هل ينجح إردوغان بابتزاز الناتو ويحقق أطماعه في الشمال السوري؟
Think Tanks Monitor
2022-05-29 07:06
بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
أثار عزم كل من السويد وفنلندا انضمامهما إلى حلف "الناتو" تحفّظ تركيا، أوجزه الرئيس التركي، رجب طيّب إردوغان، بأن بلاده "لا تريد (تكرار) خطأ حلف الأطلسي بقبوله عضوية اليونان، فالدول الاسكندنافية تعدّ دار ضيافة لمنظمات إرهابية" (21 أيار/مايو 2022).
"خطأ الأطلسي"، بحسب الرئيس التركي، جاء على خلفية الاشتباك المسلح في جزيرة قبرص وإرسال أنقرة قواتها إلى الجزيرة عام 1974، وانسحاب اليونان من الحلف احتجاجاً على عدم تدخل أعضائه ضد "الغزو التركي". وعادت اليونان إلى عضوية الحلف، تشرين الأول/اكتوبر 1980، بموافقة أنقرة، التي شهدت انقلاباً عسكرياً بقيادة الجنرال كنعان إفرين. اليونان وقبرص عضوان في "الناتو" ما يمنحهما نفوذا ديبلوماسياً واسعاً.
علاقات أنقرة بعواصم الدول الاسكندنافية ليست على ما يرام، إذ شهدت توتراً ديبلوماسياً في الآونة الأخيرة على خلفية مشاركة وزير الدفاع السويدي، بيتر هولتكفيست، مع "قوات سوريا الديموقراطية"، في لقاء عبر الفيديو العام الماضي، ومرة أخرى عقب استقبال وزيرة الخارجية آن ليند وفداً من حزب الاتحاد الديموقراطي، رسمياً في السويد.
"تحفّظ" تركيا على توسيع عضوية الناتو، لضم السويد وفنلندا، له جملة أبعاد وخلفيات تعتبرها أنقرة تهديداً لأمنها القومي، نشير هنا إلى أبرز أسبابها: الأول، خشية تركيا من توتر جديد مع موسكو وارتداداته عليها بعد انفراج وتقارب بينهما في السنوات الأخيرة. الثاني، قلق أنقرة من إرباك حساباتها ومصالحها الإقليمية في منطقة القوقاز، وفي الواجهة انتقاد ثابت لتركيا من قبل السويد وفنلندا على خلفية انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والأزمة التي أدت إلى نية أنقرة طرد 10 ديبلوماسيين غربيين سرعان ما تراجعت عنها، في تشرين الأول/اكتوبر 2021، بعد إدانة اعتقالها للناشط التركي عثمان كافالا، ولخشيتها أيضاً من تحشيد الدولتين أعضاء الحلف ضدها، أسوة بما فعلته اليونان.
تركيا استغلت الفرصة لابتزاز خصومها في "الناتو" بمطالبتها كلاً من السويد وفنلندا برفع حظر بيع الأسلحة المفروض عليها منذ عام 2019، عقب هجومها العسكري على القوات الكردية في شمال شرق سوريا، وتسليمها العشرات من المناوئين لسياساتها المقيمين في تلك الدول.
وفي أحدث اتهامات أنقرة ضد ستوكهولم، زعمت "القوى الأمنية التركية" أنها عثرت على أسلحة مضادة للدروع "سويدية المنشأ" مع قوات حزب العمال الكردستاني، خلال مداهمتها كهوفاً لمقاتليه شمالي العراق، الأمر الذي من شأنه تعزيز أوراق الضغط التركية ضد عضوية السويد وفنلندا. اللافت في توقيت الاتهام أنه أتى عشية وصول وفدي البلدين إلى أنقرة للتباحث في "المخاوف التركية" (اسبوعية "نيوزويك"، 25 أيار/مايو 2022).
تتمتع السويد بصناعات عسكرية متطورة، أهمها "مجموعة صاب"، التي تنتج مروحة واسعة من الأسلحة المضادة للدروع الخفيفة والمتوسطة، كارل غوستاف، وعدداً من نظم الدفاع الجوي والصواريخ الموجهة. كما ساهمت السويد في رفد أوكرانيا بأسلحة متطورة تحت رعاية الولايات المتحدة.
لتركيا مخاوف "أمنية" مع كل من روسيا والولايات المتحدة. وقد شهدت حروباً متواصلة مع روسيا منذ القرن ال15 بلغت "16 حرباً، وسنخوضها مرة أخرى"، كما صرّح بذلك مستشار الرئيس التركي والاستاذ في جامعة "يدي تبه" في اسطنبول، مسعود حقي كاسين، بتاريخ 16 شباط/فبراير 2022. وأضاف أن هناك "25 مليوناً من المسلمين يقطنون روسيا"، تلميحاً إلى إثارة تركيا قلاقل داخلية لروسيا.
كما أن سيطرة تركيا على مضائق البحر الأسود يثير قلقاً مزمناً لروسيا، إذ أغلقت أنقرة العبور من وإلى البحر منذ بدايات العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فضلاً عن إغلاقها مجالها الجوي أمام حركتي الطيران المدني والعسكري الروسيين المتجهة إلى سوريا. بالإضافة إلى ذلك، تستنهض أنقرة النزعة الطورانية في دول الاتحاد السوفياتي السابق، أذربيجان نموذجاً، وإقليم شينجيانغ غربي الصين، لبسط سيطرتها وزعزعة استقرار الدولتين.
أما خلافاتها مع الولايات المتحدة، كدولة وظيفية في حلف "الناتو"، فهي موسمية "لا تلبث أن تخبو"، خصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار محاولات التأثير من قبل "اللوبي التركي" في واشنطن على أعضاء الكونغرس ومراكز الأبحاث المؤثرة في صناعة القرار السياسي.
لعبت تركيا دوراً محورياً بارزاً في الاستراتيجية الأميركية بشأن سوريا تحديداً، منذ ما قبل بدء العدوان الكوني عليها في شهر آذار/مارس 2011. ونشرت واشنطن بطاريات باتريوت للدفاع الجوي بالقرب من الحدود المشتركة مع سوريا، وتم سحبها في أعقاب التدخل العسكري الروسي المباشر عام 2015، ما أثار حفيظة الرئيس التركي إردوغان وقدم طلباً لشراء منظومة دفاع جوي خاص بتركيا، رفضته واشنطن.
توجه إردوغان إلى التفاهم مع الرئيس الروسي من أجل شراء منظومة أس-400 الروسية للدفاع الجوي، سرعان ما غضبت واشنطن واتخذت بعض الإجراءات العقابية ضده، منها استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات "الشبح" الأميركية، من طراز أف-35، وتعليق طلبها لتحديث مقاتلاتها الحربية من طراز أف-16، وتدهور قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأميركي، 17.57 ليرة، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم إلى نحو 60%، بحسب بيانات حديثة للبنك المركزي التركي.
مصير صفقة طائرات "الشبح" أضحى بيد الكونغرس الذي يعارض بقوة انفتاح أنقرة على موسكو، ويطالب أعضاؤه تركيا بتخليها عن المنظومة الروسية "لدواعٍ أمنية"، وإلا ستبقى الإجراءات العقابية سارية المفعول. أما دعم تركيا لأوكرانيا بطائرات "الدرون" ومعدات عسكرية أخرى فلم يشفع لها بتخفيف أو إلغاء العقوبات عليها.
كما أن محاولة الانقلاب على الرئيس إردوغان في نهاية عام 2016 أسفرت عن طلب عدد من كبار الضباط المفرزين للعمل في مقر حلف "الناتو" في بروكسيل اللجوء السياسي لخشيتهم من انتقام الرئيس التركي. بيد أن التنسيق العسكري بين الطرفين في عموم الإقليم لم يشهد تصدعاً، بل دعماً وتأييداً للتدخل التركي في ليبيا وسوريا وأذربيجان. وكذلك لمحاولة توسط تركيا بين روسيا وأوكرانيا.
الشائع في الأوساط الأميركية أن الرئيس التركي بارع في "ابتزاز" الآخرين، خصوصاً دول الاتحاد الأوروبي، وهي علاقة أشبه بـ "الغرام والكراهية" المتبادلة، ويتمتع بقراءة جيو-سياسية أقرب إلى الواقعية، ما يقود إلى الاستنتاج أن مراهناته الأخيرة تدلّ على "اعتقاده بأن المستقبل هو لتعدد القطبية إذ تأخذ كل من روسيا والصين دوريهما" (شبكة مايكروسوفت "أم أس أن"، 24 أيار/مايو 2022).
تجدر الإشارة إلى حقيقة الموقف الأميركي من "تمدد حلف الناتو"، بدءاً بأوكرانيا ومروراً بالدول الاسكندنافية، أن جوهر المسألة هو "إدارة الأزمة" وليس حلها، كما أوجز هنري كيسنجر الاستراتيجية الأميركية، ومشاغلة روسيا ومن ثم الصين. وعليه، تلجأ واشنطن إلى إشعال توترات في ساحات متعددة لإبقاء جذوة الصراع مشتعلة.
سواء وافق حلف الناتو بكامل أعضائه على عضوية فنلندا والسويد، أم تأجل القرار الجماعي بسبب تحفظ تركيا، فمن المستبعد أن يتم تجاوز عقبة تركيا "ثاني أكبر قوة عسكرية في الحلف" في المرحلة المقبلة، كما تدلّ عليه اسهامات وتعليقات كبار الكفاءات السياسية الأميركية، ومحورها أن "الأفضلية لعواصم الحلف، خصوصاً واشنطن، هي عقد احتفال تنصيب العضوين الجديدين عوضاً عن إجراء نقاش موسّع لتحديد الكلفة والمكاسب التي ستنجم عن انضمامهما".
بداية، لوحظ تراجع رئيس حلف الناتو، ينس شتولتنبرغ، مخاطباً الصحفيين "نتعامل مع المخاوف التي أعربت عنها تركيا، والجلوس معها إلى طاولة مفاوضات وإيجاد أرضية مشتركة"، مقارنة مع تقرير لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية، 22 أيار/مايو الحالي، بأن تهديدات إردوغان "تثير الشكوك بشأن الاعتماد على أنقرة كعضو في الحلف، وتقوّض الأمن الجماعي لحلف الأطلسي".
في السياق عينه، توجه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الكونغرس طالباً موافقته على بيع تركيا أسلحة ومعدات لتحديث اسطولها من مقاتلات إف-16. كما أن لوائح حلف الناتو الداخلية لا تجيز "طرد" أحد أعضائه، كإشارة إلى أولئك الغاضبين من "ابتزاز" الرئيس إردوغان.
وعند سؤال الرئيس بايدن، مطلع الأسبوع الحالي، عن المخاوف التي تثيرها تركيا مقابل قبولها توسيع عضوية الحلف، أجاب "لن أذهب إلى تركيا، لكنني أعتقد أن الأمر سيكون على ما يرام".
وحذرت مجلة "ناشيونال إنترست" من تضييق الغرب الخناق على تركيا التي إن "تضرّرت يمكنها إضعاف الحلف من الداخل لعقود قادمة"، خصوصاً وأن الإجراء "الأشد خطورة هو في الحد من مشاركة تركيا في التدريبات المشتركة لحلف الناتو والتخطيط للعمليات المشتركة" ("ذي ناشيونال إنترست"، 22 أيار/مايو 2022).
وخصّت المجلة المذكورة انضمام فنلندا المزمع لحلف الناتو بمزيد من الشكوك والطلب من "واشنطن سحب تأييدها، نظراً لأنها تتمتع بعلاقات ودّية متبادلة معها، من دون الحاجة إلى التهديد بإبادة الشعب الروسي نووياً".
أما مخاوف فنلندا من "غزو روسي" لأراضيها، بحسب المجلة، فإنها لا تشكل "سوى احتمال بعيد في الأزمنة العادية. سياسة فنلندا الحيادية الطويلة الأمد أثبتت نجاحاً أمنيا باهراً" وينبغي التعويل على تجديدها.
بموازاة التصعيد الأميركي مجدداً في سوريا، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وعبر القصف "الإسرائيلي" المتواصل داخل العمق السوري، أعلن الرئيس التركي نيته شنّ عملية عسكرية واسعة في الشمال السوري تؤدي إلى إنشاء "منطقة آمنة بعمق 30 كيلو متراً" داخل الأراضي السورية، بذريعة أنها ستكون قادرة على استيعاب نحو مليون لاجيء سوري. الحكومة السورية أبلغت هيئات الأمم المتحدة أنها تعتبر الإعلان التركي "عدوانا يرمي إلى إنشاء بؤرة متفجرة داخل سوريا"، واحتلالاً سيشهد مقاومة.
الاحتلال التركي المزمع لقضم مزيد من الأراضي السورية من شأنه خدمة عدد من الأطراف الدولية المعادية، خصوصاً وأن حلف "الناتو" وافق على إنشاء "منطقة آمنة" في شمال سوريا، في عام 2019، وتخدم بشكل أدق المجموعات الإرهابية الخاضعة لسيطرتها والتي ما فتئت تطالب بإنشاء "مناطق عازلة" و"فرض حظر جوي" على مناطق معينة.
أميركا "تمنعت" برفض الطلب التركي بعد مماطلة طويلة، وبذلت جهوداً مضاعفة لبسط سيطرتها على درة الأراضي السورية الغنية، شرق الفرات، التي تمثل أهمية استراتيجية بالنسبة إليها ولعملائها من تنظيمات إرهابية وقوى إقليمية.
بيد أنه يجب عدم النظر إلى الموقف الأميركي "الجديد" على أنه سيصطدم حتماً بالموقف التركي، بل نابع من انشغال واشنطن بملفات أشد تعقيداً على المستوى الكوني في تصديها لروسيا والصين. تركيا أحسنت استغلال الظرف السياسي الراهن لتحسين شروط ابتزازها، ومنها تخفيض عدد القوات الروسية في سوريا، كما يجري تداوله، لتعلن حضورها بقوة وجاهزيتها لاستكمال المخطط التفتيتي الأميركي، في سوريا والعراق، لقاء ثمن مناسب تقايض فيه مسألة انضمام الدولتين الاسكندنافيتين إلى حلف "الناتو".