الدستور لن ينقذ الديمقراطية الأميركية
بروجيكت سنديكيت
2019-09-29 07:07
بقلم: دارون أسيم أوغلو/جيمس أ. روبنسون
كمبريدج ــ كانت الأنباء الواردة عن الاتهام الذي وجهه أحد الوشاة من مجتمع الاستخبارات إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه قَدَّم وعودا غير لائقة لزعيم أجنبي سببا في إعادة إشعال شرارة الآمال التي عُـلِّقَت مؤخرا على تقرير المستشار الخاص روبرت ميولر. وكثيرون من أولئك الذين شعروا بالغضب الشديد إزاء رئاسة ترمب التي انتهكت المعايير، ولوت الحقائق، واستقطبت المجتمع، كانوا يعتقدون أن النظام قادر بطريقة أو بأخرى على تأديبه، أو تقييده، أو طرده. لكن هذه الآمال كانت مضللة آنذاك، ولا تزال مضللة الآن.
لا ينبغي لغالبية الناخبين الذين سئموا من ترمب والحزب الجمهوري الذي خسر الولاء بسببه أن ينتظروا من العالمين ببواطن الأمور في واشنطن، أو فارس على جواده الأبيض، أن يحاسبوا ترمب على تجاوزاته. إنها مسؤولية المجتمع، أولا وقبل كل شيء في صندوق الاقتراع، ومن خلال الاحتجاج في الشوارع إذا لزم الأمر.
الواقع أن التصور الخيالي بأن الولايات المتحدة يمكن إنقاذها من قِبَل العالمين ببواطن الأمور في واشنطن والدستور يشكل جزءا من سرد مشترك حول أصول المؤسسات الأميركية. وفقا لهذا السرد، يدين الأميركيون بديمقراطيتهم وحرياتهم للتصميم الألمعي البعيد النظر الذي رسمه المؤسسون لنظام يشمل الأشكال والأنماط الصحيحة من الضوابط والتوازنات، والفصل بين السلطات، وغير ذلك من الضمانات.
كما نوضح في كتابنا الجديد "الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية"، هذه ليست الطريقة التي تنشأ بها المؤسسات والحريات الديمقراطية. فهي تنشأ من ــ وتحظى بحماية ــ حشد المجتمع، وعزيمته، واستعداده لاستخدام صندوق الاقتراع عندما يستطيع والشوارع عندما لا يستطيع. والولايات المتحدة ليست استثناء.
سعى مؤسسو الولايات المتحدة، مثل النخب الاقتصادية والفكرية في بريطانيا في ذلك الوقت، إلى وضع قوانين وإنشاء مؤسسات تعمل على دعم دولة قوية ومقتدرة تحت سيطرة حكام متشابهين في الفِكر. ورأي كثيرون منهم أن النظام الملكي هو الترتيب الأفضل.
عكس دستور الولايات المتحدة، الذي كُتِبَ في عام 1787، هذه التصورات المسبقة. ولم يتضمن ميثاق حقوق المواطنين، بل إنه كَرَّس العديد من العناصر غير الديمقراطية. ولم يكن هذا من قبيل السهو أو الخطأ غير المقصود. إذ كان هدف المؤسسين الرئيسي تهدئة الحماسة الديمقراطية المتصاعدة بين الأميركيين العاديين وإخضاع المجالس التشريعية على مستوى الولايات، التي عمل سلف الدستور، "وثائق الكونفدرالية"، على تمكينها.
في أعقاب حرب الاستقلال، كان كثيرون من المفتونين بالحريات الجديدة التي وُعِدوا بها، عازمين على المشاركة النشطة في صنع السياسات. وكانت الولايات تستجيب للضغوط الشعبية، فتعفي الناس من الديون، وتطبع النقود، وتحصل الضرائب. وقد أذهل إسرافها واستقلاليتها العديد من المؤسسين، وخاصة جيمس ماديسون، وألكسندر هاملتون، وجورج واشنطن، الذين رأوا أن ذلك النهج مخرب وهَدّام. ولم يكن الغرض من الدستور الذي عكفوا على صياغته إدارة السياسة الاقتصادية الوطنية والدفاع فحسب، بل وأيضا إعادة جني الديمقراطية إلى القمقم.
أَكِّد مادسيون على هذا ببلاغة: "يتعين عليك أولا أن تعمل على تمكين الحكومة من السيطرة على المحكومين؛ ثم تلزمها بالسيطرة على ذاتها". الواقع أن المؤسسين لم يعتقدوا أن السماح للناس بالاحتجاج، أو انتخاب ممثليهم مباشرة، أو الانخراط بإفراط في السياسة، فكرة جيدة.
على نحو مماثل، أعرب ماديسون عن قلقه من أن "زيادة عدد السكان ستؤدي بالضرورة إلى زيادة نسبة الكادحين في مواجهة كل مصاعب الحياة، والذين يتمنون سِرا توزيعا أكثر مساواة للنِعَم. وبمرور الوقت، قد يتجاوز عدد هؤلاء أعداد نظرائهم الذين يحتلون مكانا يجعلهم فوق مشاعر وهموم العوز". كان المقصود من الدستور منع الرغبة في "توزيع أكثر مساواة للنِعَم" من التحول إلى سياسة فعلية.
كان تمرد شيس في ماساتشوستس الغربية في الفترة 1786-1787، عندما حمل نحو 4000 شخص السلاح بقيادة دانييل شيس، أحد قدامى الحرب الثوريين المخضرمين، احتجاجا على المصاعب الاقتصادية الشديدة، والأعباء الضريبية الثقيلة، والفساد السياسي، أحد العوامل التي حفزت وضع الدستور. وكان عجز الحكومة الفيدرالية عن حشد وتمويل جيش لقمع التمرد بمثابة "نوبة صحيان": فقد تجلت بوضوح الحاجة إلى دولة أشد قوة لاحتواء وقمع التعبئة الشعبية. وكان الغرض من الدستور تحقيق هذه الغاية على وجه التحديد.
لكن تلك المحاولة لم تتبع المسار المخطط لها بشكل كامل. فقد قوبلت الجهود التي بذلها مؤسسو الدولة بالشك والريبة. وكان كثيرون يخشون العواقب المترتبة على قيام دولة قوية، وخاصة بمجرد انحسار الحماسة الديمقراطية. وتنامت الدعوات المطالبة بضمانة صريحة لحقوق الناس، وبدأ ماديسون ذاته يدافع عن ميثاق الحقوق لإقناع ولايته فيرجينيا بالتصديق على الدستور. ثم خاض سباق الرئاسة مستعينا ببرنامج مؤيد لميثاق الحقوق، زاعما أنه ضروري "للتوفيق بين عقول الناس".
تضمن الدستور الضوابط والتوازنات والفصل بين السلطات جزئيا "لإلزام الحكومة بالسيطرة على ذاتها". لكن الغرض الأساسي من تلك الضوابط والتوازنات لم يكن جعل أميركا أكثر ديمقراطية وحقوق الشعب أكثر مناعة. فمن منظور المؤسسين، كانت هذه الترتيبات الدستورية، بما في ذلك مجلس الشيوخ النخبوي غير المنتخب بشكل مباشر، لازمة ليس لحماية الناس من الحكومة الفيدرالية، بل لحماية الحكومة من الحماسة الديمقراطية المفرطة.
ليس من المفاجئ إذا أن نكتشف أن الحقوق والحريات الديمقراطية تعززت في المنعطفات الحرجة من التاريخ الأميركي، ليس بفضل الضمانات التي وفرها النظام ضد الديمقراطية المفرطة أو التصميم البارع الألمعي للدستور، بل بفِعل التعبئة الشعبية.
على سبيل المثال، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما تمكن أباطرة المال الأقوياء، "البارونات اللصوص"، من السيطرة على اقتصاد أميركا وسياستها، لم يتسن كبح جماحهم عن طريق المحاكم أو الكونجرس (على العكس، فقد سيطروا أيضا على مثل هذه الأفرع من الحكومة). بل لم تتأت مُساءَلة البارونات اللصوص والمؤسسات التي عملت على تمكينهم عن انتهاكاتهم إلا من خلال حشد وتنظيم الناس وتمكنهم من انتخاب ساسة واعدين لتنظيم وضبط أباطرة المال، وتسوية أرض الملعب الاقتصادي للجميع، وزيادة المشاركة الديمقراطية، من خلال تقديم الانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ، على سبيل المثال.
على نحو مماثل، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لم يكن الفصل بين السلطات هو الذي قصم أخيرا ظهر العنصرية القانونية والقمع في الولايات الأميركية الجنوبية. بل كان ذلك من عمل المحتجين الذين نظموا، وعطلوا، وبنوا حركة جماهيرية حاشدة أجبرت المؤسسات الفيدرالية على التحرك. وأخيرا جرى إقناع الرئيس جون كينيدي بالتدخل والذي قَدَّم في وقت لاحق قانون الحقوق المدنية في الاستجابة لما سُمي "حملة الأطفال" في الثاني من مايو/أيار من عام 1963، حيث جرى اعتقال المئات من الأطفال في برمنجهام بولاية ألاباما لمشاركتهم في الاحتجاجات. وعلى حد تعبير كينيدي: "تسببت الأحداث في برمنجهام وأماكن أخرى في ارتفاع حدة الصرخات المطالبة بالمساواة حتى لم يعد بوسع أي مدينة أو ولاية أن تختار تجاهلها".
اليوم أيضا، لن ينقذ الولايات المتحدة في ساعة الارتباك السياسي والأزمة سوى تعبئة المجتمع. ولا يمكننا أن نعتمد على فرسان على خيول بيضاء أو ضوابط أو توازنات لتنفيذ هذه المهمة. وحتى لو كان ذلك واردا، فإن أي شيء آخر غير الهزيمة المدوية الساحقة في صندوق الاقتراع من شأنه أن يجعل أنصار ترمب يشعرون بأنهم مظلومون ومخدوعون، فتتعمق حالة الاستقطاب. الأسوأ من ذلك أن هذا سيمثل سابقة من شأنها أن تعمل على "تمكين النخب من مراقبة وضبط النخب"، وبالتالي إحالة المجتمع إلى درجة أعظم من السلبية. في هذه الحالة، ما الذي قد يحدث المرة القادمة عندما يُقدِم زعيم معدوم الضمير على ارتكاب أفعال أسوأ حتى من تلك التي ارتكبها ترمب ولا تسارع النخب إلى الإنقاذ؟
من هذا المنظور، كانت الهدية الأعظم التي قدمها ميولر للديمقراطية الأميركية عبارة عن تقرير امتنع عن إطلاق عملية المساءلة والعزل، لكنه فضح كذب ترمب وفساده وجرائمه حتى يتسنى للناخبين الحشد والتعبئة من أجل ممارسة سلطتهم ومسؤوليتهم عن استبدال القادة الفاسدين الطالحين.
الدستور لن ينقذ الديمقراطية الأميركية. ولم يسبق له أن فعل ذلك قَط. المجتمع الأميركي هو الوحيد القادرة على القيام بهذه المهمة.