النظام الدولي والخيارات الخليجية
بين الأحادية القطبية والمشاريع الصاعدة
مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات
2023-05-17 05:29
يمر النظام الدولي بفترة مفصلية أشبه ما تكون بالمرحلة الانتقالية، نتيجة عدد من المتغيرات العالمية على رأسها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والانسداد في كثير من الملفات الدولية، وتراجع النظام الاقتصادي العالمي، الأمر الذي يجعل العالم في ترقب لمآلات هذه الأحداث وانعكاساتها على مستقبل النظام الدولي، بحيث قد تؤدي إلى تغير شكله الحالي من الواحدية، إلى شكل آخر يقترب من التعددية القطبية. في ظل هذه التغيرات تبقى دول الخليج في حالة من التقرب والاستعداد لنتائج هذه الأحداث، مع الموازنة في خيارات التعامل بين النظام الدولي الحالي والقوى الصاعدة.
يبحث تقدير الموقف في مؤشرات التغير العالمي وأثرها على النظام الدولي، وأهمية الخليج في النظام الدولي، ودوافع وتحديات التعامل مع الشكل التعددي المحتمل للنظام الدولي الجديد.
أولاً: مؤشرات التغير العالمي
الولايات المتحدة: بين التشتت الخارجي والضعف الداخلي
منذ تفكك الاتحاد السوفييتي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأول في العالم، وبات العالم خاضعاً للهيمنة الأمريكية، ولا سيما منطقة الخليج باعتبارها أكبر منتج للنفط، لكن، وبعد تخفيض الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، شعرت دول الخليج بأنَّ هذا قد يعد تخلياً عن التعهدات الأمريكية تجاه أمن حلفائها، رافق ذلك توجه الولايات المتحدة الأمريكية نحو الشرق، للتخوف من تنامي المشروع الصيني كقوة دولية منافسة، ودعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا، وقد كان من المفترض أن تعيد زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” للسعودية في مايو 2022 ترتيب ملف العلاقات الخليجية الأمريكية، لكن يبدو أن ثمة تشتتاً ملحوظاً في الأولويات السياسية للولايات المتحدة.
يرافق هذا التشتت الخارجي تراجع سمعة أمريكا الأخلاقية، بفعل سياستها المتخبطة في ملفات الحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان والعراق، وعملياتها العسكرية في اليمن وباكستان والصومال، وفضائح سجون أبو غريب وغوانتانامو وباغرام، مما انعكس سلباً على سمعة أمريكا الداخلية والخارجية، هذا بالإضافة إلى الضعف الاقتصادي الذي تمر به، إذ تستمر حصيلة البنوك الأمريكية المنهارة لتعادل ثلاثة بنوك في أقل من شهرين، بالإضافة إلى الحديث عن أزمة بنكية قد تصيب الاقتصاد الأمريكي بالركود في العام الحالي، مع ارتفاع مستوى التضخم والدين العام ونسب البطالة. هذا التشتت والضعف للقوة العالمية الأولى في العالم قد ينذر بحالة من التغير في ملامح النظام الدولي.
توسع منظمة “شنغهاي” وتحالف (البريكس)
تسعى منظمة “شنغهاي” للتعاون منذ تأسيسها في يونيو 2001م إلى دعم تعددية النظام الدولي، وينظر إليها الغرب بمثابة حلف دولي جديد في مواجهة حلف شمال الأطلسي، وتعد المنظمة أضخم تحالف سياسي في العالم، إذ يشكل أعضاؤها ما يقرب من نصف العالم، خصوصاً بعد انضمام السعودية وإيران إليها، وهذا التوجه يوضح الرغبة الصينية والروسية في توسيع أشكال التحالفات السياسية، أملاً في تكوين فواعل دولية جديدة.
كما تدير الصين مجموعة “بريكس” وهي تضم خمسة اقتصادات ناشئة، وهي: الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، وتدرس الصين انضمام السعودية وإيران والجزائر والإمارات والبحرين؛ لتكون بذلك منافساً لمجموعة الدول السبع التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وتضم بريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا وإيطاليا واليابان، بناء عليه، من المتوقع تراجع الكتلة التي تقودها أمريكا بحلول العام 2028، وأن تشكل مجموعة السبع 27.8 في المائة من الاقتصاد العالمي، فيما ستشكل بريكس 35 في المائة. ويبدو أن كثيراً من الدول ترى في هذا الشكل الاقتصادي متنفساً لها بعد عجز النموذج الغربي عن تقديم حل للمشكلات الاقتصادية العالمية، وإجبار الدول على تبني نموذج واحد للتنمية والسياسة المالية. وهذا التنامي الصيني والروسي في توسيع التحالفات السياسية والاقتصادية بالتزامن مع التراجع الغربي من المتوقع أن يكون له أثره المباشر على شكل النظام العالمي الجديد، فمن خلال تنامي هذه المنظمات يتراكم وعي عالمي مغاير للشكل الحالي للنظام الدولي.
تنامي الحضور الصيني في المنطقة
تتنوع المشاريع الصينية في المنطقة ما بين مشاريع اقتصادية وثقافية وبوادر مشاريع سياسية وأمنية، تسعى من خلالها الصين لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، المتمثلة في الحد من الاحتكار الأمريكي للمنطقة، وموازنة الحضور الغربي، وإيصال رسائل ناعمة للتشكيك في جدية الموقف الغربي، وتحميله بطريقة غير مباشرة مسؤولية الأزمات التي تعيشها المنطقة، وتسويق الصين بأنها تسعى لتعزيز السلام العالمي، وعلى المستوى الإقليمي تهدف الصين إلى الاستفادة من الأهمية الاقتصادية والسياسية لدول الخليج، ومحاولة كسب ثقة الأطراف الإقليمية المتناقضة، سعيًا لتبني مواقف سياسية لتسوية أزمات المنطقة.
بناء على ذلك، نجحت الصين في كسب رضى بعض المشاريع الإقليمية خصوصًا المتصارعة، كالمملكة العربية السعودية وجمهورية إيران، ورعت الاتفاق الموقع بين الدولتين في السادس من إبريل/ نيسان الماضي، ويعد هذا الاتفاق بمنزلة الإعلان الأول للحضور الصيني الأمني في الشرق الأوسط، وهو أول تدخل منفرد لترتيب ملفات المنطقة من قبل قوة كبرى غير الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة 1990، كما يعد تجاوزاً صينياً للملفات الاقتصادية إلى الملف الأمني الذي كان مسؤولية أمريكية حصرية. ويأتي هذا الاتفاق أيضاً في إطار تفعيل مبادرة الأمن الدولي التي أطلقتها الصين، ورغبتها في المحافظة على المصالح الصينية مع القوى النفطية في المنطقة. ويبدو أنَّ بكين حريصة على تسويق الدبلوماسية الصينية بأنها تعتمد الأدوات الأكثر استقراراً، مقارنة بالدور الأمريكي الذي تصفه بالعسكري، وهذا الأمر سيتيح للصين حضورًا سياسيًا في النظام الدولي القادم.
الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات الاستقطاب الدولي الحاد
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 يعيش العالم استقطاباً حاداً فرضته تداعيات الحرب وانعكاساتها على الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري، إذ يتضح من تداعيات الأحداث أنها حرب بالوكالة بين روسيا والغرب، فكما تسعى الإدارة الأمريكية إلى كبح التطلعات الروسية، فقد عززت الحربُ القناعاتِ الروسية بضرورة خروج النظام الدولي من شكله الحالي، باعتبار أمريكا مصدر تهديد وجودي لروسيا، وعليه، فإنَّ لهذه الحرب انعكاساتها على الواقع الدولي، فالصين ترى أن الاستنزاف الغربي في أوكرانيا سيكون لصالحها، كما ساعدت هذه الأحداث تركيا في تحسين موقعها الجيوسياسي، ووثقت الحرب العلاقات الروسية الإيرانية، في المقابل أظهرت دول الخليج سياسة مرنة في التعاطي مع الأحداث، فضلت من خلالها البقاء على الحياد، والتصرف في مواردها بما تمليه المصلحة الداخلية وإن تعارضت مع بعض أطراف الحرب، وهو موقف استثنائي انتهجته دول الخليج ربما يعود لإدراكها أنَّ ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية لن يكون كما قبلها.
الانسداد السياسي في ملفات الصراع الدولية
تواجه كثير من الملفات الدولية الكبرى حالة من الانسداد السياسي، بعد العجز عن التوصل لتسوية بين الأطراف المتنازعة، يصاحبه تحشيد عسكري من أطراف النزاع واستقطاب دولي حاد، ومن أهم هذه الملفات:
– ملف “تايون”، الذي تتصاعد حوله التوترات العسكرية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وهناك استعداد من الطرفين لخوض معركة قادمة، وقد نشرت مجلة إيكونوميست الأمريكية، أن هناك استعدادات أمريكية وصينية للحرب في تايون، خصوصاً مع رفض الصين قرار المحكمة الدولية، والذي يرى أن المطالبة الصينية ببحر الصين الجنوبي ليس لها أساس قانوني، والسعي الصيني التدريجي لإحكام السيطرة على “بحر الصين الجنوبي”.
– التوتر بين الكوريتين، إذ تتهم الصينُ الولاياتِ المتحدة الأمريكية باستثمار التوترات الكورية في تعزيز تحالفها المناهض لبكين، وفي الوقت الذي تعزز فيه أمريكا علاقتها بكوريا الجنوبية تتطلع الصين إلى مستوى أعلى من العلاقات مع كوريا الشمالية، وتحتفظ الكوريتين بتاريخ ملئ بالصراع والحرب والانقسام، تعيش معه حالة من الاحتقان العسكري المصحوب بالتهديدات والمناورات، تغذيه حالة الاستقطاب الدولي بين أمريكا من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
– على المستوى الروسي، تشهد العلاقات الروسية اليابانية تأزماً فيما يتعلق بجزر “الكوريل” التي سيطرت عليها روسيا أعقاب الهزيمة اليابانية في الحرب العالمية الثانية، ولا تعترف اليابان بالسيادة الروسية على “كوريل”، وتطالب بدعم من أمريكا باستعادة السيادة على الأرخبيل، ومؤخراً انضمت اليابان للعقوبات الغربية ضد روسيا، كما أعلنت روسيا إلغاء مفاوضات السلام مع اليابان بشأن الجزر.
تراجع عملية التطبيع وتنامي المشاريع الإقليمية في المنطقة
يستثمر الكيان الإسرائيلي في الخطر الإيراني على دول الخليج من جهة، وتقليص أمريكا لعناصرها ومعداتها في المنطقة من جهة أخرى؛ ويسعى لتقديم نفسه على أنه صمام أمان للمنطقة؛ لأن ذلك في نظره يمكن أن يعزز فرص التقارب بينه وبين الدول الخليجية، وخصوصاً السعودية؛ لأن التطبيع معها سيخلق أكثر من فرصة؛ نظراً لمكانة السعودية العربية والإسلامية، ولهذا يُراد للتطبيع أن يتجاوز البعد السياسي إلى التحالف العسكري والأمني، وإدماج الكيان الإسرائيلي في المنطقة، لكن يبدو أن ثمة تراجعاً في مشروع التطبيع، بفعل الشروط التي تتمسك بها الدول العربية المستهدفة، إضافة إلى توجهات بعض الدول الإقليمية كالسعودية وتركيا إلى تحقيق الاكتفاء الأمني الذاتي، وهذا الأمر قد يُضعف مستقبلاً عملية الارتهان الكلي على القوى الدولية.
بناء على ذلك، يظهر أنَّ هناك حالة من الانسداد في كثير من الملفات الدولية، ووصولها إلى ذروة التصعيد السياسي والاستقطاب الدولي الحاد، الذي قد يؤدي لمواجهات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، أو الدخول في تحشيد سياسي وعسكري يؤدي إلى توازن الرعب، وكلا الاحتمالين قد يعيد تشكيل النظام الدولي بطريقة مغايرة عما هي عليه الآن.
ثانياً: أهمية الخليج في النظام الدولي
أهمية الخليج السياسية
تتمتع منطقة الخليج بأهمية سياسية كبيرة، وقد عُرفت سابقاً بأنها الطريق الحيوي للبريطانيين والشريان الذي يربط بين أوروبا وآسيا براً وبحراً وجواً، كما تقع على الحدود ما بين المنطقة العربية والفارسية، وتعد مركزاً للمشرق العربي، وتشرف على مجموعة مائية كبيرة من المحيطات والبحار والممرات البحرية، وتتوسط الخطوط البحرية الرئيسة، وتستقل بأهم دور العبادة، وتتميز بتعدد المصادر الطبيعية والمعدنية وتنوع المناخ، كما ترتبط أهمية دول الخليج بمضيق هرمز الذي يعد أهم المضائق المائية العالمية، وهو خاضع لقواعد المرور الدولية، بإشراف إقليمي عماني إيراني. هذه الأهمية جعلت من دول الخليج ساحة تنافس دولي، في الماضي، بين البريطانيين والفرنسيين، ثم في إطار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ومؤخراً بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، حيث لا يمكن لأي قوة كبرى أن يكون لها حضور دولي بارز ما لم يكن لها نفوذ في هذه المنطقة.
الأهمية الاقتصادية للخليج
تعد منطقة الخليج أكبر منتج للنفط، وتمتلك أكبر مخزون احتياطي للنفط والغاز، وتضم عدداً من الموانئ ومحطات الوقود لوسائل النقل الكبرى كالطائرات والسفن والمركبات الدولية، وتحظى بأهمية اقتصادية متعددة، لا سيما بعد إعلان الرؤى التنموية، 2030 السعودية والإماراتية والقطرية، و2035 الكويتية، و2040 العمانية، وتعتمد هذه الرؤى التحول الذكي في إدارة الدولة، وبناء المدن الذكية، التي ستكون بحاجة للتوسع في الاقتصاد الرقمي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات النانوية، والحوسبة الكمومية (الكوانتية)، وتحليل محتوى البيانات العملاقة، والحوسبة السحابية، هذه الفرص تجعل من منطقة الخليج محل جذب للاستثمارات الدولية، وخصوصاً الصين، كونها أصبحت شريكًا مأمونًا لدول الخليج بعد سنوات التجريب التي مرت بها، وخصوصًا في مجالات البنية التحتية والتكنولوجيا الرقمية والسلع والخدمات، وهذا ما يعزز حالة التنافس الكبير بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت لسنوات تحتكر الفرص الاقتصادية الخليجية.
الأهمية الأمنية للخليج
نظراً للأهمية السياسية والاقتصادية لدول الخليج، فإنها تعد ساحة للصراع الدولي، ومركزًا لتحديد المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، وسابقاً كانت فكرة تأمين المنطقة من الأفكار التي تبناها النظام الدولي، وحشد لها كافة الإمكانات، تحت مظلة تأمين النفط باعتبارها سلعة استراتيجية للأمن والسلم العالميين، وفقًا لمبدأ جيمي كارتر (الرئيس الأمريكي 1977- 1981) الذي يجيز للولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في المنطقة، ومع تقليص الولايات المتحدة قوتها العسكرية في الخليج، والتراجع الأمريكي عن موقفهم المؤيد للسعودية في اليمن، والتلويح بفتح المساءلة تجاه عدد من الملفات الخاصة بالمملكة، يتضح أن مستوى ثقة دول الخليج ولا سيما المملكة بالإدارة الأمريكية شهد تراجعاً، إذا تنظر الرياض بأنها من أكبر حلفاء واشنطن في المنطقة، وأن المحافظة على أمن المنطقة هو في الأساس محافظة على الأمن والسلم الدولي، وأن السعودية أسهمت في التمكين السياسي والعسكري والاقتصادي لأمريكا، وترى أن هذه الجهود يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار من قبل إدارة الرئيس الأمريكي “بايدن”.
ثالثاً: الخيارات الخليجية في ظل المتغيرات العالمية: الدوافع والتحديات
يبدو أن دول الخليج تفضل التعددية القطبية بدلاً من هيمنة القطب الواحد، وذلك لأن انفراد القطب الواحد لم يخدم الاستقرار العالمي السياسي والاقتصادي، وفَرَض حالة من التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مما أدى إلى الاختناق السياسي الذي تبحث معه الدول الحليفة لأمريكا عن متنفس، ويبدو أنَّ الحضور الصيني والروسي يمثل أحد هذه النوافذ، بناء على ذلك، فإن طريقة التعاطي الخليجي مع هذه المتغيرات ستكون في إطار هذه الخيارات:
الخيار الأول: الشراكات الاستراتيجية الشاملة مع القوى الصاعدة.
يتطلب هذا الخيار مضي دول الخليج في عقد شراكات استراتيجية شاملة سياسية وأمنية واقتصادية مع القوى الصاعدة كالصين وروسيا، مع المحافظة على العلاقة الاستراتيجية بالولايات المتحدة الأمريكية، ودوافع هذا الخيار:
– تفضل الصين وروسيا التعامل مع دول الخليج دون التدخل في شؤونهم الداخلية مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الدافع يمثل إغراء لدول الخليج.
– يوفر هذا الخيار نوعاً من الاستقلالية لدول الخليج في تبني مواقف خاصة بعيداً عن ضغط الأطراف الدولية.
– المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية للصين تجاوزت البحث عن المصلحة الصينية الخاصة إلى إشراك الدول في المنفعة، بينما توصف الولايات المتحدة بأنها تأخذ أكثر مما تعطي.
وعليه، يبدو أنَّ هذا الخيار مطروح لكنه يواجه جملة من التحديات منها:
– صعوبة إقناع واشنطن بجدوى الشراكات الاستراتيجية الشاملة مع روسيا والصين، مع احتمالية تعثر علاقة دول الخليج بواشنطن، خصوصاً أنَّ روسيا خصم تاريخي للولايات المتحدة، والصين منافس صاعد، وأي شراكة مع هذه القوى الصاعدة قد تُحسب توجهاً بديلاً وليس موازياً.
– لا تمتلك الصين ولا روسيا الإمكانيات والقدرات والقواعد العسكرية في الخليج لتعويض حالة التراجع الأمريكي، ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بجزء كبير من قواتها في المنطقة، وتتمتع بخبرة استراتيجية في إدارة أزمات المنطقة، وتبرر تقليص قوتها العسكرية بأنه تكتيك مرحلي.
– الوعي الخليجي مرتبط بالنموذج الغربي الأمريكي والبريطاني، في السياسية والتعليم والاقتصاد والإعلام، وأي شراكة استراتيجية بقوى أخرى ستجد وقتاً كبيراً في استيعابها.
– العلاقة التي تربط كلا من روسيا والصين بإيران، لا يزال معها التخوف الخليجي حاضر، خصوصاً أن إيران تلقت دعماً سياسياً روسياً وصينياً في تطوير برنامجها النووي.
الخيار الثاني: شراكات تكتيكية محدودة مع القوى الصاعدة، مع المحافظة على الشراكة الاستراتيجية بواشنطن.
يفترض هذا الخيار مضي الدول الخليجية في عقد شراكات تكتيكية محدودة مع القوى الصاعدة، لا ترقى إلى المستوى الاستراتيجي الشامل، في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، مع المحافظة في الوقت نفسه على العلاقة الاستراتيجية بواشنطن، وفرص هذا الخيار:
– تَفَهُّم روسيا والصين للشراكة الاستراتيجية بين دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية، وتفهم أمريكا للعلاقة الاقتصادية الخليجية الصينية، باعتبار أمريكا نفسها تربطها علاقة اقتصادية بالصين.
– يتيح هذا الخيار الفصل بين المصالح الاقتصادية والمواقف السياسية، والتخفف من الابتزاز الغربي.
– يمكن أن يمثل هذا الخيار فرصة لدول الخليج في إدارة حالة من إدارة التواصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين روسيا والصين وغيرها من المشاريع الإقليمية، وهذا الأمر يعزز أكثر من المكانة الخليجية، خصوصاً بعد نجاح قطر في إدارة الاتفاق بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، ونجاح سلطنة عمان في إبرام عدة صفقات بين الولايات المتحدة وإيران.
يبدو أنَّ هذا الخيار هو الآمن على مدى العشر السنوات القادمة، خصوصاً وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى حاضرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً كأحد الأقطاب الفاعلين، لكن هذا الخيار هو كذلك يواجه عدة تحديات على رأسها الحسابات الأمريكية الدقيقة، فالتعامل الخليجي مع روسيا والصين قد يأتي بنتائج غير متوقعة، خصوصاً مع التوجه السعودي نحو التصنيع العسكري وتطوير البرنامج النووي.
الخيار الثالث: توسيع التحالفات العربية لبناء قطب إقليمي
التحولات المتسارعة في سير الأحداث السياسية العالمية، واشتداد المنافسة بين القوى الدولية الكبرى، قد تجعل أنماط النظام الدولي المتوقع مختلفة عن الشكل الشامل، وعليه قد تتيح هذه الحالة بناء قطب إقليمي، إذ يفترض هذا الخيار أن تسعى دول الخليج لتذويب الخلافات البينية، وتوسيع التحالفات لبناء قوة ذاتية، ووحدة عربية شاملة، ودوافع هذا الخيار:
– مقومات المنطقة السياسية وموقعها الجغرافي الهام، الذي تستطيع أن تتحول من خلاله من ساحة للتنافس الدولي إلى متحكم بعملية التنافس.
– القدرات الاقتصادية والنفطية الخليجية التي تتيح لدول الخليج تحويلها إلى أوراق ضغط بطريقة غير مباشرة.
– المشاريع التنموية الناشئة التي تجعلها لاعباً مهماً، خصوصاً أنَّ المشاريع الاقتصادية الواعدة لا تقل أهمية عن مشاريع النفط.
هذا الخيار ربما يبدو بعيداً على المدى المنظور، لكنه مقبول على المدى الاستراتيجي، إذ قد تتيح عملية التوازن في تحقيق الأهداف الاستراتيجية المستقلة، من خلال الاستفادة من المتاحات وإتقان لعبة التوازنات في تحقيق المكاسب. وهذا الخيار على طموحه لكنه يواجه تحديات عدة منها:
– التخبط العربي وتشتت الأهداف الأمر الذي يؤثر على أي توجه داخلي لبناء قوة ذاتية.
– حالة عدم الاستقرار التي تعيشها عدد من الدول العربية، والصراع السياسي والعسكري والضعف الاقتصادي.
– الثغرات السياسية والأمنية التي سمحت بحضور المشاريع الدولية والإقليمية.
– السعي الغربي لعرقلة المشاريع العربية الصاعدة.
خاتمة
بناء على ما سبق، يبدو أنَّ الخيار الخليجي الأنسب حالياً هو عقد شراكات تكتيكية محدودة مع القوى الدولية الصاعدة، مع المحافظة في الوقت نفسه على العلاقة الاستراتيجية بالولايات المتحدة الأمريكية، وإدارة حالة من التوزان تضمن نجاح العلاقة مع الأطراف الدولية المتنافسة، مع العمل الاستراتيجي لبناء قوة ذاتية. في هذا الإطار لن يكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية مبرراً لدفع شركائها في الخليج للمفاضلة بينها وبين الصين وروسيا، لأن هذا الخيار قد لا يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية الاستراتيجية، وفي الوقت نفسه يبدو أن البدائل الاقتصادية الأمريكية محدودة مقارنة بالصين وهذا ما يضطر واشنطن للتماهي مع الخيارات الخليجية.