الجيل الأعظم وإرثه المهدور
بروجيكت سنديكيت
2020-09-19 06:34
بقلم: دارون أسيموغلو
كمبريدج ــ من منظور جيل ما بين الحربين في النصف الأول من القرن العشرين، كانت أزمات اليوم لتبدو عادية من غير ريب. فقد عاينوا ما هو أفظع كثيرا: الحربين الأكثر دموية في تاريخ البشرية، والبطالة الجماعية، والفقر المدقع الذي خلفته فترة الكساد العظيم (الذي لا تزال فترات الركود التي شهدها هذا القرن تبدو ضئيلة مقارنة به)، وتهديدات أشد خطورة للديمقراطية في هيئة الشيوعية السوفييتية، والفاشية، واشتراكية هتلر الوطنية.
ومع ذلك، قد يكون حل مآزق اليوم أشد صعوبة، لأن أغلبها يستلزم التعامل معه من خلال الحوكمة العالمية، التي لم تعد متوفرة. صحيح أن العولمة ساهمت أيضا في توسيع فجوات التفاوت وزعزعة استقرار الاقتصادات الوطنية في أوائل القرن العشرين، وأن الكساد العظيم كان إلى حد كبير أزمة جهازية نشأت في الولايات المتحدة، وابتليت بها معظم البلدان الأخرى عن طريق الأسواق الدولية. ولكن في نهاية المطاف، كانت المشكلات الجوهرية التي احتاج جيل ما بين الحربين إلى حلها على مستوى الدولة القومية.
أدرك صناع السياسات في ذلك الوقت أن عدم استقرار الاقتصاد الكلي، واقتصادات السوق غير المنظمة، وفجوات التفاوت المتزايدة الاتساع، كانت الأسباب الجذرية وراء أغلب مشاكلهم. ومن خلال التجريب مع العلاجات المؤسسية وصياغة أفكار جديدة، أرسوا الأساس لدولة الرفاهة الديمقراطية الاجتماعية. وأصبحت القاعدة إدارة الاقتصاد الكلي، والضرائب التصاعدية وإعادة التوزيع، وقوانين الحد الأدنى للأجور، وضوابط السلامة في محل العمل، ومزايا التأمين الصحي والتقاعد التي تقدمها الحكومة، وشبكة الأمان الاجتماعي للأقل حظا.
تشكلت دولة الرفاهة الحديثة لأول مرة في الدول الإسكندنافية ــ وخاصة في السويد بعد أول انتصار انتخابي أحرزه حزب العمال في عام 1932 ــ ثم ترسخت بشكل أكبر في تقرير بيفردج الصادر في المملكة المتحدة عام 1942، الذي قدم مخططا مؤسسيا شاملا حتى برغم أن الحرب العالمية الثانية كانت لا تزال مستعرة. وعلى مدار العقد التالي، ظهرت رؤى مماثلة واضحة عبر أوروبا القارية. وفي كل حالة، كانت السياسات المقترحة تندرج بالكامل ضمن اختصاص الحكومات الوطنية، وكان من الممكن تصميمها على نحو يعمل على تعزيز الديمقراطية وتهميش القوى السياسية التي تسببت في اندلاع حربين عالميتين.
بطبيعة الحال، تخطت حتمية الحفاظ على السلام الحدود الوطنية؛ لكن هذا المشروع بدأ بضمان استقرار الاقتصاد الكلي والازدهار المشترك على المستوى الوطني. وكما تنبأ إيمانويل كانط في عام 1795، فإن الديمقراطية النشطة في الداخل كفيلة بتوليد التعاون في الخارج.
لكن قادة ما بعد الحرب علقوا آمالهم على ما يزيد على نظرية كانط. ففي أوروبا، أقاموا مؤسسات جديدة فوق وطنية، بدءا بالجماعة الأوروبية للفحم والصلب، التي تأسست بموجب معاهدة باريس في عام 1951. كانت هذه الترتيبات ناجحة إلى حد غير عادي، وكان نجاحها بشيرا بأربعة عقود من الازدهار الديمقراطي، والسلام الدولي، واستقرار الاقتصاد الكلي، والرخاء الواسع النطاق. لم يحدث من قبل قَـط أن تمتع مثل هذا العدد الكبير من البلدان بمثل هذا النمو الاقتصادي السريع المشترك على نطاق واسع وبشكل متزامن.
السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان من الممكن تكرار هذا الإنجاز المجيد من فترة ما بعد الحرب. هل تكون الجائحة نوبة الصحيان التي تدفع الحكومات الديمقراطية إلى تطوير عقد اجتماعي جديد للقرن الحادي والعشرين؟ أجل، ولكن فقط إذا أدركنا الطبيعة العالمية لأزمات اليوم ــ ليس فقط أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، بل وأيضا تغير المناخ، وتهديد الحرب النووية، وغير ذلك من المخاطر المشتركة.
في ما يتعلق بقضية تغير المناخ، نجد أن الحلول الوطنية غير كافية ببساطة في هذه المرحلة. وربما يكون الوضع أشد سوءا في ما يتصل بالتهديد النووي، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الفئة من المخاطر الوجودية تكتسب المزيد من الشدة بسبب توسع و"تحديث" الترسانة النووية القائمة.
علاوة على ذلك، هناك العديد من المشاكل الأخرى العالمية في نهاية المطاف برغم أنها تبدو وطنية. لنتأمل هنا مسألة التفاوت بين الناس، التي ترجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية: العولمة، والأتمتة (التشغيل الآلي) واختلال توازن القوى المتنامي بين رأس المال والعمل.
ساهمت العولمة في هذه المشكلة جزئيا لأن قواعدها صيغت بحيث يستفيد منها أصحاب الأعمال، ورأس المال المالي، والعمال من ذوي المهارات العالية، على حساب الجميع غيرهم. على سبيل المثال، يمكن تصنيع المنتجات الكثيفة العمالة في بلدان حيث ترتيبات المساومة والتفاوض ضعيفة أو لا وجدود لها، بما يسمح بقمع الأجور منهجيا. لن نجد دولة واحدة قادرة بمفردها على السيطرة على القواعد التي تسمح بالاستعانة بمصادر خارجية ونقل التصنيع والخدمات إلى الخارج على هذا النحو، ولا تملك أغلب الدول خيار عزل ذاتها عن العولمة.
على نحو مماثل، في حين تستطيع الحكومات الوطنية التأثير على الأتمتة من خلال السياسات الضريبية والتنظيمية، فإن قدرتها على السيطرة محدودة في نهاية المطاف. وإذا كانت الحكومة الصينية أو الأميركية تضغط على الشركات المتعددة الجنسيات لتطوير تكنولوجيات مراقبة أكثر قوة، وإذا كانت أولويات شركات التكنولوجيا العملاقة تكمن في الاستعاضة عن العمال من البشر بالخوارزميات بلا هوادة، فإن هذه الاتجاهات ستحدد مسار العالم بأسره. ورغم أن الميل نحو الاستعانة بالأتمتة التي تحل محال العمالة يفرض تكاليف باهظة بالفعل على العمال في الاقتصادات المتقدمة، فإنه يهدد بإحداث قدر أعظم من الآلام في البلدان النامية، حيث تشكل العمالة الوفيرة الـمُـدخَل الرئيسي للإنتاج.
أخيرا، هناك قِلة قليلة للغاية من السبل التي يمكن من خلالها تمكين العمال من استعادة قدرتهم على المساومة عندما يتسبب التهديد المستمر بهروب رأس المال في تقييد أيدي صناع السياسات الوطنية. وحتى لو قامت الحكومات الوطنية بزيادة الضرائب على رأس المال فوق المستويات الهزيلة الحالية، فإن قدرا كبيرا من الإيرادات المأمولة سيجري توجيهه من خلال الحيل الـمحاسبية والملاذات الضريبية في الخارج.
زعم رجل الاقتصاد داني رودريك من جامعة هارفارد أن الحد من العولمة الاقتصادية من الممكن أن يخلق حيزا أكبر لسياسات الاقتصاد الكلي الوطنية. لكن الحد من العولمة لن يقلل من حجم المشاكل العالمية. ففي ما يتعلق بتغير المناخ، والتهديد النووي، والعديد من القضايا الأخرى، لا مجال للاختيار سوى صياغة حلول عالمية من خلال المؤسسات المتعددة الأطراف.
تُـظـهِـر تجربة ما بعد الحرب أن بناء مؤسسات فـعّـالة يستلزم أولا توفر رؤية مشتركة. ومع ذلك، هذا هو على وجه التحديد ما يفتقر إليه المجتمع الدولي حاليا. وما يزيد الطين بلة أن المؤسسات المتعددة الأطراف الضعيفة بالفعل من المرجح أن تتحمل قدرا أكبر من المعاناة في المستقبل القريب، حيث يعمل تخصيص لقاحات كوفيد-19 على تعميق خطوط الصدع القائمة بين البلدان والمناطق.
كان بإمكاننا أن نتجنب إخفاقات الحكم التي أوصلتنا إلى هذه النقطة. وعلى الرغم من التحذيرات المسهبة، فإننا لم نتعامل بجدية حتى الآن مع التحديات العالمية التي تنتظرنا، ناهيك عن الاستعداد لها. ربما تُـربِـك مشاكلنا الحالية جيل ما بين الحربين، لكنه سينبهر بلا أدنى شك إزاء الفوضى التي خلقناها لأنفسنا.