هل ماتت فكرة السلام عبر التجارة؟
بروجيكت سنديكيت
2023-10-04 07:13
بقلم: هارولد جيمس
برلين ــ منذ غزو روسيا لأوكرانيا، انطلق الساسة الألمان في جولة اعتذار عن اعتماد بلادهم في الماضي على الهيدروكربونات الروسية والدعوة إلى التكامل بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في مجال الطاقة. وجاء رد المستشار الألماني أولاف شولتز على الاعتداء الروسي بإعلان "نقطة تحول" واتخاذ القرار أخيرا بإغلاق خط أنابيب نورد ستريم 2. مع ذلك، لا يزال كثيرون ينظرون إلى المشروع باعتباره لطخة لوثت شرف ألمانيا وفطنتها السياسية.
بعد مرور عام ونصف العام على بداية الغزو، لا يزال القادة الألمان يتصارعون مع أخطاء الماضي السياسية ويناضلون لاستخلاص دروس واضحة منها. ولأن اقتصاد ألمانيا القائم على التصدير يظل معتمدا بشدة على السوق الصينية، فإن النهج الذي تسلكه في التعامل مع الصين متضارب ومتناقض بدرجة كبيرة.
ومن ثَـمّ، في أواخر يونيو/حزيران، وبينما رفض الرئيس الأميركي جو بايدن الاعتذار عن وصفه الرئيس الصيني شي جين بينج بالـ "دكتاتور"، قام رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج بزيارة ودية إلى ألمانيا، حيث احتفل هو وشولتز بالدور الذي قد تلعبه العلاقات التجارية الصينية الألمانية في موازنة المنافسة الصينية الأميركية المتزايدة التوتر. ولكن في سبتمبر/أيلول، كررت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ذلك الوصف المهين، في حين أوضح مفوض الاتحاد الأوروبي التجاري فالديس دومبروفسكيس أن "الاتحاد الأوروبي ليس لديه أي نية للانفصال عن الصين".
ترى هل يبالغ الألمان، والأوروبيون في عموم الأمر، في الاعتذار، ولا يتعمقون في التفكير؟ قد يوافق على هذا منتقدو السياسة الألمانية ــ التي كثيرا ما يُـسـخَـر منها الآن باعتبارها "تجارية النزعة" (مركنتيلية)، وهو مصطلح لا يخلو من التورية هنا، حيث يُـقـصَـد به سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. ومع ذلك فإن المبدأ القائل بأن الاقتصاد قادر على تشكيل السياسة بطرق مفيدة يستحق قدرا من الاحترام أكبر مما كان يتلقاه. كان هذا هو المبدأ الأساسي وراء السياسة الشرقية الألمانية "الـمعيبة"، التي رأت في تطبيع العلاقات الاقتصادية وسيلة لتأمين السلام أثناء الحرب الباردة وبعدها. وهي أيضا الفكرة الأساسية وراء العولمة الحديثة.
يزعم بعض المنتقدين أن السياسة الشرقية كانت دوما عاجزة بسبب عيوب شابت بعض أفراد بعينهم ــ مثل سعي المستشار الألماني جيرهارد شرودر الحثيث وراء المال، والذي تسبب في تحويله برغبته إلى دُمية في يد شركة جازبروم؛ أو حذر ميركل الـمُـفرِط، الذي يرجع في حد ذاته إلى نشأتها في ألمانيا الشرقية. لكن آخرين يرون في النهج الألماني نقيصة أكبر ترجع إلى السذاجة. على حد تعبير روبرت كاجان في مناسبة شهيرة قبل عشرين عاما، "الأوروبيون المغرمون العاطفيون" ينتمون إلى كوكب الزهرة، في حين ينتمي الأميركيون (والروس والصينيون في الأرجح) الجامدون العمليون إلى كوكب المريخ.
في أي الأحوال، تنتمي المجموعة الحالية من القادة في ألمانيا إلى تقليد قديم يشمل أيضا المستشارين كونراد أديناور (1949-1963)، وهيلموت شميت (1974-1982)، وهيلموت كول (1982-1998). بدأت عملية تمديد خطوط الأنابيب لتحسين العلاقات مع روسيا (أو الاتحاد السوفييتي) في أواخر خمسينيات القرن العشرين، وقوبِـلَـت بالتشكك من جانب الولايات المتحدة منذ ذلك الحين. لكن التعاون الاقتصادي الذي نشأ عن مثل هذه المشاريع كان أيضا الأساس الذي قام عليه انفتاح الاتحاد السوفييتي في عهد ميخائيل جورباتشوف.
لكن فِـكرة أن التجارة تُـفضي إلى السلام، والسلام يُـفضي إلى التجارة، ليست جديدة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، رأى كثيرون من الألمان أن الوحدة الوطنية مرغوبة في المقام الأول بسبب الفوائد الاقتصادية التي قد تجلبها. وكما أوضح أوجست لودفيج فون ريتشاو، وهو الرجل الذي صاغ مصطلح "السياسة الواقعية" في ذلك الوقت، فإن توحيد ألمانيا لم يكن "مسألة عاطفية؛ بل كان من منظور الألمان في الأساس عملا تجاريا بحتا".
بعد قرن من الزمن، خلقت ذات الفلسفة أوروبا الحديثة. بدأ مشروع الاتحاد الأوروبي في أوائل خمسينيات القرن العشرين باعتباره "جماعة" لربط الفحم الألماني وخام الحديد الفرنسي. وكان التكامل الاقتصادي أول خطوة نحو نزع فتيل العداء القديم الذي أدى إلى ثلاثة صراعات كارثية خلال الفترة من 1870 إلى 1945.
في ضوء نجاح هذا المشروع، ليس من المستغرب أن تُـرشِـد ذات التجربة استجابة أوروبا لانهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط الشيوعية. وقد دعا هذا التحدي الجيوسياسي الكبير إلى لفتة كبيرة بذات القدر من جانب أوروبا. كان التنسيق الدفاعي أحد الخيارات (والذي باتت فوائده واضحة عندما نسترجع أحداث الماضي)، لكن الساسة الأوروبيين اختاروا المال والعملة الموحدة ــ اليورو ــ لاستعراض التزامهم تجاه بعضهم بعضا. ولأن هذا المشروع الاقتصادي نجح في دمج أوروبا والحفاظ على السلام بين أعضائها، فمن المفهوم أن يحاول كثير من الأوروبيين تطبيق ذات النموذج على نطاق عالمي أكبر.
الواقع أن إيمان ألمانيا بالترابط الاقتصادي يعكس موقعها الجغرافي. تاريخيا، كان الموقع المتوسط الذي تحتله في شمال أوروبا، مع افتقارها إلى الجبال التي لا يمكن اختراقها وغير ذلك من الحدود الطبيعية الواضحة، سببا في إنتاج نوع من الهشاشة لا تعرفه القوى المنعزلة الواقعة على المحيط مثل المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة. فمن السهل أن تتقدم الجيوش عبر سهل مفتوح بقدر ما يسهل على التجار استخدام الطرق الساحلية والبرية للربط بين الناس. وعلى هذا فقد كان الألمان دوما منجذبين بين مارس (إله الحرب) وعطارد (إله التجارة). يعني هذا التأطير بين "إما أو" ضمنا أن كل شيء سيعتمد على الاقتصاد إذا أصبحت الحرب احتمالا غير وارد. لكن العكس أيضا صحيح؛ فإذا تعثرت قصة التنمية، تصبح العودة إلى الصراع أكثر ترجيحا.
برغم أن الحرب في أوكرانيا كانت مدمرة، فإن الاستجابة لها بالحظر المالي وحظر الطاقة، وليس التصعيد النووي، تشكل في حد ذاتها انتصارا للبشرية. حتى الآن، كان التدمير المادي الشديد القسوة محصورا في دولة واحدة. وعلى هذا فإن الحرب تنطوي على دروس مهمة لمن يفكر في الكيفية التي ينبغي بها لأوروبا ــ وأميركا ــ أن تستجيب للصين. هل ينبغي للمخاوف من تكرار الأخطاء التي ارتُـكِـبَـت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن توجه استراتيجية التعامل مع شي جين بينج، أو أن الاستمرار في التعامل مع الصين يقدم أفضل فرصة لكبح جماح روسيا؟ بما أن الإجابة ليست واضحة بأي حال من الأحوال، فلا ينبغي للأوربيين أن يعتذروا عن إجراء مثل هذه الحسابات الاستراتيجية.
في وقت سابق من هذا العام، عندما احتفل كبار الساسة وصناع الرأي بالذكرى المئوية لميلاد هنري كيسنجر، أكدوا على حقيقة مفادها أن كيسنجر ــ وواقعيته الأصيلة ــ كان مُـنـتَـجا ألمانيا أميركيا مشتركا ساهم بشكل حاسم في تشكيل ألمانيا الديمقراطية المستقرة. وكانوا محقين في الاحتفال بتلك المناسبة. فقد صاغ كيسنجر نموذجا قادرا على تحقيق نتائج قوية وعظيمة الفائدة ــ حتى وإن كان يحمل في طياته دوما احتمال الفشل.
كانت السياسة الألمانية الأوروبية "المعيبة" السابقة رهانا على العولمة، والعولمة دائمة التغير. ورغم أنها ستستمر دون شك في التطور في اتجاهات جديدة وغير متوقعة، فإن هذا ليس سببا لرفض فكرة أن الاتكالية المتبادلة تدعم غالبا السلام والرخاء.