بي بي سي وأفول القوة الناعمة البريطانية
هكذا كتمت السياسة المحلية صوت البلاد
اندبندنت عربية
2023-08-17 05:46
بقلم: سايمون جى. بوتر
تبلغنا أحياناً الأخبار الأكثر موثوقية أثناء حرب أهلية من أماكن بعيدة جداً. ومع تحول السودان إلى منطقة نزاع في أبريل (نيسان) الماضي، أطلقت خدمة "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) العالمية "نافذة" إخبارية طارئة لمد المستمعين المحليين بتفاصيل الوضع المتدهور في البلاد، إذ قدمت نشرات باللغة العربية من لندن وعمان والقاهرة. وسخرت القناة الإخبارية العالمية التقنيات القديمة والجديدة جنباً إلى جنب مع راديو الموجات القصيرة، وهو الوسيلة المفضلة للمذيعين الدوليين منذ عشرينيات القرن الماضي، بالتزامن مع تغطية إخبارية على قنوات الوسائط الرقمية والاجتماعية.
كان الهدف، طبقاً لما قاله مدير الخدمة العالمية، هو تقديم "معلومات ومشورة واضحة ومستقلة في وقت الحاجة الماسة. "إن لغة كهذه مبنية، ربما عن غير وعي، على غرور يعود تاريخه لعشية الحرب العالمية الثانية، ويتمثل في [الاعتقاد] أن هيئة "بي بي سي" تقدم لجمهورها العالمي أخباراً واضحة وجديرة بالثقة. ووصف الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كوفي عنان الخدمة العالمية هذه World Service فعلاً في عام 1999 بأنها "ربما تكون أعظم هدية بريطانية للعالم في هذا القرن".
تبث الخدمة العالمية حالياً بأكثر من 40 لغة، وتصل إلى ما يقدر بـ365 مليون شخص كل أسبوع من خلال المنابر الإذاعية والرقمية. وتشغيلها من أكبر محطة إذاعية للخدمة العامة في المملكة المتحدة. وإن الـ"بي بي سي"، من الناحية النظرية في الأقل، مستقلة عن التدخل الحكومي اليومي، وهي مصانة بموجب ميثاق ملكي يجعلها مسؤولة أمام البرلمان البريطاني وليس أمام وزراء أو مسؤولين في الحكومة. وتمولها بشكل أساسي من خلال رسوم رخصة التلفزيون. ويلزم القانون كل شخص في المملكة المتحدة يشاهد برامج الـ"بي بي سي"، سواء كانت تبث مباشرة أو عبر الإنترنت، بدفع هذه الرسوم.
تعلن الـ"بي بي سي" اليوم أن عدداً غير مسبوق من الناس في أنحاء العالم يقبلون على أخبارها. وتفيد بعض التقديرات بأن عدد جمهورها العالمي يزيد على 500 مليون إنسان. وتحظى الخدمة العالمية بحصة الأسد من هذا الجمهور. وفي وسعها الزعم، وهو زعم له ما يبرره، أنها إحدى الوسائل التي تتيح للمملكة المتحدة الاحتفاظ بدور ضخم في حياة الناس في أنحاء العالم.
ومع ذلك، وعلى رغم أهميتها الواضحة في وقت تشهد التوترات الدولية قدراً من التصعيد، وجدت الخدمة العالمية نفسها أخيراً في وضع مالي خطر. وفي سبتمبر (أيلول) عام 2022، أعلنت "بي بي سي" تقليص كبير في الخدمة العالمية، مع الخسارة المتوقعة لحوالى 400 وظيفة، علاوة على توقف خدمات البث الإذاعي (فيما ستستمر في تقديم المحتوى الرقمي) في مجموعة من اللغات الآسيوية. في يناير (كانون الثاني)، أنهت الخدمة العالمية بثها باللغة العربية، الذي كان يوجه إلى المستمعين منذ 85 عاماً. وفي ضوء ذلك، يبدو أن توفير تغطية على وجه السرعة للسودان اعترافاً بالضرر الناجم عن عمليات الخفض الأخيرة أكثر منه علامة على قوة الخدمة العالمية.
إن الخدمة العالمية سريعة التأثر بمثل هذه التخفيضات لأن الحكومة البريطانية أو هيئة الإذاعة الحكومية لا تتولى إدارتها، بل تمسك بمقاليدها "بي بي سي"، وهي المنظمة نفسها التي تزود الجمهور المحلي البريطاني بأنواعه كثير من الأخبار والمحتوى الترفيهي. يتيح هذا للخدمة العالمية الاستفادة من موارد تقنية ضخمة واحتياطات كبيرة من المواهب فضلاً عن سمعة "بي بي سي" المشهورة ببث أخبار صادقة وجديرة بالثقة. ومع ذلك، فإن التشابك القائم بين البث الدولي والمحلي يترك الخدمة العالمية عرضة للأذى. لقد أدى العداء تجاه الـ"بي بي سي" في أوساط مجموعات معينة في الحياة العامة البريطانية، ولاسيما في حزب "المحافظين" الذي حكم البلاد منذ ما يزيد على عقد من الزمن، إلى فرض قيود كبيرة على تمويل خدمة البث العامة. ونظراً إلى أن هيئة الإذاعة البريطانية نفسها تدفع حالياً شطراً كبيراً من مصاريف الخدمة العالمية، فإن محاولات تقليص التمويل الإجمالي للـ"بي بي سي" كان لها تأثير غير مباشر لجهة إلحاق ضرر بالخدمة العالمية. إن خصوم الـ"بي بي سي" المحليين يعرضون إحدى الأدوات البارزة من أدوات القوة البريطانية الناعمة للخطر، وهم على ما يبدو غافلين عن العواقب الدولية لحملتهم ضد هذه الهيئة الإذاعية.
خدمة العالم
كانت العلاقة بين "بي بي سي" والحكومة البريطانية على الدوام علاقة معقدة وملتبسة، إذ إن الهيئة الإذاعية مستقلة نظرياً عن الدولة، ولكنها في كثير من الأحيان تتعاون معها. تأسست "بي بي سي" منذ أكثر من قرن من الزمان ومنحت من الدولة حق احتكار البث بالكامل في المملكة المتحدة. ومنحت صلاحية هذا الاحتكار، الذي استمر حتى عام 1955، لأسباب محلية، بما في ذلك الرغبة في تجنب المنافسة مع الصحافة المقروءة ومع [إذاعات] تتزاحم على موجات الأثير بشكل مشوش في حال من الفوضى غير المنظمة على الطريقة الأميركية. وإن إنشاء مثل هذه الهيئة الإذاعية القوية في الوطن أتاح للبلاد في وقت لاحق بأن تبلي بلاء جيداً وبسط نفوذ أكبر في ميدان الإذاعة العالمية. ومنذ تأسيسها في عام 1932 تاريخ أول بث دولي منتظم لها على شكل هيئة "الخدمة الإمبراطورية"، أصبحت الـ"بي بي سي" الصوت الوحيد للمملكة المتحدة الذي يصل إلى مستمعي الراديو في الخارج.
وغالباً ما كان هناك تشاور وثيق في مجال البث الدولي دار وراء الكواليس بين "بي بي سي" والحكومة. على سبيل المثال، جندت وزارة الخارجية الـ"بي بي سي" للبث باللغة العربية للمستمعين في الشرق الأوسط في أوائل عام 1938 وذلك لمكافحة الدعاية باللغة العربية التي كانت تطلقها إيطاليا الفاشية. في العام نفسه، بدأت الـ"بي بي سي" البث بمجموعة من اللغات الأوروبية، وذلك بالتشاور الوثيق مرة أخرى مع وزارة الخارجية، للرد على الدعاية التي تبثها النازية عبر الراديو وعلى طموحات هتلر الإقليمية. وشهد اندلاع الحرب في أوروبا توسعاً هائلاً في خدمات اللغات الأجنبية في الـ"بي بي سي"، بتمويل مباشر من الدولة البريطانية. واستطاع هؤلاء اجتذاب جمهور كبير في أنحاء الأراضي المحتلة والأراضي المعادية، وبحلول عام 1944، قدر جهاز الشرطة السياسية الألماني (غستابو) أنه كان لدى الـ"بي بي سي" 15 مليون مستمع في ألمانيا النازية. وفي فترة الحرب الباردة، واصلت الـ"بي بي سي" لعب دور المقاول [غير المعلن] للحكومة البريطانية، إذ بثت في 19 لغة مختلفة بحلول عام 1946، بما في ذلك خدمة روسية جديدة. وفي هذه المرحلة، لم تعد "الخدمة الإمبراطورية" موجودة، وكانت الـ"بي بي سي" تدير طائفة واسعة مما يسمى بالخدمات الخارجية، التي اشتغل فيها كلها أكثر من ربع موظفي "بي بي سي".
لابد أن المستمعين في دول الكتلة الشرقية، على مستوى ما، عرفوا أن خدمات اللغات الأجنبية المتنوعة التي تقدمها الـ"بي بي سي" كانت أدوات للتأثير البريطاني الدولي. وعلى رغم هذا، فقد اعتبرها كثيرون أفضل مصدر متوفر للأخبار: حتى وإن لم تكن الـ"بي بي سي" مستقلة تماماً عن الحكومة البريطانية، فإن عديداً من المؤسسات الإذاعية الأخرى كانت تخضع إلى السيطرة المباشرة للدولة، وكان تأثير تدخل الدولة في محتوى خدماتهم الإخبارية في معظم الأحيان واضحاً.
ساعد استقلال الـ"بي بي سي" الصوري في دعم مزاعمها بالحياد والصرامة. كما أسهمت في ذلك حقيقة أن الـ"بي بي سي" كانت تبث أيضاً للمستمعين المحليين في المملكة المتحدة وتتمتع بثقة هذا الجمهور المحلي بشكل عام. ولم يؤسس سوى عدد قليل من البلدان الأخرى محطة بث واحدة لتنفيذ جميع أعمالها الإذاعية المحلية والعالمية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، قامت الهيئات الإذاعية التي تمولها الدولة مثل صوت أميركا وراديو أوروبا الحرة بالمهمة التي تتمثل في محاولة اختراق الستار الحديدي للوصول إلى جمهور دول الكتلة الشرقية، بدلاً من [إسناد هذا الدور إلى] الكيانات التابعة لشبكات الراديو والتلفزيون المحلية. ولم يتمتع نظراء الـ"بي بي سي" [في دول أخرى] على الإطلاق بين جماهيرهم بذات القدر من الثقة التي حظيت به هي.
وأقام أولئك الذين يديرون الخدمة العالمية، على امتداد الحرب الباردة وفي العقود التي تلتها، توازناً بين رغبتهم في خدمة مصالح وأجندات السياسة الخارجية البريطانية وبين الحاجة إلى الاحتفاظ بثقة الجمهور. وشددوا على أهمية تمتع هيئة التحرير في الـ"بي بي سي" بالاستقلالية، واقتضى هذا أن يكون موظفو "بي بي سي" في نهاية المطاف هم من يقررون ما يذاع على الهواء، حتى ولو كان المسؤولون الحكوميون قدموا لهم المعلومات والنصائح [بشأن المحتوى الذي يجري بثه]. استخدمت الخدمات الخارجية في الـ"بي بي سي" لتعريف المستمعين في دول الكتلة الشرقية بديناميكية الديمقراطية والجدال في الغرب، وللتشكيك بمهارة ودقة في السياسات الشيوعية وزرع الشقاق بين الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له.
ولقد لعبت الـ"بي بي سي" دوراً رئيساً في إبقاء مستمعي الكتلة الشرقية على اطلاع دائم بما كان يجري [في دولهم] خلال أزمة الحرب الباردة، مثل انتفاضة المجر في عام 1956، عندما أصبحت الأخبار الصادرة من لندن أجدر بالثقة [بين المستمعين في دول الكتلة الشرقية] من أية وسيلة إعلام محلية. في عام 1988، أطلق على الخدمات الخارجية تسمية جديدة لتصبح الخدمة العالمية، ولعبت في صيغتها هذه دوراً مهماً في تغطية نهاية الشيوعية في أوروبا. وعندما سُجن ميخائيل غورباتشوف في منزله الريفي في القرم أثناء محاولة الانقلاب في الاتحاد السوفياتي في عام 1991، عمد إلى متابعة الأحداث التي كانت تشهدها موسكو من معتقله بالاستماع إلى الخدمة العالمية عن طريق راديو يعمل على الموجة القصيرة.
التشابكات المحلية
لم تعمل الخدمة العالمية على الدوام بيسر وسلاسة، كان لجمع خدمة البث العامة المحلية البريطانية والإذاعة الدولية في منظمة واحدة عيوبه. وبشكل حاسم، أدى هذا الترتيب إلى جعل الخدمة العالمية عرضة للخطر في مناسبات مهمة من جانب السياسيين البريطانيين الذين يسعون إلى شن حرب على الـ"بي بي سي". مثلاً، هدد أنتوني إيدن رئيس الوزراء بقطع التمويل عن "الهيئة" ووضع هيئة "الخدمة العالمية" تحت السيطرة الحكومية المباشرة، وذلك بسبب الغضب الذي انتابه نتيجة لتغطية الـ"بي بي سي" لأزمة السويس في عام 1956. بعد ذلك، راح رؤساء وزراء آخرون يخفضون التقديمات المالية التي تقدمها وزارة الخارجية للـ"بي بي سي"، حتى في خضم الحرب الباردة، الأمر الذي أجبرها على إغلاق أو تقليص بعض خدماتها باللغات الأجنبية. وأدى انهيار الشيوعية إلى مزيد من عمليات التقليص، إذ إن أحد الأسباب الرئيسة لتمويل البث الدولي زال.
بيد أن "الخدمة العالمية" أعادت توجيه نفسها على نحو جيد جداً من أجل المساعدة في تحقيق الأجندات البريطانية الدولية في أعقاب الحرب الباردة. وقدمت الخبرة والبرمجة لدعم مجموعة من وسائل الإعلام الديمقراطية المحلية إضافة إلى مبادرات خاصة بالتعليم وببناء المجتمع في أنحاء الكتلة الشرقية السابقة وفي الجنوب العالمي. لقد أنشأت قنوات تلفزيونية عالمية، ووفرت في وقت لاحق خدمات عبر الإنترنت للوصول إلى جماهير جديدة واستغلال المنصات الإعلامية الجديدة. وبعد الهجمات الإرهابية في عام 2001 وما تلاها من حملات بقيادة الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق، ركزت الخدمة العالمية كثيراً من طاقاتها على الوصول إلى الجماهير في كل أنحاء الشرق الأوسط وأفغانستان، مما كان يعكس الأولويات المتغيرة للحكومة البريطانية.
ومع ذلك، لم تستطع الخدمة العالمية عزل نفسها عن موجة جديدة من العداء المحلي لـ"بي بي سي". ففي العقود الأخيرة، سعت تكتلات وسائل الإعلام الخاصة إلى إضعاف موقع خدمة البث العامة في المملكة المتحدة. ويعتقد بعض الشخصيات السياسية من أعضاء جناح اليمين في السياسة البريطانية أن هيئة "بي بي سي" جعلت المساحة [المتاحة أمام] المؤسسات الخاصة في صناعة الإعلام البريطانية محدودة، بينما أظهرت أيضاً تحيزاً سياسياً متأصلاً في برامجها المحلية إلى جانب اليسار. وتعاظمت حدة هذه الهجمات بدءاً من عام 2010، مدفوعة بطائفة من المجموعات السياسية والتجارية التي أرادت وضع الـ"بي بي سي" عند حدها وتقييدها أو إلغائها نهائياً، ويبدو أن هذه المجموعات ليست معنية كثيراً بكيفية تأثير ذلك في الخدمة العالمية والقوة الناعمة البريطانية.
وفي ذلك العام، فرضت حكومة الائتلاف، [التي شكلها] المحافظون والديمقراطيون الليبراليون بقيادة ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء [المحافظ]، تسوية مالية جديدة صارمة على الـ"بي بي سي". وفي إطار إجراءات التقشف التي صممت لتقليص الإنفاق العام، أوقفت المنحة الحكومية التي مولت البث الدولي للـ"بي بي سي" منذ الحرب العالمية الثانية، اعتباراً من أبريل 2014. واعتقد عديد من المراقبين أن هذه الخطوة كانت ذات دوافع سياسية وتعكس عداء المحافظين الراسخ تجاه الـ"بي بي سي" [المحلية] في الوطن. وكانت النتيجة جولة من عمليات الخفض الواسع للغاية في "الخدمة العالمية"، التي اضطرت حتى إلى الخروج من مقرها التاريخي في بوش هاوس بلندن وحشر نفسها في مقر الأخبار المحلية للـ"بي بي سي" في برودكاستينغ هاوس. وبدا بالنسبة إلى للمطلعين وغير المطلعين على حد سواء، أن [هذه التطورات] هي علامة على نهاية حقبة وضياع قدر كبير من المكانة [بالنسبة إلى الـ"بي بي سي"].
ومنذ ذلك الحين، قتر التمويل على "الخدمة العالمية" وصارت المبالغ بالكاد تكفي لتعيش على أساس الحد الأدنى من الكفاف من خلال أقساط عرضية من التمويل الحكومي. لا يمكن للمديرين الاعتماد على هذا [التمويل] للاستمرار، واتكال الـ"بي بي سي" على تلقي هذه الدفعات يهدد بالتقليل من استقلاليتها اليومية عن الحكومة. وفي عام 2015، حولت الأموال على عجل إلى "الخدمة العالمية" من صندوق مساعدات التنمية الرسمي التابع لوزارة الخارجية والكومنولث والتنمية، من أجل دعم الخدمات باللغتين العربية والروسية، واستهداف مناطق ذات أهمية جيو استراتيجية حاسمة في أفريقيا وآسيا.
تجديد القوة الناعمة
يبدو أن الحكومة البريطانية مترددة بين عدائها لـ"بي بي سي" في الداخل وبين إدراكها أن الخدمة العالمية تقدم أداة رئيسة للقوة الناعمة العالمية للمملكة المتحدة، ووسيلة تساعدها في الاحتفاظ بأهميتها المركزية في التأثير في كيفية تصور عديد من المستمعين للعالم وتسهم في الترويج بمهارة وجهات النظر البريطانية حول الشؤون الدولية. وكانت النتيجة [تقديم] إعانات حكومية متفرقة على مضض في حالات الطوارئ لمواجهة الأزمات الدورية، الأمر الذي يبقي الغموض مهيمناً بشأن المستقبل. وعلى سبيل المثال، من أجل دعم هدف الـ"بي بي سي" المتمثل في نشر أخبار صادقة وموثوقة للجمهور العالمي، وهو أمر بالغ الأهمية في عصر "الأخبار الكاذبة" والدعاية الروسية والصينية، قدمت الحكومة في عام 2021 للخدمة العالمية دفعة لمرة واحدة بقيمة 8 ملايين جنيه استرليني (حوالى 10 ملايين دولار)، وذلك لتمويل مبادرات لمكافحة المعلومات المضللة.
وفي عام 2022، وفرت الحكومة 4.2 مليون جنيه استرليني (حوالى 5 ملايين دولار) كتمويل في حالة طوارئ بغية تعزيز خدمات الـ"بي بي سي" التي تستهدف عامة الناس في كل من روسيا وأوكرانيا. وأعادت الـ"بي بي سي" تنشيط خدمات الإذاعة على الموجات القصيرة لضمان وصول الأخبار الواردة من مصادر بريطانية إلى المستمعين في روسيا وأوكرانيا في وقت قد تغلق وسائل الإعلام المحلية المستقلة، وتقويض البث والبنية التحتية للإنترنت، وفرض ستار "حديدي" من أجل منع الأخبار الرقمية الأجنبية [من دخول البلدين]. وفي مارس، نجحت الخدمة العالمية في تأمين دفعة حكومية أخرى لمرة واحدة قدرها 20 مليون جنيه استرليني (نحو 26 مليون دولار) للمحافظة على خدمات اللغات الأجنبية المعرضة للخطر لمدة عامين آخرين.
وفي بداية هذا العام، ناقش رئيس مجلس إدارة الـ "بي بي سي" (الذي استقال منذ ذلك الحين بعدما أثير جدل حول صلاته برئيس الوزراء السابق بوريس جونسون) ما إذا كان على الدولة استئناف دورها التاريخي في توفير التمويل الكامل للخدمة العالمية. وادعى أن هذا وحده سيسمح لـ"بي بي سي" بالمنافسة في كل من "الحرب الباردة للمعلومات" و"المعركة من أجل النفوذ العالمي" الجديدتين، في مواجهة حملات الدعاية والتضليل الروسية والصينية الضخمة. ويبدو أن هذا الأمل ميؤوس منه في ضوء العداء الحكومي المستمر لـ"بي بي سي" والهجوم الأوسع على خدمة البث العامة في المملكة المتحدة.
قد يكمن أحد الحلول [المحتملة للمشكلة] في قطع الروابط التي تشد البث البريطاني المحلي والدولي إلى بعضهما بعضاً، وسلخ الخدمة العالمية لتصبح منظمة منفصلة تمولها الدولة مباشرة. يمكن لمثل هذا الفصل أن يجعل البث الدولي أقل عرضة للضغوط السياسية المحلية. ولكن يكاد يكون من المؤكد أنه سيضعف جاذبية هاتين الخدمتين للمستمعين العالميين. لا يزال اسم العلامة التجارية لـ"بي بي سي" وسمعتها في ما يتعلق بالصدق من الميزات الرئيسة. وإن إبقاء الخدمة العالمية تحت مظلة الـ"بي بي سي" يصون مكانتها كصوت مستقل يعكس التعددية الديمقراطية البريطانية. وإذا صارت تحت السيطرة الحكومية المباشرة، فقد تبدو بدلاً من ذلك أنها ببساطة أحد أجهزة الدعاية في الدولة، أو مجرد نسخة بريطانية طبق الأصل من "صوت أميركا". ومن المؤكد أن انتشارها وتأثيرها العالميين سيتراجعان.
يبدو من المرجح، على المدى القصير، أن تستمر الخدمة العالمية في العمل بشكلها الحالي، بالاعتماد على التمويل غير المنتظم، الذي يوفر خصيصاً لغاية محددة، من حكومة غير مقتنعة باستدامة أو جاذبية بث الخدمة العامة. في نهاية المطاف، قد تنفذ الحكومة إصلاحاً جذرياً بالكامل للبث البريطاني، يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على الخدمة العالمية. أو ربما يستمر الاضطراب الحالي، مما سيلحق مزيداً من الضرر بقوة بريطانيا الناعمة ونفوذها العالمي الذي يتضاءل سلفاً في أعقاب خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي.
وبفضل الخدمة العالمية، وتوزيع الـ"بي بي سي" التجاري العالمي للمحتوى على نطاق أوسع، تواصل المملكة المتحدة القيام بأكثر مما يتوقع منها في الساحة الإعلامية العالمية. إن القوة الناعمة الناجمة عن ذلك هي بالتأكيد أكثر أهمية حالياً منها في أي وقت مضى، في حين يرصد حلفاء المملكة المتحدة ومنافسوها على حد سواء الموارد في سبيل كسب القلوب والعقول. وإن قيام صانعي السياسة البريطانيون، عن قصد أو غير قصد، بتدمير ميزات الثقة وحسن النية التي كانت أساسية للحفاظ على صوت بلادهم على المسرح الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، من شأنه أن يكون واحداً من أعمال التخريب الذاتي.