مفارقة المركزية وتصدّع الدولة في العراق
معهد واشنطن
2022-12-15 05:30
بقلم: بلال وهاب
كان من الممكن أن تكون اللامركزية في السلطة أفضل وسيلة لتجنب العودة إلى متلازمة الاستبداد والفساد كما كان عليه الحال في عهد صدام، لكن بدلاً من ذلك فضلت بغداد السلطة المركزية - بينما أحدثت في الوقت نفسه تصدعاً في الدولة من خلال المحسوبية الطائفية والمنافسة.
كان من الممكن أن تكون لامركزية السلطة والنفوذ في العراق ما بعد صدام حسين بمثابة ترياق ضد نظامه المستبد والوحشي. غير أنه تم التراجع عن اللامركزية باستمرار لصالح المركزية، وبدأت قوة وجاذبية الفيدرالية ومجالس المحافظات المنتخبة تتضاءل أمام المزيد من السلطة في بغداد، عاصمة العراق.
ولكن للمفارقة، يتوزع النفوذ والسلطة في بغداد بين الأحزاب والفصائل العرقية والطائفية. فقد أصبحت معظم الجماعات السياسية العراقية ترى في اللامركزية الجغرافية تهديداً لوحدة الأراضي العراقية. ومع ذلك، في ظل غياب أي جماعة سياسية أو عرقية طائفية واحدة قادرة على ممارسة ما يكفي من النفوذ للسيطرة على البقية، أدّت مركزية السلطة إلى تحويل بغداد إلى بؤرة للفساد وشبكات المحسوبية التي تتنافس على السلطة وامتيازات الدولة. ومن الناحية التقليدية، تكون الدولة القوية الأساس المنطقي لدعم المركزية. لكن من المفارقات أن إضعاف الدولة هو الهدف المشترك بين الأحزاب الحاكمة في العراق. إن تمركز القوة والثروة في الدولة الضعيفة هو الذي سمح بالفساد والسرقة الجماعيين اللذين انتشرا في العراق.
لقد أصبح التوصل إلى اتفاق سياسي في العراق بعيداً بشكل متزايد، كما يتضح من الجمود الذي استمر لمدة عام في تشكيل الحكومة الذي أعقب انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021. وتبث الحكومة العراقية الجديدة الناشئة حياة جديدة في النظام السياسي العراقي القائم على المحسوبية العرقية والطائفية الذي فقد ثلث البلاد لصالح تنظيم «الدولة الإسلامية» في عام 2014، ونفذ عملية عسكرية ضد إقليمها الكردي في عام 2017، واستقبل حفيظة الاحتجاجات الشعبية في عام 2019.
ومع اقتراب الذكرى العشرين لتغيير النظام في العراق، يتساءل الكثيرون عما إذا كان العراق لا يزال دولة ديمقراطية. فقد أصبحت الديمقراطية الهدف المعلن للولايات المتحدة والمملكة المتحدة للإطاحة بصدام حسين. لقد كانت اللامركزية ضمانة جزئية للتحول الديمقراطي، وحماية ضد عودة ظهور الطغاة أمثال صدام حسين. وعلى غرار الديمقراطية، من شأن اللامركزية أن تضمن اعترافاً أكبر بالتنوع العرقي والطائفي والجغرافي في العراق. فقد كرّس دستور عام 2005 اللامركزية في شكل فيدرالية ومجالس محافظات منتخبة تملك صلاحيات تنفيذية كبيرة. كما حدد الميثاق الوطني المعايير لتشكيل المزيد من الأقاليم وأعطى صلاحية إصدار القوانين التي من شأنها تنظيم العلاقة بين الأقاليم والحكومة الاتحادية.
ولكن على أرض الواقع، مالت التوجهات نحو إعادة ترسيخ مركزية السلطة والنفوذ بيد الحكومة الاتحادية. وعلى الرغم من المقترحات الأولية لتشكيل أقاليم جديدة، لا يزال «إقليم كردستان العراق» الإقليم الاتحادي الوحيد في البلاد. علاوة على ذلك، كانت المرة الأخيرة التي أجرى فيها العراق و «إقليم كردستان العراق» انتخابات لمجالس المحافظات هي في عامَي 2013 و2014 على التوالي. حتى أنه في عام 2019، قام مجلس النواب العراقي بحل مجالس المحافظات.
وبالفعل، فقدت اللامركزية الجغرافية والإدارية بريقها السياسي لصالح دولة قوية ذات سلطة مركزية. وازدهر بدلاً منها الإقطاع العرقي والطائفي في الدولة متخذاً شكل سياسة المحسوبية، حيث تقوم الكتل السياسية التي تصل إلى مجلس النواب بتقاسم مؤسسات الدولة وأصولها. وفي حين تركَّز القدر الأكبر من سلطة الدولة وثروتها في بغداد، عمد عدد كبير من الجهات الفاعلة السياسية اللامركزية والمتنافسة على استنزافها. وبعبارة أكثر بساطة، تركّز الحكومة العراقية السلطة والثروة في بغداد بعيداً عن الأقاليم والمحافظات، لكن بغداد نفسها مقسمة بشكل لا مركزي بين الأحزاب التي تشكل الحكومة. وأصبحت مثل هذه السياسات العرقية والطائفية جانباً صامداً من نظام الحكم في فترة ما بعد صدام. لقد تخلت السياسة العراقية عملياً عن اللامركزية لصالح حكومة مركزية ضعيفة من الداخل.
ممكّنات المركزية
على غرار الديمقراطية، كان الحكم اللامركزي غريباً إلى حد ما على العراق. فمنذ نشأته كدولة، حُكم العراق إلى حد كبير من قبل حكومة مركزية، سواء كانت ملكية أو عسكرية أو ديكتاتورية حزب واحد. وكان الحكم الذاتي الممنوح للأكراد في عام 1970 قصير الأمد. ولم يكن هناك مجال كبير لتخفيف مركزية القيادة والسيطرة في ظل الأيديولوجية الاشتراكية العربية لحزب البعث، وحتى أقل من ذلك في ظل العسكرة التي سادت خلال حرب العراق التي استمرت ثماني سنوات مع إيران. وتم تشكيل «حكومة إقليم كردستان» في عام 1992 ليس لأن بغداد نقلت السلطة إلى المحافظات الكردية الشمالية، بل لأن صدام فقد السيطرة عليها في أعقاب "حرب الخليج الأولى".
علاوة على ذلك، يُعتبر نظام الحكم الفيدرالي أمراً شاذاً في المنطقة. فعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة، تتّبع جميع الدول المجاورة للعراق نظاماً مركزياً. بالإضافة إلى ذلك، كانت إيران وتركيا متشككتان في الفيدرالية الكردية في العراق خشية أن تقدم نموذجاً للأقليات الكردية في بلديهما. كما أن البنية الاتحادية لدولة الإمارات العربية المتحدة تقع بعيداً جداً بحيث لا يمكن اعتبارها نموذجاً للفيدرالية. وعلى الصعيد الداخلي، لم يكن التزام الفصائل السياسية الكردية بالفيدرالية ثابتاً على الإطلاق. وفي الواقع، تذبذب الأكراد عبر طيف اللامركزية - من الحكم الذاتي إلى الاستقلال الكامل. وعندما كانت أحزاب المعارضة الشيعية في المنفى، تبنّت مفهوم الفيدرالية كنظامها المتصوّر للحكم في العراق في مرحلة ما بعد صدام، ولكنها ما لبثت أن تخلت عنه بمجرد وصولها إلى السلطة. وعلى النقيض من ذلك، كانت الجماعات السنية أول من عارض الفيدرالية، لكنها رأت فيها في النهاية ضمانة ضد تعدي الميليشيات على أراضيها.
وبمعزل عن الجغرافيا والإرث، يشجّع الاقتصاد العراقي القائم على النفط هو أيضاً على السيطرة المركزية (انظر المؤلفات المتعلقة بلعنة الموارد والريعية، لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع: على سبيل المثال، "لعنة النفط" (Oil Curse) لمايكل روس، و"المليار السفلي" (The Bottom Billion) لبول كوليير، وأطروحة كاتب هذا المقال "الفيدرالية النفطية في العراق" (Oil Federalism in Iraq)). فطبيعة قطاع النفط والغاز وتدفق إيراداته إلى أيدي قلة من الأطراف تحفز المركزية وتُمكنها. ويتم توقيع عقود النفط والغاز طويلة الأجل، بشكل سري في كثير من الأحيان، ضمن دائرة ضيقة من المسؤولين الحكوميين والمديرين التنفيذيين للشركات. والأهم من مكان إنتاج النفط هو من يوقع العقود ويصرف الشيكات. وقد مكّنت هذه المكاسب غير المتوقعة الدول النفطية من الحكم من المركز، واستخدام ثروتها لاحتواء أي معارضة يواجهها حكمها وإجبارها على الطاعة. وخلافاً للقطاعات التي تستخدم اليد العاملة بكثافة، مثل الصناعة والزراعة، فإن قطاع الطاقة القائمة على كثافة رأس المال يتيح توليد الثروة وإعادة توزيعها مركزياً.
دولة مركزية متصدعة
يعود العراق إلى المركزية بوتيرة بطيئة بل ثابتة. وبدلاً من أن تكون «كردستان العراق» الأولى من بين عدة أقاليم يتم إقامتها ضمن دولة العراق الاتحادية، إلّا أنها لا تزال الإقليم الوحيد في البلاد. فغالباً ما رفضت الأحزاب السنية الفيدرالية وساوتها بالانشقاق. وعندما كانت الأحزاب الشيعية العراقية الرئيسية في جبهة المعارضة، وبعد ذلك في أولى مراحل حكمها بعد صدام، تبنت الفيدرالية لكنها سرعان ما تخلت عنها حالما أصبحت راسخة في السلطة. وأصبحت المقترحات، مثل "إقليم البصرة"، خارج الحسابات السياسية. لماذا على الأحزاب الشيعية الاكتفاء بجزء من العراق بينما تستطيع السيطرة على معظمه إن لم يكن كله؟ ومع السيطرة على قطاع النفط العراقي وموارده المالية، وعلى جميع الأراضي والحدود العراقية باستثناء كردستان منذ هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، انتصرت الأحزاب الشيعية في الصراع العرقي والطائفي، وأثارت هذه القوة وهذه الثروة شهيتها للحكم المركزي. وتفسر هذه الحوافز السياسية، جزئياً، سبب عدم قيام مجالس النواب العراقية بإقرار القوانين المطلوبة وبناء المؤسسات اللازمة لترسيخ الفيدرالية، مثل "المجلس الاتحادي" و "المحكمة الاتحادية العليا" وقانون النفط والغاز الوطني.
لقد صمدت كردستان بدور الإقليم، ويعود السبب ببساطة إلى أنه من الصعب على الحكومة العراقية ابتلاعها. فقد أرست «حكومة إقليم كردستان» وقائع راسخة على الأرض، مثل قوات "البيشمركة" وقطاع الطاقة. ومع ذلك، فعلى الرغم من كون الأحزاب الكردية العراقية من المؤيدين الرئيسيين للفيدرالية، إلّا أنها تخلصت من اللامركزية أيضاً. ولم يفعل الممثلون الأكراد في الدولة العراقية الكثير للدفع باتجاه التشريع اللازم الذي من شأنه أن يمنح الفيدرالية ديمومة أكبر. وبالترافق مع الدفعٍ من بغداد، أدت السلطة والثروة الكردية إلى زيادة التطلعات الكردية لإقامة دولة. فغيرت «حكومة إقليم كردستان» استراتيجيتها وتوجهت نحو المخرج. وفي عام 2017، أجرت «حكومة إقليم كردستان» استفتاءً على الاستقلال تحت سبب وذريعة رئيسيان هما عدم احترام العراق للفيدرالية. ولم تكن الروابط بين «حكومة إقليم كردستان» وبغداد قوية بما يكفي للحفاظ على حياة سعيدة لكلا الجانبين ولم تكن ضعيفة بما يكفي ليكون الانفصال ممكناً. وربما برر الاستفتاء الكردي شكوك العرب في أن الفيدرالية كانت كلمة سر للانفصال طوال الوقت.
إن الحكومة المركزية التي تتركز في قبضتها السلطة والثروة ولكنها تنقسم أيضاً بين عشرات الكيانات السياسية النافذة، هي حكومة ضعيفة بطبيعتها ولا يمكن التنبؤ بها وتفتقر إلى الاستقرار. لقد فشل هذا النظام في حماية السيادة العراقية، ودرء الإرهاب، وتوفير الازدهار. وينبع هذا العجز في الحكم من الدولة العراقية المركزية بل الضعيفة التي تستنزفها جميع الأحزاب الموجودة في السلطة من أجل مصالحها الضيقة. ولا عجب أن كل حزب يبدو أنه بحاجة إلى ميليشيا لحمايته ولإنفاذ العقود.
وتأخذ شبكة المحسوبيات في التوسع بدلاً من التوحد. فالعائلات السياسية والزعماء أصبحوا يتفوقون على المكاتب السياسية ونفوذها السابق. وبما أن الحكام المتنافسين لا يستطيعون الاستيلاء على الدولة بأكملها أو على جزء جغرافي منها، فهم يكتفون بالاستحواذ على الجهات الحكومية والاستفادة من مواردها. ويسري هذا الاتجاه في كردستان أيضاً، حيث جعلت العائلتان الكرديتان الحاكمتان السلطة المركزية لـ «حكومة إقليم كردستان» غير مهمة (على أي حال).
إنّ حل مجالس المحافظات نهائياً أمر بعيد المنال في غياب تعديل دستوري، على الرغم من الدعوات لذلك. وفي الواقع، قد تضغط الحكومة العراقية الجديدة لإجراء انتخابات لمجالس المحافظات لمجرد تجنب إجراء انتخابات وطنية. وسيكون من الصعب إعادة تشكيل مجالس المحافظات نظراً إلى فسادها وافتقارها إلى الكفاءة في الأداء، وهو ما استحث الذعر العام الذي أدى إلى حلّها في المقام الأول. لقد أجّلت «حكومة إقليم كردستان» انتخاباتها إلى عام 2023 ويمكنها إجراء انتخابات محلية في الوقت نفسه. وقد أدى الاستفتاء (الكردي) والرد العسكري اللاحق الذي نفذته الحكومة العراقية عام 2017 إلى إعادة الخطوط الداخلية إلى ما كانت عليه قبل سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على بعض المناطق في العراق. ولم ينجح الاستقلال الكردي ولا إعادة المركزية العراقية الكاملة. لذلك فإن أضمن طريق للمضي قدماً في العلاقات بين «حكومة إقليم كردستان» وبغداد هو إعادة العمل على الفيدرالية - أي البنى الأساسية التشريعية والمؤسساتية والإدارية اللازمة لقيام هذا النظام الاتحادي. إن إعادة بث الحياة إلى اللامركزية التي من شأنها تعزيز حوكمة تكون أكثر خضوعاً للمساءلة، قد تتطلب استثمارات جادة في قدرة الحكم المحلي وتوسيع الروابط بين «حكومة إقليم كردستان» وبغداد.