الجهات المانحة الدولية مُتواطئةٌ مع لعبة نُخبِ الشرق الأوسط
مركز كارنيغي
2021-04-14 04:10
بقلم: ديفيد لينفيلد
سمحت الجهات المانحة الدولية لنُخبِ المنطقة بالاستيلاء على السلطة والموارد، عبر دعمها التحرر الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط من دون طلبِ ضماناتٍ لتحقيقِ الشفافية ومكافحةِ الفساد. والنتيجة هي خليطٌ سريعُ الاشتعال من الغضبِ وخيبات الأمل.
"إن النخبة قد سرقت بلدنا منّا". هذه كلماتٌ صاح بها شابٌ أردني أثناء جلسةٍ لنا في مقهى في جنوب الأردن في آب/أغسطس من العام 2020. فهو فقدَ إيمانه بالمؤسسات العامة التقليدية، إذ لا يعتقد أن عشيرته أو النظام او الأحزاب المعارضة تمثّل مصالحه ومتطلباته. وهذه كلمات سمعتها مراتٍ لا تحصى من غيره من مواطني المملكة أثناء تغطيتي التي دامت أربع سنواتٍ للسياسات الشعبية من خلال عملي كضابطِ للشؤونٍ السياسية في السفارةِ الأميركية في عمّان بين عامَي 2016 و2020.
لا تنحصر هذه المشاعر بالأردن وحده. فقد تزامن تنصيب الرئيس الأميركي في 20 كانون الثاني/يناير 2021 مع الذكرى العاشرة للربيع العربي. وفي العام 2011 كنت في القاهرةِ بأول مهمةٍ خارجية لي، التقيت خلالها بالعديد من الشبابِ الناشطين من مختلفِ الأطيافِ السياسية، من سلفيين إلى روّادِ أعمال ليبراليين أجبرتهم شدة خيبات الأمل والإحباطات الاجتماعية والسياسية المشتركة بينهم على أن ينسوا، وإن مؤقتاً، اختلافاتهم الجوهرية. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لم تتم معالجة العوامل التي أسهمت في اندلاع تلك الاحتجاجات، بل ازدادت هذه الأوضاع سوءاً، ولا سيما الإحباط الناجم عن غياب العدالة الاقتصادية وانتشار الفساد.
على الرغم من أن أولوية الإدارة الأميركية الجديدة تنصبّ على القضايا الداخلية، غالب الظن أن ازدياد التوتر في الشرق الأوسط سيشدّ انتباه الإدارة مجدّداً. لكن ذلك لا يعني أن على الإدارة الأميركية وغيرها من المانحين الدوليين التدخل في المنطقة مثلما اعتادوا في الماضي. ففي الكثير من الأحيان، خدمت هذه الجهود الدولية عن غير قصد مصالح النخبِ في المنطقة على حسابِ الاستقرار العام فيها. وكانت عواقب هذا التدخل غير المقصودة تظهر بشكلٍ واضح من خلال ترسيخ الأنظمة السلطوية وازدياد الاحتجاجات. لذا، آن الأوان للبدء بالتفكير بطريقةٍ جديدة للتدخل في المستقبل.
ازدياد حدة الاحتكاكات
أصبحت الأصواتَ المطالبة بمكافحةِ الفساد مألوفةً للغاية في الأماكن العامة في شتى أنحاء الشرق الأوسط. فقد وحّدت صعوبةِ الأوضاعِ الاقتصادية الكثير من الأطراف المختلفة، إذ ازداد يقين مجتمعات الفئةِ الاقتصادية الفقيرة، سواء كانوا سُنةً أو شيعة، مسيحيين أو مسلمين، بأنهم يتشاطرون مع بعضهم البعض عوامل أكثر من تلك التي تجمعهم بنخبِ الأغنياء الذين يشاركونهم نفس الديانة او العِرق.
فاقمت جائحة فيروس كورونا التفاوت الاقتصادي في المنطقة. فقد تحمّلت الأسر ذات الدخل المحدود وطأة حظرِ التجول والإغلاق الاقتصادي. وقد شعر المسؤولون بذلك ويخشون تأثيره على المستوى السياسي. ففي شهر نيسان/أبريل من العام 2020، أقدمت السلطات الأردنية على اعتقال مالك قناةٍ تلفزيونية محلية بعد عرض قناته مقطعًا يظهر فيه عمال مياومون يقولون أمام الكاميرا إن قلة دخلهم الحالية قد تدفعهم إلى السرقة أو تهريب المخدرات كي يتمكنوا من الإنفاق على معيشة أسرهم.
في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، قد يهدّد نشوء هذا التضامن بين الفئات الاجتماعية المختلفة بتقويض قاعدة "فرّق تسد" التي اتّبعتها الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط للمحافظة على حكمها لعقود خلت. فهذه الأنظمة اعتمدت عبر الزمن على أساليب فعالة للسيطرة على مجتمعاتٍ مقسّمةٍ على أسسٍ عرقية ووطنية ودينية. لكن هذه الأساليب لن تفلحَ أمامِ مجتمعاتٍ محلية توحّدها الطبقة والحالة الاقتصادية.
كيف فاقم المانحون الدوليون من التوتراتِ الطبقية
جعل المانحون الدوليون، مثل الولاياتِ المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، الأوضاع أشد سوءاً، من خلال إعطاء الأولوية إلى التحرّر الاقتصادي في الشرق الأوسط بدلاً من الإصلاح السياسي، ما أسهم في زيادة التوتراتِ الطبقية. ولطالما رحّبت الحكومات والنخب السياسية في المنطقة بهذه السياسة لأنها ساعدتهم في المحافظة على مصالحهم، وهذا صحيح من الناحية الاقتصادية. فقد صبّ التضخم والأرباح الاقتصادية التي صاحبت التحرر الاقتصادي بشكل غير متناسب في صالح نخبِ المنطقة.
وتصنّف قاعدة بيانات عدم المساواة العالمية الشرق الأوسط كأكثر منطقة تفتقر إلى المساواة الاقتصادية في العالم. إضافةٍ إلى ذلك، تشير قاعدة البيانات إلى انخفاض مستوى عدم المساواة الاقتصادية على مستوى العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن هذه المعدلات بقيت ثابتةً في الشرق الأوسط. وكما أوضحت باحثة كارنيغي السابقة ليديا أسود، يُعزى أغلب المظاهرات التي اندلعت في الشرق الأوسط منذ العام 2018 إلى عدم العدالة هذا.
ففي ظل غياب الإصلاح السياسي، سمح التركيز على التحرر الاقتصادي إلى نخبِ المنطقة باستغلال الموارد العامة لمصلحتهم الخاصة، ما فاقم استياء الشعوب من الحالة الاقتصادية، وتركهم من دون وسائل مؤسسية سلمية للتعبير عن غضبهم وسخطهم.
أدّى ذلك إلى شعور الكثير من سكان الشرق الأوسط بخيبة أملٍ من حكوماتهم ومؤسساتهم المجتمعية. فقد أظهرت دراسة استقصائية أجراها المعهد الجمهوري العالمي في نهاية العام 2019 أن في الأردن الذي يراه الكثيرون على أنه واحة استقرار في المنطقة، يؤمن 52 في المئة من المواطنين بأن "التظاهر" هو الأسلوب الأكثر فعالية للتأثير على قرارات الحكومة، مقارنةً مع المواطنين الذين أجابوا "التصويت الانتخابي"، ونسبتهم 23 في المئة.
وقد دفع غياب الشفافية في إصدار القرارات سكان المنطقة إلى الافتراض بأن ثروة النخب بمعظمها اكتُسبت على الأرجح بطرقٍ غير مشروعة. ففي العام 2018 قام الباروميتير العربي بدراسةٍ استقصائية على مستوى المنطقة، أظهرت أن نسبة الذين يظنون بأن الفساد منتشر بدرجةٍ متوسطة إلى كبيرة في كل دولة تتراوح من 71 إلى 93 في المئة.
وعلى نحو خطير، يُشعر هذا الوضع المواطنين بفقدان حس التملك في بلدانهم. فقد أخبرتني امرأةٌ أردنية في نيسان/أبريل 2019: "أنا لا أشعر بأن هذا البلد بلدي، فلماذا أهتم لو انشبّت النيران فيه؟"
الاستياء الاقتصادي يهدّد بتوحيد المعارضة السياسية
ومع ازدياد الاستياء الشعبي من الفساد وارتفاع معدل عدم العدالة الاقتصادية، تغيّرت التركيبة الطائفية للاحتجاجات والخطابات المعتادة. ففي لبنان المعروف بالطائفية السياسية، اندلعت مظاهرات في نهاية العام 2019 من شتى الطوائف، إذ تظاهر المواطنون السنة والشيعة والمسيحيون ضد النخبة الفاسدة المتعددة الطوائف. وفي الشهر نفسه، اجتمع السنة والشيعة العراقيون احتجاجاً على رؤسائهم الفاسدين، ما شكّل تناقضًا صارخًا مع الوضع الطائفي المعتاد هناك.
وفي صيف العام 2019، وتّرت المظاهرات في الأردن الحكومة بسبب حجمها الكبير وتركيبتها المتنوعة. فاجتمعت جماهير من العشائر الأردنية من غير الأصول الفلسطينية مع أردنيين من أصولٍ فلسطينية اعتادوا عدم المشاركة في المظاهرات مع بعضهم البعض بسبب الانقساماتِ والاختلافات التاريخية بينهم.
ولطالما دافعت حكومات الشرق الأوسط والنخب الحاكمة عن تفضيلها للتحرر الاقتصادي والامتناع عن الإصلاح السياسي، باعتبار أن هذا النهج يحافظ على الاستقرار ويتفادى التغيير الفوضوي. ولطالما قبل المانحون الدوليون بهذا المبدأ لأنهم يرون أن الاستقرار في المنطقة أهم من المصالح الاقتصادية والأمنية. لكنهم عن غير قصدٍ يدعمون سياسات النخب التي تزيد لهيبِ التوتراتِ الطبقية وتفاقم الانقسام بين المواطنين وحكوماتهم، وبالتالي يرفعون احتمالات حدوث تحولٍ مدمر وعنيف بدلاً من خفضها.
طريقٌ أفضل في المستقبل
إذا أرادت الولايات المتحدة وغيرها من المانحين الدوليين تقليل خطر حدوث تغييرٍ فوضوي وعنيف في الشرق الأوسط كما شهدنا خلال فترة الربيع العربي، فعليهم التخلي عن فكرة أن التحرر الاقتصادي الذي تقوده النخب من غير ضمانات للإصلاح السياسي ستؤدي إلى الاستقرار في المنطقة. بل إن الأسلوب الأكثر فعالية هو الدمج بين الدعوةِ إلى الإصلاح الاقتصادي والحكم الصالح جنباً الى جنب. مثلاً، يجب على القروض والمنح ألا تكون مشروطة بالخصخصة والهيكلة الضريبية فحسب، بل يجب تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد.
يُعتبر إصرارُ صندوق النقد الدولي مؤخراً على أن يكافح لبنان الفساد قبل تلقّي أي منحٍ إضافية خطوةً في الاتجاه الصحيح. إضافةً إلى ذلك، سيعطي التوجه نحو تمكين الهيئات التشريعية بما يتجاوز أدوارها الحالية المجتمعاتِ الغاضبة في المنطقة بديلاً عن التظاهر في الشارع. وهذه الإصلاحات على الأغلب ستحسّن الحكم والأداء الاقتصادي على حدٍّ سواء، وفقًا لتحليلاتِ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حول تأثير الفساد والممارسات الاحتكارية وإعاقتهما للمنطقة.
تمثّل الإدارة الأميركية الجديدة فرصةً ملائمة لإحداث تغييرٍ في السياسة المتبعة. فإن دمج الإصلاح السياسي مع مبادرات الإصلاح الاقتصادي القائمة يتوافق مع الرغبة المعلنة للرئيس المنتخب جو بايدن من أجل جعل مكافحة الفساد أحد أهم مبادئ سياسته الخارجية. وتحسّباً لتقويض هذه الجهود من قبل المانحين غير الليبراليين مثل الصين ومنحِها غير المشروطة بمكافحة الفساد، دعت الإدارة الأميركية إلى عقدِ قمةٍ للديمقراطية خلال أول عام لها لتنسيق العمل الدولي لمكافحة الفساد والأنظمة السلطوية.
وكلّما سرّعت الولايات المتحدة وغيرها من المانحين الدوليين التصدّي لمشكلة استغلالِ نخبِ الشرق الأوسط عبر أجندة إصلاحية هدفها صون مصالحهم الشخصية، زادت فرص تحقيق استقرار فعلي في المنطقة.