدود. وبدأت مجموعة جديدة من المهجَّرين بالخروج من الجنوب وأيضاً من ضواحي بيروت الجنوبية. طبقاً للسلطات اللبنانية، فإن أكثر من مليون شخص هُجِّروا من بيوتهم، بما في ذلك 110,000 آلاف أخرجوا من بيوتهم قبل الشهر الأخير. طبقاً لمجلس الجنوب اللبناني، وهي هيئة تنموية حكومية، فقد دمرت إسرائيل بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وأيلول/سبتمبر 2024 أكثر من 4,000 بناءً سكنياً قرب الحدود وألحقت الضرر بـ 20,000 منزل آخر، إضافة إلى مصالح وشركات، وأراضٍ زراعية وبنية تحتية عامة. ولا شك أن أحدث ضربات إسرائيل، التي كانت أكثر حدة، ووصلت إلى وسط بيروت، أضافت إلى هذه الحصيلة من القتلى والجرحى والدمار؛ كما سيتكشف الغزو البري عن مشكلاته أيضاً.
لقد أبرز الصراع مرة أخرى ضعف الحكومة اللبنانية، التي تعمل الآن بصفتها حكومة تصريف أعمال، وقوة حزب الله النسبية، رغم الضربات التي تلقاها. تجبر الإمكانات المالية الضئيلة للدولة، التي حطمتها الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ زمن بلا علاج، تجبر المهجَّرين على اللجوء إلى الشبكات غير الرسمية للحصول على الدعم. حتى التصعيد الأخير، كان حزب الله يقدم للمهجَّرين رواتب شهرية متواضعة، ومؤن عينية وخدمات طبية. في هذه الأثناء، لا تملك الحكومة أي نفوذ على قرارات وتكتيكات حزب الله. يبدو أن الحزب يبقى ملتزماً بالمحافظة على ”جبهة إسناده" إلى أن توقف إسرائيل حملتها في قطاع غزة. وبالنظر إلى أن حزب الله يمتلك موقعاً قوياً في النظام السياسي اللبناني، يرقى إلى قوة التعطيل، ليس هناك سيناريو قابل للتصديق يمكن بموجبه لأي حكومة لبنانية حتى أن تحاول كبح جماحه. لقد طالب بعض خصوم حزب الله المحليين أن يسلِّم الحزب أسلحته، ودعوا القوى الأجنبية لمساعدة الجيش اللبناني في تفكيك الحزب. يبدو أنهم يلقون عدة آذان صاغية في واشنطن. لكن الجيش قد يخاطر بتفككه هو نفسه إذا اتبع هذا المسار، بالنظر إلى أن كثيراً من الجنود الشيعة من المرجح أن ينشقوا عنه. علاوة على ذلك، فإن أي محاولة من ذلك القبيل من شبه المؤكد أن تثير رداً عنيفاً من حزب الله، رغم أنه أصبح أضعف من قبل.
لقد أشار حزب الله، على مدى شهور، إلى أنه يفضل تجنب جر نفسه ولبنان إلى مواجهة أوسع – لكن انتهى الأمر به في هذا الوضع على كل حال. إن عدم رده مباشرة وعلى نحو كاسح بعد مقتل نصر الله قد يشير ربما إلى أن إسرائيل أضعفت قدراته العسكرية. من الواضح أن إسرائيل قضت على قيادة الحزب واخترقت اتصالاته الداخلية. لكن يبقى من غير الواضح إلى أي حد قلَّصت إسرائيل ترسانة الحزب أو دمرتها. في 30 أيلول/سبتمبر، أعلن الأمين العام المؤقت نعيم قاسم أن حزب الله سيستمر في القتال، رغم العقبات الهائلة. في 8 تشرين الأول/أكتوبر، أطلق حزب الله 100 صاروخ على حيفا ومحيطها، وهي أكبر صلية يطلقها من الصواريخ حتى الآن في الصراع الحالي، فجرح شخصاً واحداً. يطالب حزب الله، كما فعل على مدى العام الماضي، بوقف لإطلاق النار في قطاع غزة قبل أن يتوقف عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل أو الدخول في مفاوضات بشأن الانسحاب من الحدود. لقد قال حزب الله إنه سيسعى إلى أن يكون هناك هدنة مقابلة في جنوب لبنان لكل هدنة في قطاع غزة، رغم أنه سيستمر على الأرجح في محاربة القوات الإسرائيلية إذا ظلت على الأراضي اللبنانية.
إسرائيل من جهتها تبدو مصممة على استعمال القوة لمنع حزب الله من إطلاق الصواريخ أو القيام بتوغلات برية إلى شمال إسرائيل. يشكل الغزو البري الإسرائيلي، إضافة إلى الغارات الجوية المكثفة، رد حكومة نتنياهو على الضغوط الشعبية التي تتعرض لها لتمكين عودة الإسرائيليين المهجرين إلى الشمال. تأمل إسرائيل بأن دفع مقاتلي حزب الله شمالاً وتدمير أسلحته سيسمح لهؤلاء السكان بالعودة إلى منازلهم بأمان. كما كان وقف إطلاق النار صعب التحقق في قطاع غزة، فإن الخيار الدبلوماسي في لبنان صعب أيضاً، ما لم يعالج مسرحي الأحداث على نحو منفصل. على مدى شهور، كانت إستراتيجية إسرائيل تقضي بفصل المسرحين بزيادة الهجمات لإجبار حزب الله على الانسحاب. مع رفض الحزب لخيار الفصل، تواجه إسرائيل الآن هدفين عسكريين صعبي التحقق: إجبار حزب الله على الاستسلام أو إضعاف الحزب بشدة بحيث لا يشكل تهديداً. من الناحية العملية، ستجد إسرائيل صعوبة في تحقيق أي من النتيجتين. بدلاً من ذلك، من السهل أن تجد جيشها عالقاً في صراع طويل لا مخرج منه في الأفق – وهو سيناريو يخاطر بتقويض إنجازاتها في إضعاف حزب الله.
إيران
لقد زادت حرب غزة التوترات المباشرة بين إيران وإسرائيل على نحو دراماتيكي، فعمقت التنافس الطويل والمرير الذي كان، في الماضي، قد جرى غالباً إما سراً أو على نحو غير مباشر. في الشرق الأوسط، سعت الجمهورية الإسلامية تقليدياً إلى فرض قوتها وتحدّي خصومها – بمن فيهم إسرائيل – من خلال “محور المقاومة“، وهي شبكة من الحلفاء غير الدولتيين الذين تدربهم، وتسلحهم وتمولهم. بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبداية هجوم إسرائيل في قطاع غزة، أطلقت هذه المجموعات صواريخ دقيقة وغير دقيقة ومسيَّرات مفخخة على القوات الإسرائيلية والأميركية على حد سواء لإظهار قضية مشتركة ومحاولة ردع إسرائيل عن توسيع حملتها العسكرية، بينما صعَّدت إسرائيل ضرباتها على الأهداف والطواقم المرتبطة بإيران، ولا سيما في سورية.
تتوجت سلسلة من الضربات الإسرائيلية في أواخر عام 2023 ومطلع عام 2024 على أفراد في قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني بهجوم في نيسان/أبريل بقتل عدد من كبار قادته في القنصلية الإيرانية في دمشق. دفع هذا المزيج من الخسائر المتزايدة ورمزية ضرب إسرائيل لمنشأة دبلوماسية، دفع إيران للمرة الأولى إلى الرد مباشرة بهجوم مباشر كاسح بالصواريخ والمسيّرات على إسرائيل. لكن لأن طهران كانت قد أعلنت نواياها مسبقاً، فإن الدفاعات الجوية الإسرائيلية، والأميركية والحليفة تمكنت من إسقاط معظم القذائف. وتلك التي وصلت لم تحدث أضراراً كبيرة. رغم ذلك، أعلن حسين سلامة، أحد قادة الحرس الثوري أن صلية الصواريخ مثلت “معادلة جديدة“: “من الآن فصاعداً، إذا هاجم النظام الصهيوني مصالحنا وأصولنا وشخصياتنا ومواطنينا في أي لحظة، سنهاجمهم من جمهورية إيران الإسلامية“.
إذا كانت الحكومة الإيرانية تأمل بأن يردع ردها عمليات إسرائيلية مستقبلية، فإن مثل تلك التوقعات سرعان ما أُحبطت. فبعد أيام قليلة من صلية نيسان/أبريل، ردت إسرائيل بضربة على نظام دفاع جوي إيراني، ومرة أخرى في أواخر تموز/يوليو بهجوم بالمسيّرات قتل أسماعيل هنيّة، الذي كان في طهران لحضور تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان. ومرة أخرى هدد المسؤولون الإيرانيون بالرد، ودفعت المخاوف من هجوم كبير متعدد الجبهات الولايات المتحدة إلى إرسال أصول عسكرية إضافية إلى المنطقة. كما كثّفت واشنطن تواصلها الدبلوماسي لمنع تصعيد سيكون من الصعب احتواؤه، ومن شأنه، كما جادل مسؤولون أميركيون أن يقوّض مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة التي وصفت حينها بأنها في “مرحلة نهائية“.
أكدت التبادلات التي جرت في نيسان/أبريل وتموز/يوليو على وجود مأزق بالنسبة لطهران؛ فهل يستحق الأمر أن ترد بطرق تخاطر بحدوث مواجهة مباشرة مع خصم قوي مدعوم من أقوى جيش في العالم؟ أم ينبغي على إيران التركيز على دعم شركائها في “محور المقاومة“، بينما تصدر دعوات لوقف إطلاق النار في غزة لنزع فتيل الصراع في مركزه؟ أصبح هذا المأزق أكثر حدة منذ منتصف أيلول/سبتمبر، عندما بدأت إسرائيل ضرباتها لقيادات حزب الله في لبنان، الذي يشكل أهم حلفاء إيران غير الدولتيين، في الوقت الذي يبدو فيه وقف إطلاق النار في غزة أبعد منالاً من أي وقت مضى.
يبدو أن التكاليف المتصوَّرة لعدم الرد قد دفعت القيادة الإيرانية نحو إعطاء الضوء الأخضر لصلية ثانية من النيران المباشرة على إسرائيل في 1 تشرين الأول/أكتوبر. كانت إستراتيجية رعاية حلفاء غير دولتيين تهدف دائماً إلى ردع الخصوم مع درجة من الانفصال، من أجل عدم جر الجمهورية الإسلامية إلى القتال مباشرة ما لم تتعرض مصالحها إلى تهديد جدي. من المرجح أن تكون طهران قد رأت في الضربات التي تعرَّض لها حزب الله وشركاؤها الآخرون تقليصاً لمصداقيتها كحليف وجعلها تبدو ضعيفة أمام أعدائها. أما الآن فقد بات عليها أن تتعامل مع ردٍ إسرائيلي من شأنه أن يجرها إلى صراع بنتائج غير مؤكدة؛ فنقاط الضعف الاستخباراتية والعسكرية التي تعاني منها إيران وحلفاؤها تزداد انكشافاً، وكذلك استعداد إسرائيل للمضي في التصعيد بسرعة أكبر من طهران و“المحور“.
كما يمكن لصدام مباشر مع إسرائيل أن يجر طهران إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، وهو أمر ترغب إيران بتجنبه. لكن إذا كانت ضربة إسرائيل قوية، من غير المرجح أن تتمكن طهران من امتصاصها دون رد، استناداً إلى المنطق نفسه الذي دفعها إلى مهاجمة إسرائيل في المقام الأول، أي إن إظهار الضعف سيجرُّ مزيداً من الضربات الإسرائيلية، السرية والعلنية. من تلك اللحظة فصاعداً، ستصبح إيران وإسرائيل عالقتين في حلقة تصعيدية خطيرة من المرجح أن تجرَّ الولايات المتحدة وتقوّض استقرار المنطقة أكثر فأكثر.
اليمن
بعد حزب الله، كان الحوثيون في اليمن العضو في “محور المقاومة” الأكثر انخراطاً في مواجهة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. فبعد اندلاع حرب غزة، وتعبيراً عن تضامنهم مع الفلسطينيين، أطلق الحوثيون حملة هجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر وخليج عدن، فأجبروا الشركات من جميع أنحاء العالم على تغيير مسار سفنها. بدأ الحوثيون التصعيد على مراحل، بداية بإطلاق المسيّرات والصواريخ الصغيرة على السفن المرتبطة بإسرائيل التي تمر في مياه الحديدة، ميناء اليمن الرئيسي على البحر الأحمر، قبل توسيع غارات الكوماندوس على السفن الإسرائيلية وغير الإسرائيلية المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية على البحر الأحمر، وفي خليج عدن والمحيط الهندي، إضافة إلى استعمال نيران أكثر كثافة ونطاقاً أوسع من الأسلحة. لقد قصف الحوثيون سفناً حربية أميركية بمسيّرات مفخخة وصواريخ بالستية. كما أطلقوا هجمة مباشرة على تل أبيب في تموز/يوليو، استعملوا فيها أيضاً مسيّرات وصواريخ بالستية، فقتلوا إسرائيلياً وجرحوا تسعة آخرين، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى الرد بضربات جوية على الحديدة. تكررت هذه الحلقة الأخيرة في نهاية أيلول/سبتمبر.
لقد عززت حملة الحوثيين البحرية قوة التنظيم سياسياً، سواء داخل اليمن أو في المنطقة بشكل عام. كانت الحركة قد سيطرت على جزء كبير من شمال ووسط اليمن منذ إسقاط الحكومة في صنعاء في خريف عام 2014. وهي تعارض طيفاً من القوى السياسية في الجنوب والشرق، التي تصطدم معها أحياناً في ميادين المعركة، ولا سيما في المنطقة الجبلية في وسط البلاد. لقد ساعدت الهجمات على السفن في تفادي الغضب الشعبي على سوء حكم الحوثيين في المناطق التي يسيطرون عليها، بالنظر إلى أنهم يستطيعون استعمال مخزون من التعاطف مع الفلسطينيين في أوساط اليمنيين. كما سمحت الحملة لهم باستعراض قدراتهم العسكرية ورفعت مكانتهم داخل “المحور“؛ ففي المحصلة، تمكن الحوثيون من ضرب إسرائيل والأسطول الأميركي وتعطيل الملاحة في البحر الأحمر، والضغط على إسرائيل، والولايات المتحدة وحلفائهما، وكل ذلك على يد لاعب ثانوي نسبياً. في هذه الأثناء، تنظر الولايات المتحدة وحلفاؤها الآن إلى الحوثيين على أنهم أكثر من مجرد مشكلة يمنية، بل مشكلة لا يوجد خيارات كثيرة لحلها. لم تفعل العقوبات الأميركية، والضربات الجوية الأميركية والبريطانية المشتركة سوى القليل لوقف نيران الصواريخ الحوثية.
في هذه الأثناء، قلّصت حملة الحوثيين على نحو كبير آفاق تحقيق السلام في اليمن؛ إذ جمدت الإعلان المزمع عن تفاهم سياسي مع التحالف الذي تقوده السعودية التي تدخلت لإعادة تنصيب الحكومة اليمنية التي أطيح بها في عام 2015. خشيت الولايات المتحدة والسعودية من أن أي اتفاق يتم التوصل إليه بينما ما يزال الشحن البحري تحت النار سيكون غير فعال؛ إذ سيكون من المستحيل تثبيت وقف إطلاق نار رسمي بين المتحاربين اليمنيين طالما استمرت الحملة. كما تخشى الدولتان أيضاً من أن الحوثيين قد يستخدمون الأموال التي حصلوا عليها في الصفقة (التي تدفع السعودية بموجبها رواتب موظفي القطاع العام في المناطق التي يديرها الحوثيون) لتصنيع قذائف أكثر وأفضل. الحوثيون من جهتهم يعتقدون أنهم في موقع أقوى من السعوديين. فرئيس المكتب السياسي الأعلى للحركة انتقد الرياض على تأجيل الاتفاق وطالب بتعويضات إضافية عن الحرب وأموال لإعادة الإعمار كجزء من المفاوضات الجديدة. كما يشعر الحوثيون بجرأة أكبر في مواجهة خصومهم اليمنيين، بالنظر إلى أن نجاحاتهم في البحر عززت قدرتهم على التجنيد وسمحت لهم بنشر عدد أكبر من المقاتلين على جبهات مختلفة، فعززوا جاهزيتهم لاستئناف الأعمال القتالية. في هذه الأثناء، تعتقد الحكومة اليمنية، التي أضعفتها الخلافات الداخلية، حتى الآن، وهي على خطأ، أن أزمة البحر الأحمر تمثل فرصة لكسب دعم أجنبي جديد لعملية برية جديدة لإلحاق الهزيمة بالحوثيين.
إن وقفاً لإطلاق النار في قطاع غزة سيزيل الدافع المعلن الرئيسي لهجمات الحوثيين البحرية، لكنه لن يضمن قدراً أكبر من الهدوء للملاحة. لقد حققت الحركة مكاسب كبيرة من حملتها في البحر الأحمر، وفي أعقاب مواجهة مباشرة مع إسرائيل في تموز/يوليو، قالت إن أفعالها لن تعتمد من الآن فصاعداً على مسار الحرب في غزة. لكن طالما استمرت الحملة الإسرائيلية في غزة (والآن في لبنان)، سيكون لدى الحوثيين مبرر للتصعيد من جهتهم. وبالفعل، ففي 27 أيلول/سبتمبر، أعلنوا مسؤوليتهم عن هجمات على تل أبيب وعسقلان في إسرائيل، وعلى ثلاث سفن حربية أميركية. من المرجح أن يقوّض استمرار تلك الحروب فرص تحقيق السلام في اليمن أيضاً. أخيراً، إذا تصاعد الصراع بين إيران وإسرائيل، من المرجح أن يشن الحوثيون المزيد من الهجمات، بما في ذلك بالتنسيق مع مجموعات أخرى في “المحور“، مثل الميليشيات العراقية. كما قد يتبنون تكتيكات جديدة، بما في ذلك قطع كابلات الإنترنت الممدودة تحت مياه البحر الأحمر.
مصر
عندما اندلعت الحرب في غزة، وجهت مصر جميع جهودها إلى تجنب حدوث تهجير جماعي للفلسطينيين من القطاع إلى شبه جزيرة سيناء. مع تحدُّث المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية عن “هجرة طوعية” من قطاع غزة، أبلغت القاهرة شركاءها الغربيين على نحو متكرر، سواء في البيانات العلنية أو في المحادثات الثنائية، بأنها لن تقبل هذه النتيجة. اعتقدت مصر أن مثل ذلك التهجير – الذي يعادل نكبة جديدة، كما يسمي الفلسطينيين فرارهم وطردهم في عام 1948 – ستشكل كارثة للحركة الوطنية الفلسطينية. وستجعل من تأسيس دولة فلسطينية، وهي أصلاً احتمال بعيد التحقق، أمراً أكثر صعوبة. وسيهدد ذلك الأمن الوطني المصري، ويثقل كاهل القاهرة بعدد من المهاجرين لا يمكن إدارة أوضاعهم، وربما السماح للمقاتلين الفلسطينيين بدخول منطقة تعاني أصلاً من تبعات عِقدٍ من التمرد الإسلامي. بضغط من الدبلوماسيين المصريين، دفع المسؤولون الأوروبيون والأميركيون القادة الإسرائيليين إلى أن ينكروا علناً أي نية بطرد الفلسطينيين من قطاع غزة.
لكن التهديد بالتهجير الجماعي فتح أبواباً أيضاً بالنسبة للقاهرة؛ إذ استغلت الحكومة المصرية المخاوف الأوروبية من زيادة الهجرة عبر البحر المتوسط وهواجس دول الخليج حيال النظام الإقليمي، للحصول على مساعدات، واستثمارات مباشرة وقروض ميسَّرة. أحدثت الحرب في غزة آثاراً سلبية كبيرة على الاقتصاد المصري المرهق أصلاً، فضربت قطاع السياحة بقوة، وقلصت مؤقتاً واردات الغاز من إسرائيل وقطعت كلياً تقريباً عائدات قناة السويس، مع قيام الحوثيين بضرب سفن الشحن في البحر الأحمر. لكن القاهرة تمكنت من تحقيق أفضل النتائج من مأزقها، فأقنعت شركاءها الخارجيين بمنحها دعماً مالياً طارئاً، وهكذا تجنبت عدم التمكن من دفع ديونها الكبيرة، رغم المخاوف السابقة من أن مساعدة مصر دون التزام جدي من القاهرة بإجراء إصلاحات اقتصادية سيحدث آثاراً عكسية.
مع تراجع حدة المخاطر الاقتصادية وانطلاق مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، التي قامت فيها مصر بدور محوري في الوساطة بين الطرفين، باتت القاهرة أكثر قلقاً حيال هدف إسرائيل المعلن المتمثل في احتلال محور فيلادلفيا (ما تسميه وسائل الإعلام الناطقة بالعربية محور صلاح الدين)، وهو شريط ضيق من الأراضي المصرية بين سيناء وغزة. بعد هجوم أيار/مايو في مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة، دخلت القوات الإسرائيلية المحور. اتهمت إسرائيل مصر بعدم تأمين المنطقة بشكل كامل، الأمر الذي سمح بدخول أسلحة ومعدات عسكرية أخرى إلى غزة من خلال أنفاق تقول إسرائيل إن جنودها اكتشفوها. رفضت القاهرة هذا الادعاء، وأشارت إلى أن إسرائيل كانت قد اكتشفت حفراً قديمة غير مستعملة كانت قد أُغلقت منذ وقت طويل. كما أبرزت مصر انتهاك إسرائيل لمعاهدة السلام لعام 1979، التي تحظر أي تغيير أحادي للوضع القائم في المنطقة. لكن نفوذ مصر على إسرائيل محدود.
عندما اندلعت الحرب في غزة، وجهت مصر جميع جهودها إلى تجنب حدوث تهجير جماعي للفلسطينيين من القطاع إلى شبه جزيرة سيناء. مع تحدُّث المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية عن “هجرة طوعية” من قطاع غزة، أبلغت القاهرة شركاءها الغربيين على نحو متكرر، سواء في البيانات العلنية أو في المحادثات الثنائية، بأنها لن تقبل هذه النتيجة. اعتقدت مصر أن مثل ذلك التهجير – الذي يعادل نكبة جديدة، كما يسمي الفلسطينيين فرارهم وطردهم في عام 1948 – ستشكل كارثة للحركة الوطنية الفلسطينية. وستجعل من تأسيس دولة فلسطينية، وهي أصلاً احتمال بعيد التحقق، أمراً أكثر صعوبة. وسيهدد ذلك الأمن الوطني المصري، ويثقل كاهل القاهرة بعدد من المهاجرين لا يمكن إدارة أوضاعهم، وربما السماح للمقاتلين الفلسطينيين بدخول منطقة تعاني أصلاً من تبعات عِقدٍ من التمرد الإسلامي. بضغط من الدبلوماسيين المصريين، دفع المسؤولون الأوروبيون والأميركيون القادة الإسرائيليين إلى أن ينكروا علناً أي نية بطرد الفلسطينيين من قطاع غزة.
لكن التهديد بالتهجير الجماعي فتح أبواباً أيضاً بالنسبة للقاهرة؛ إذ استغلت الحكومة المصرية المخاوف الأوروبية من زيادة الهجرة عبر البحر المتوسط وهواجس دول الخليج حيال النظام الإقليمي، للحصول على مساعدات، واستثمارات مباشرة وقروض ميسَّرة. أحدثت الحرب في غزة آثاراً سلبية كبيرة على الاقتصاد المصري المرهق أصلاً، فضربت قطاع السياحة بقوة، وقلصت مؤقتاً واردات الغاز من إسرائيل وقطعت كلياً تقريباً عائدات قناة السويس، مع قيام الحوثيين بضرب سفن الشحن في البحر الأحمر. لكن القاهرة تمكنت من تحقيق أفضل النتائج من مأزقها، فأقنعت شركاءها الخارجيين بمنحها دعماً مالياً طارئاً، وهكذا تجنبت عدم التمكن من دفع ديونها الكبيرة، رغم المخاوف السابقة من أن مساعدة مصر دون التزام جدي من القاهرة بإجراء إصلاحات اقتصادية سيحدث آثاراً عكسية.
مع تراجع حدة المخاطر الاقتصادية وانطلاق مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، التي قامت فيها مصر بدور محوري في الوساطة بين الطرفين، باتت القاهرة أكثر قلقاً حيال هدف إسرائيل المعلن المتمثل في احتلال محور فيلادلفيا (ما تسميه وسائل الإعلام الناطقة بالعربية محور صلاح الدين)، وهو شريط ضيق من الأراضي المصرية بين سيناء وغزة. بعد هجوم أيار/مايو في مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة، دخلت القوات الإسرائيلية المحور. اتهمت إسرائيل مصر بعدم تأمين المنطقة بشكل كامل، الأمر الذي سمح بدخول أسلحة ومعدات عسكرية أخرى إلى غزة من خلال أنفاق تقول إسرائيل إن جنودها اكتشفوها. رفضت القاهرة هذا الادعاء، وأشارت إلى أن إسرائيل كانت قد اكتشفت حفراً قديمة غير مستعملة كانت قد أُغلقت منذ وقت طويل. كما أبرزت مصر انتهاك إسرائيل لمعاهدة السلام لعام 1979، التي تحظر أي تغيير أحادي للوضع القائم في المنطقة. لكن نفوذ مصر على إسرائيل محدود.
الأردن
تشكل الحرب في غزة مأزقاً بالنسبة للأردن، جار إسرائيل، إذ إن في الأردن عدد كبير من المواطنين من أصول فلسطينية (بشكل رئيسي لاجئين من حربي عام 1948 و1967 وذريتهم) ويعتمد على دعم حلفاء إسرائيل الغربيين من أجل استقراره السياسي والاقتصادي. لقد كان الأثر الاقتصادي قصير الأمد للحرب مؤلماً؛ فالسياحة، التي تسهم بـ 14-15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، والتي كانت في حالة انبعاث في أعقاب جائحة كوفيد–19، تراجعت بحدة الآن، في حين أن الاستثمارات الخارجية انخفضت بشكل كبير. في السياسة الداخلية، تُفاقم الحرب مشكلة صورة الحكومة، التي وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في عام 1994 وتحتفظ بالعلاقات الدبلوماسية الناجمة عنها وبعلاقات أخرى رغم وجود معارضة كبيرة.
كما أن الأردن ما يزال قلقاً من أن عدداً أكبر من الفلسطينيين يمكن أن يُهجَّروا إلى البلاد. تخشى عمان من أنه إذا دفعت حرب غزة الفلسطينيين إلى سيناء، فإن ذلك سيشكل سابقة لإعادة التوطين القسرية لفلسطينيي الضفة الغربية في الأردن، مع ما لذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية هائلة. لقد كانت فكرة إمكانية تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن يعبَّر عنها منذ وقت طويل من قبل اليمين الإسرائيلي، بما في ذلك كثير من المقربين من الحكومة الحالية.
لقد انتقد المسؤولون الأردنيون بقوة إدارة إسرائيل للحرب في قطاع غزة، وصرَّحوا على نحو متكرر أنها تنتهك القانون الدولي. لقد دعم الأردن علناً قضية اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية. في أواخر أيلول/سبتمبر، وصف الملك عبد الله الثاني الحرب بأنها هجوم على الأمم المتحدة وكرر دعواته السابقة إلى وجود ممر إنساني لإيصال المساعدات.
كما كان الأردن نشطاً في إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. وكان لديه منذ وقت طويل مستشفى ميداني في غزة، وبنى مستشفى ثانياً في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتعرض كلاهما للقصف من قبل إسرائيل. كما قامت الحكومة بإسقاط المساعدات من الجو وبتغطية إعلامية كبيرة، جزئياً في محاولة لدرء الانتقادات المتزايدة لعلاقتها بإسرائيل. وأدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر إلى تغيير مسار السلع الموجهة إلى إسرائيل من خلال الخليج، ثم براً عبر السعودية والأردن إلى جسر الملك حسين إلى الضفة الغربية. وأُرسل كثير من شحنات المساعدات المخصصة لغزة من الأردن ومن خلال المعبر نفسه.
رغم الانتقادات الشعبية، لم يقلّص الأردن تعاونه الاقتصادي، والعسكري والسياسي مع إسرائيل، خشية تداعيات اقتصادية وسياسية حادة، بما فيها من الولايات المتحدة، راعيته الخارجية الرئيسية. في عام 2021، وقّعت عمان وواشنطن اتفاق تعاون دفاعي، وفي عام 2022، جدد الأردن ”شراكته الإستراتيجية" مع الولايات المتحدة، التي تعطي القوات المسلحة الأميركية الحق باستعمال الأراضي الأردنية لأغراض غير محددة مقابل عشرة مليارات دولار على سبع سنوات، ”شريطة توفّر الأموال الأميركية“. ومن ثم تمكنت الولايات المتحدة من إسقاط صواريخ ومسيرات إيرانية فوق الأردن متجهة إلى إسرائيل في نيسان/أبريل وتشرين الأول/أكتوبر. وقالت الحكومة إنها سمحت للولايات المتحدة بفعل ذلك من أجل حماية السيادة الأردنية، خشية أن تصبح البلاد ساحة معركة بين إيران وإسرائيل. لكن الوجود العسكري الأميركي عرّض الأراضي الأردنية لهجمات من حلفاء إيران غير الدولتيين. في 29 كانون الثاني/يناير، أطلقت مجموعة متشددة عراقية مدعومة من إيران مسيّرة مفخخة على البرج 22، وهو قاعدة مراقبة أميركية في شمال شرق الأردن قرب الحدود السورية، فقتلت ثلاثة جنود أميركيين، في أول هجوم على قوات أميركية على الأراضي الأردنية.
رغم جهود الحكومة لقمعها، فإن المعارضة الشعبية للحرب في غزة كانت كبيرة منذ البداية. في الأشهر الثلاثة الأولى، على وجه الخصوص، خرجت احتجاجات في عدة مدن، بما فيها عمان، رغم أن المتظاهرين تجنبوا تجاوز خطوط المملكة الحُمر بانتقاد النظام الملكي وسياساته الداخلية، ووجهوا غضبهم إلى إسرائيل والولايات المتحدة. ودفعت اتهامات بأن الولايات المتحدة تمرر مساعدات عسكرية إلى إسرائيل عبر الأردن إلى ظهور إدانات لـ “الشراكة الإستراتيجية” – لكن ليس للحكومة نفسها. حاولت الحكومة تقييد المزيد من التعبيرات عن الاستياء باحتجاز آلاف الناشطين، رغم أن معظم حالات الاحتجاز كانت لمدة قصيرة من الزمن. وقد راقبت الشرطة المظاهرات بشكل مكثف، ومن المرجح أن يكون هذا هو السبب الكامن وراء انخفاض عدد الحشود بشكل مستمر.
العراق
في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2023، شنت مجموعات متشددة عراقية في “محور المقاومة” هجمات على أصول عسكرية أميركية في العراق وسورية، جزئياً لمعاقبة واشنطن على دعمها لإسرائيل وسط حرب غزة وجزئياً لتعزيز جزء من أجندتها المحلية. أرادت أن تضغط على الحكومتين العراقية والأميركية لتسريع المحادثات بشأن سحب قوات التحالف الأجنبية التي ما تزال في العراق، الموجودة اسمياً لمحاربة بقايا تنظيم الدولة الإسلامية. كانت بغداد وواشنطن قد اتفقتا على الشروع في تلك المحادثات في آب/أغسطس السابق. في أعقاب الضربات الانتقامية الأميركية، بما فيها ضربة على بغداد في كانون الأول/ديسمبر، شعرت الحكومة العراقية بالطبيعة العاجلة للتوصل إلى تفاهم مع الولايات المتحدة على جدول زمني للانسحاب.
وصلت التبادلات بين المجموعات المسلحة العراقية والقوات الأميركية إلى نقطة تحوّل في 28 كانون الثاني/يناير، عندما ضربت الأولى البرج 22، المنشأة الأميركية في الأردن، بمسيّرة مفخخة، فقتلت ثلاثة جنود. ردت الولايات المتحدة بهجمات متعددة على قواعد المجموعات العراقية، قتلت في إحداها قائداً رفيع المستوى لكتائب حزب الله في بغداد في 7 شباط/فبراير. تُعد كتائب حزب الله المجموعة القيادية بين فصائل “المقاومة” العراقية. وبهذه الضربة، بدا أن الولايات المتحدة تؤسس لدرجة من الردع؛ وفي هذه الأثناء، طالبت الحكومتان الإيرانية والعراقية الفصائل بخفض التصعيد. أدت هذه العوامل معاً إلى إجبار المجموعات على الامتناع عن القيام بردود انتقامية. أصدرت كتائب حزب الله بياناً يعلن أنها ستعلق المزيد من الهجمات على الولايات المتحدة.
سمح تعليق الهجمات للعراق والولايات المتحدة باستئناف المحادثات بشأن انسحاب قوات التحالف. في 28 أيلول/سبتمبر، أعلنا جدولاً زمنياً للانسحاب، يشمل نهاية لبعثة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق بحلول أيلول/سبتمبر 2025 ووجود حامية عسكرية لدعم البعثة في سورية حتى أيلول/سبتمبر 2026، دون توفر معلومات حول الخطوات الفاصلة بين الموعدين. يمكن أن يواجه هذا الجدول الزمني عقبات في أعقاب التصعيد الإسرائيلي في لبنان والرد الإسرائيلي المحتمل على صلية الصواريخ الإيرانية في 1 تشرين الأول/أكتوبر، بالنظر إلى أن مجموعات “المحور” العراقية قد تستأنف هجماتها على الولايات المتحدة، التي قالت سابقاً إنها لن تتراجع تحت النار. بصرف النظر عما يحدث لانسحاب التحالف، يمكن لعدد من القوات الأميركية البقاء في العراق مع استمرار بغداد وواشنطن بالتفاوض على اتفاق أمني ثنائي.
منذ شباط/فبراير، وبدلاً من ضرب القواعد الأميركية في العراق وسورية، استهدفت مجموعات “المقاومة” العراقية إسرائيل، لكن دون جدوى. يبدو أن إسرائيل اعترضت المسيّرات وصواريخ كروز التي انطلقت من العراق فوق سورية أو الأردن. منذ تصعيد إسرائيل لضرباتها في لبنان، وقتلها لأحد قادة كتائب حزب الله في دمشق في 20 أيلول/سبتمبر، زادت حدة الهجمات لكن معدل النجاح يبقى هامشياً. في 25 أيلول/سبتمبر، يُذكر أن مسيّرة انطلقت من العراق أصابت ميناء إيلات الإسرائيلي، فجرحت شخصين. وفي اليوم نفسه، أصدر أحد قادة كتائب حزب الله بياناً يحثّ فيه كل مجموعات “المقاومة” على تصعيد الهجمات على إسرائيل دعماً للبنان وفلسطين. كما هدد إسرائيل والولايات المتحدة بردٍ كبير إذا ضربت إسرائيل العراق مباشرة. كررت مجموعات “المقاومة” هذه الرسالة بعد هجوم إيران في 1 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل، وهددت باستئناف إطلاق النار على أهداف أميركية في المنطقة إذا وجهت إسرائيل ضربة لإيران. في 4 تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت إسرائيل أن مسيرة أطلقت من العراق إلى مرتفعات الجولان المحتلة في اليوم السابق كانت قد قتلت جنديين وجرحت عشرين آخرين. لم تعلن مجموعات “المقاومة” العراقية مسؤوليتها عن الهجوم، رغم أن ذاك كان أنجح هجوم حتى تاريخه على هدف إسرائيلي، على الأرجح لتجنب رد إسرائيلي. مسؤولون عراقيون مطلعون على قدرات المجموعات يشككون بما إذا كانت المسيّرة قد انطلقت من العراق، قائلين إن المجموعات كانت بحاجة إلى أن تكون أقرب إلى الهدف، ربما في سورية.
لقد أصبحت تلك المجموعات أكثر نشاطاً في دعم ما يسميه شركاء إيران في المنطقة “وحدة الجبهات” خارج الساحة العسكرية. بدعم من هذه المجموعات، أصبح الوفد الحوثي في بغداد مرئياً أكثر، وفتحت حماس مكتباً لها في العاصمة العراقية. تبدو الحكومة العراقية غير مرتاحة لهذه الخطوات، لكنها لا تستطيع فعل الكثير لمنعها. من المرجح أن تكون هذه الإشارات موجهة نحو درجة أكبر من التعاون السياسي والعلاقات العامة وليس تعزيز التنسيق العسكري بين الجهات الفاعلة في “المقاومة“. لكن من الممكن أن يطور القرب الجديد من حماس بُعداً عسكرياً في المستقبل. لقد يسّرت المجموعات العراقية التدريب العسكري للحوثيين في الماضي.
ولم يحقق التنسيق مع أجزاء أخرى من “محور المقاومة” تحولاً كبيراً في الأفعال العسكرية للمجموعات العراقية. لفترة وجيزة من الوقت، من 6 حزيران/يونيو إلى 15 تموز/يوليو، كان الحوثيون والمجموعات العراقية يعلنون أنهم كانوا قد أطلقوا هجمات مشتركة على إسرائيل. وفي عشر مناسبات تقريباً، يبدو أن المجموعات أطلقت مسيرات وصواريخ في الوقت نفسه من بلدان كل منها في محاولة تشتيت الدفاعات الجوية الإسرائيلية في اتجاهات مختلفة. لم يؤكَّد أي من الضربات التي حاولت المجموعات شنها من قبل إسرائيل. كانت الهجمات المنسقة الأولى من نوعها، ويمكن أن تحدث مرة أخرى في حال حدوث تصعيد كبير بين إيران وإسرائيل. كما أن من الممكن أن ترسل المجموعات العراقية مقاتليها لمساعدة حزب الله في لبنان، وهو ما عبَّرت سابقاً عن استعدادها لفعله.
سورية
لقد أكدت حرب غزة على دور سورية كساحة معركة إقليمية. بداية في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبتعهدها “الانتقام لغزة“، أطلقت المقاومة الإسلامية في العراق – وهي إحدى مجموعات “المحور” المدعوم من إيران – سلسلة من الضربات على قواعد أميركية في شرق سورية، فأشعلت مبارزة مستمرة منذ شهور مع الولايات المتحدة. وصلت هذه التبادلات إلى أوجها في هجوم 2 شباط/فبراير 2024 على قاعدة البرج 22 الأميركية. رداً على ذلك، ضربت الولايات المتحدة 85 موقعاً في سورية والعراق. تمت استعادة درجة من الهدوء. لكن الحوادث استمرت على نحو متفرق في شرق سورية، مدفوعة بتطورات في غزة ولبنان. بموازاة ذلك، ووسط “حرب الظلال” بين إسرائيل وإيران، تستهدف إسرائيل ضباط الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المدعومة من إيران في جميع أنحاء سورية، بما في ذلك في المناطق الحضرية الكبرى مثل دمشق وحلب. أدت ضربات قرب مطار حلب الدولي في 29 آذار/مارس وعلى القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان/أبريل إلى مقتل عدد من الأشخاص، بمن فيهم مدنيين، وألحقت أضرار مادية كبيرة.
في هذه الأثناء، أوضحت دمشق أنها لا تريد للحدود السورية مع مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل أن تصبح جبهة أخرى. ولتجنب التصعيد، كانت لهجة الحكومة السورية خافتة في بياناتها العامة، واقصرت إشاراتها على “محور المقاومة“، الذي تعبر عادة عن دعمها القوي له. تسيِّر القوات السورية والروسية دوريات على أجزاء من حدود الجولان لمنع المجموعات المسلحة الإيرانية من مهاجمة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، ما تزال سورية تستَخدَم على أنها العمود الفقري اللوجستي لـعضو “المحور” حزب الله، وتسمح له باستعمال الأراضي السورية كملاذ آمن، إضافة إلى منشآت التدريب، ومخازن الأسلحة وطرق الإمداد. يعد حزب الله الحليف الإستراتيجي الرئيسي للحكومة السورية؛ إذ ساعد الحزب في محاربة المجموعات المتمردة في العشرية الأولى من الألفية وساعدها اقتصادياً من خلال التجارة عبر الحدود والشبكات المالية. كما سمح موقع حزب الله في لبنان لدمشق بالاحتفاظ بدرجة من النفوذ هناك منذ سحب قواتها في عام 2005. يمكن لوضع الحزب الأضعف الآن أن يقلص نفوذه، وكذلك وصول الحكومة السورية إلى الأموال وقدرتها على مواجهة القوات الإسرائيلية والمعارضة السورية في الوقت نفسه. رغم الضربات الإسرائيلية شبه اليومية على الأراضي السورية، من غير المرجح أن تُجرَّ دمشق إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل ما لم تواجَه بتوغلات برية. من شأن مثل ذلك الانخراط أن يكون مكلفاً جداً للجيش السوري، ويمكن أن يعرض للخطر قادة الحكومة، بينما تستطيع دمشق أن تساعد الحزب في الاستمرار في قتال إسرائيل بينما تتجنب الانخراط العسكري المباشر. يمكن لصراع إيراني–إسرائيلي حاد أن يرفع الرهانات بشأن انجرار سورية إلى الصراع.
لقد أطلقت أحدث الهجمات الإسرائيلية على لبنان موجة من التهجير إلى سورية، الأمر الذي يفاقم الوضع الإنساني السيئ أصلاً في البلاد. في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ذكر مسؤولون في دمشق أن نحو 320,000 شخص، منهم أكثر من 223,000 سوري أصبحوا لاجئين بحكم الحرب الداخلية في سورية، كانوا قد عبروا الحدود في الأسبوعين السابقين. بالنظر إلى أن مراكز الإيواء يمكن أن تأوي نحو 65,000 ألف شخص فحسب، فإن النزوح طغى على قدرة هذه المراكز على الاستيعاب. بعد أكثر من عقد من الحرب فيها، فإن سورية تعالج أصلاً مشكلات مثل انتشار الفقر، وانعدام الأمن الغذائي والافتقار الحاد إلى الخدمات الأساسية. ستكون بحاجة إلى مساعدة دولية لدعم جميع المهجّرين. ويواجه السوريون العائدون مخاطرة إضافية متمثلة في الاعتقال على أيدي الأجهزة الأمنية الحكومية بتهمة مساعدة المتمردين أو قوات المعارضة.
دول الخليج العربية
لقد كانت دول الخليج العربية، ولا سيما، قطر، والسعودية والإمارات العربية المتحدة، في مقدمة الجهود الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة على مدى العام الماضي. وفي الوقت الذي تدين فيه حرب إسرائيل وتعبر عن دعمها لحقوق الفلسطينيين ولقيام دولة فلسطينية بإلحاح متزايد، فإن جوهر إستراتجياتها ما يزال هو نفسه. لقد بذلت قطر جهوداً كبيرة، إلى جانب مصر والولايات المتحدة، سعياً إلى وقف لإطلاق النار بين حماس وإسرائيل. وجمعت السعودية القادة العرب والمسلمين في “مجموعات اتصال” لمناقشة سبل التوصل إلى حل الدولتين للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، لكن دون جدوى. وقادت الإمارات العربية المتحدة، من جهتها، مبادرات تقديم المساعدات لغزة طوال الحرب. لقد أثمرت هذه الجهود نجاحات صغيرة على مدى العام، مثل (في حالة قطر) هدنة لمدة أسبوع في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 شهدت إطلاق سراح أكثر من 100 سجين إسرائيلي وفلسطيني. لكن أياً من تلك المحاولات لم يتمكن من تغيير مسار الصراع.
إضافة إلى إستراتيجيتها الدبلوماسية العامة، تسعى الرياض إلى تنفيذ إستراتيجية خاصة، بتشجيع من واشنطن، تتمثل في التفاوض على إنهاء حرب غزة وإطلاق عملية تفضي إلى دولة فلسطينية مقابل تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. لكن مع استمرار الحرب – ومقتل أكثر من 40,000 فلسطيني، وتباطؤ المساعدات وشحِّها، وتوقف مفاوضات وقف إطلاق النار – تلاشت هذه الخطط، على الأقل في الوقت الراهن. في 18 أيلول/سبتمبر 2024، قال ولي العهد إنه لن يكون هناك تطبيع دون دولة فلسطينية، وهو تحوّل حذر لكنه مهم عن الدعوات السابقة إلى ”تسهيل حياة الفلسطينيين" أو لـ ”مسار غير قابل للعكس" إلى الدولة الفلسطينية.
بالنسبة لدول الخليج العربية، فإن توسّع حرب غزة إلى لبنان وربما إلى أماكن أخرى يزيد مخاطر الوقوع في تقاطع النيران بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من جهة، وإيران و“محور المقاومة“، من جهة أخرى. يمكن أن تتحول القواعد الأميركية في كل شبه الجزيرة العربية أهدافاً لإيران أو “المحور” إذا اتسع الصراع، بينما يمكن للحوثيين في اليمن العودة إلى الهجمات عبر الحدود على السعودية، أو ضرب الإمارات العربية المتحدة، كما فعلوا في الماضي. لتخفيف حدة هذه المخاطر، تبقى دول الخليج قريبة من الولايات المتحدة وتنخرط مع إسرائيل بدرجات متفاوتة، بينما تسعى إلى الحوار مع إيران وشركائها. في نيسان/أبريل، ذُكر أن السعودية والإمارات رفضتا السماح للولايات المتحدة أو إسرائيل باستعمال مجالهما الجوي لاعتراض الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل.
ستحافظ دول الخليج على هذا التوازن الدقيق طالما ظل خطر نشوب حرب إقليمية يلوح في الأفق – لكن يتعين الانتظار لرؤية إلى أي مدى يمكن أن تحافظ على هذا التوازن. في 3 تشرين الأول/أكتوبر، اجتمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع الرئيس الإيراني بزشكيان في العاصمة القطرية الدوحة على هامش حوار التعاون الآسيوي، وهو الاجتماع الأول من نوعه منذ عام 2007. ناقش وزراء الخارجية مخاطر التصعيد الإقليمي، وأكدوا على رغبة دول الخليج الانخراط في دبلوماسية مع جميع الأطراف وبقائها محايدة في الصراع بين إسرائيل وإيران.