عندما تُهمَّش المعرفة
مركز كارنيغي
2019-10-29 09:03
بقلم: ه. هيليير
الإجراءات ضد العرب والمسلمين تَحول دون قدرتهم على التعبير عن آرائهم حول شؤون منطقة يعتبرها الغرب أساسية.
فيما يتنقّل محللون وصحافيون وأكاديميون من الدول العربية بين الغرب والعالم العربي الأوسع، غالباً مايواجهون مأزقاً لافتاً. فهم يجدون صعوبة في الإفادة من خبراتهم داخل البلدان العربية، ماقد يدفعهم، في معظم الأحيان، إلى اتّخاذ موقف انتقادي من الأنظمة السلطوية التي تعتبر أن المعرفة الوافرة تطرح تهديداً محتملاً للإملاءات الرسمية التي تفرضها. ولكن عندما يسافر هؤلاء الأشخاص ذوو الأصول العربية إلى الغرب، قد يواجهون سهام التعصّب التقليدي. وتنجم عن هذا التزاوج المقلق بين المعرفة والأحكام المسبقة مضاعفات حقيقية على الدول الغربية.
أنا محلل بريطاني من عرقٍ مختلط يجمع بين الأصل الإنكليزي الأبيض وأصول عربية مختلفة. وأعتقد أن هذا سبب خلف توقيفي في مطار هيثرو في لندن الشهر الماضي على يد شرطي شديد التعصّب في القوة الحدودية البريطانية. لقد اعتبر أنني أشعر بالضغينة لأنني أشرت إلى أنه من غير المفاجئ أن أتعرّض إلى التوقيف بما أن بشرتي ليست بيضاء وأنني أُطلق لحيتي. وماعزّز اعتقاده هذا كلامي عن أن الأشخاص البيض لم يتعرضوا إلى الاستجواب، الأمر الذي أغضب الشرطي. ولكن مسألة التنميط العرقي لاتقتصر على ذلك الشرطي أو أي فرد آخر؛ بل إنها مسألة بنيوية ومنظومة يعمل ضمنها عناصر الشرطة على غرار الشرطي الذي قام بتوقيفي.
هذا النوع من التعصّب البنيوي متفشٍّ بكثرة. ولا أتحمّل شخصياً وزره الأسوأ، لابل أنا محظيٌّ جداً لأسباب مرتبطة بالتعليم والجندر والخلفية الاقتصادية والاجتماعية وبالجنسية التي أنتمي إليها. ولكنني غالباً ما أقع على تعصّبٍ من هذا القبيل تجاه العرب والمسلمين وغيرهم من أبناء العالم العربي، ويحول ذلك دون القدرة على الوصول إلى مَن يمكنهم تقديم معلومات سياقية ومعارف عن منطقةٍ ينظر إليها عدد كبير من الغربيين بأنها تهديد لهم. ويؤدّي أيضاً إلى تراجع في أعداد تأشيرات السفر الممنوحة إليهم، وإلى توجيه الشعبويين الغربيين إدانةً علنية لهؤلاء الأشخاص، فضلاً عن ظهور نزعة تميل إلى وضع الدول العربية في السلّة نفسها، واعتبارها جميعها عنيفة و"مختلفة" حكماً.
بعض هذا التعصّب واضحٌ في الصحف الكبرى، حيث كتب معلّقون مؤثِّرون مثل بريت ستيفنز عن "وباء العقل العربي" في صحيفة وول ستريت جورنال. وقد انطوت عبارته هذه على نزعة عنصرية سافرة. وبدلاً من أن يُعاقَب ستيفنز، طُلِب منه كتابة عمود بصورة منتظمة في نيويورك تايمز، "صحيفة السجلات" الليبرالية. والأمثلة كثيرة في مايتعلق بوسائل الإعلام التي وُضِع عدد كبير من البحوث الأكاديمية عنها، وبينها بحوث أُجريَت بعناية شديدة، مثل "شركات الخوف" (Fear Inc) أو "صناعة رهاب الإسلام" (The Islamophobia Industry). ليس السؤال الحقيقي المطروح إذا كان التعصب موجوداً في وسائل الإعلام في التعاطي مع العرب والمسلمين؛ بل السؤال هو: كيف يُغذّى هذا التعصب؟
لكن على المستوى التحليلي، ثمة طابعٌ آخر في هذا المنحى الاستثنائي في التعامل مع العرب والمسلمين، يتعلق بالأسلوب الذي ننتهجه في الغرب في تحليل شؤون العرب والمسلمين – سواء في مراكز الأبحاث والدراسات أو في المؤسسات الأكاديمية أو في دوائر السياسات. أحياناً يكون التحيّز سافراً؛ وأحياناً أخرى يكون موقفاً يتخذه الأشخاص عن غير دراية؛ ولكنه موجود، ولايزال محط تجاهل إلى حد كبير.
لحسن الحظ، ثمة توجّه في عدد كبير من المحافل التحليلية إلى الإصرار على الاستماع إلى وجهة نظر المرأة، لا الرجل فقط، وإشراكها في نقاشاتنا عن المسائل الآنية. وفي معظم الأحيان، تتيح الرغبة الواعية في تحفيز هذا التنوّع في الآراء الإفادة من تجربةٍ تعلّمية لم تكن لتتبلور لولا ذلك. ولهذا السبب، تكتسب قيمة كبيرة في حد ذاتها.
لكن في أغلب الأحيان، تصدر التحاليل، على غرار تلك التي ترد في جلسات نقاش عن المنطقة، على لسان خبراء لم يخصصوا الوقت الكافي للاطلاع كما يجب على وجهات النظر المتجذّرة في المنطقة، ناهيك عن عدم دعوة أشخاص من شأنهم التعبير عن تلك الآراء. لست أقول إنه يجب أن تضم جلسات النقاش أشخاصاً من العالم العربي حصراً عند الحديث عن شؤون المنطقة. ولكنني أعتبره أمراً عبثياً وغير منطقي ألا تكون التحاليل متجذّرة في تجارب أبناء المنطقة. وهذا غير ممكن عندما يكون المحللون أو الأكاديميون المشاركون في النقاشات غير ملمّين بلغات الشعوب التي يتحدثون عنها، أو عندما لايزورون تلك البلدان سوى لفترات قصيرة جداً سنوياً، أو في حالة المحللين والأكاديميين الذين ينطبق عليهما الأمران معاً.
الزعم الضمني خلف هذه المعطيات هو أن شعوب المنطقة لاتستحق القدر نفسه من الاهتمام الذي نطلبه لأنفسنا في المقابل. تخيّلوا مثلاً السخرية التي يمكن أن يتعرض لها مواطنٌ مصري لايعرف سوى القليل من الإنكليزية ويزور الولايات المتحدة لفترة لاتزيد عن أسبوع تقريباً في السنة، ولكن ذلك لايمنعه من التباهي بالحديث عن تعقيدات السياسة الأميركية. غير أن هذا المشهد شائع جدّاً في المقلب الآخر، علماً بأن ثمة بعض المحللين الغربيين المتخصصين في شؤون العالم العربي والذين يُعتبَرون ممتازين بكل ما للكلمة من معنى.
للمفارقة، وبعد انتخاب دونالد ترامب، الشعبوي اليميني، رئيساً للولايات المتحدة، بتُّ أقل اضطراراً إلى تفسير مدى غرابة أن تدعم شعوب عربية مختلفة بعض الخطوات السياسية أو تعارضها. تكشف ظاهرة ترامب عن أننا جميعنا قادرون على اتخاذ قرارات سيئة، بما في ذلك الأشخاص ذوو المستويات الأعلى من التحصيل العلمي في العالم.
ولكن يتواصل تعميم أوجه التعصب التي تتحول جزءاً من الاتجاه السائد، ولاشك في أن ذلك يؤثّر في فهمنا للعالم العربي بطرقٍ لانفطن لها دائماً. في الواقع، قد يرغب بعضنا في الغرب في استقدام أشخاص من المنطقة إلى بلداننا لتفسير الأوضاع على الأرض، ولكنهم يعجزون عن ذلك لأن حكوماتنا تفرض مختلف أنواع القيود على التأشيرات. ويتخطّى ذلك "الحظر على المسلمين" الذي تشهده الولايات المتحدة، والذي تمارس الافتراضات البنيوية الكامنة وراءه تأثيراً كبيراً على العرب أو المسلمين الذين يتقدمون بطلبات للحصول على تأشيرات، وبينهم حتى أشخاصٌ يملكون جوازات سفر غربية، ويعجز هؤلاء عن إيجاد مبررات تُفسّر أسباب استبعادهم.
بعبارة أخرى، الأشخاص الذين نحن في أمس الحاجة إليهم لفهم العالم العربي، يُنظَر إليهم في معظم الأحيان بأنهم غرباء ويُشكّلون تهديداً لنا. يجب احتضان معارفهم، لا التشكيك بها. فهم في مختلف الأحوال المعنيّون الأوائل بما يجري. ففي نهاية المطاف، شعوب المنطقة هي التي تعيش الواقع على الأرض وتدفع الثمن الأغلى للاستبداد والتطرّف. يجب تسليط الضوء على وجهات نظرهم بدلاً من التعتيم عليها من جانب الجهات التي لاتزال تعتبر العالم العربي، إلى حد كبير، مصدر قلق لها من الناحية النظرية. عندما يتسبب التعصّب بتقويض المعرفة، تكون التداعيات سلبية على الجميع.