فشل نموذج الدولة الريعية
قراءة في الأزمة الفنزويلية
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2019-08-22 04:40
بقلم: آية بدر عليوة عبد السلام، باحثة ماجستير علوم سياسية جامعة القاهرة
ألقت الأزمة الفنزويلية بظلالها على الأوضاع السياسية والاجتماعية، إضافة إلى ما لها من أبعاد دولية، تعيد إلى الأذهان صراعات الحرب الباردة بين القوى المتنافسة. وتسلط هذه الورقة الضوء على العوامل السياسية والاقتصادية المفسرة لتفاقم هذه الأزمة، والعوامل الخارجية المتمثلة بالتنافس بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي في مواجهة الجانب الصيني الروسي.
وتعدّ فنزويلا أحد أكبر منتجي النفط عالميًا؛ لذلك، لا يمكن فهم الأزمة الراهنة من دون تناول عامل النفط، بوصفه المورد الرئيس للنظام الفنزويلي، ولما له من تأثير محوري في مجريات الأحداث باعتبار فنزويلا دولة ريعية.
وبالاستناد إلى الأطر النظرية والمنهجية للاقتصاد السياسي المفسرة لنموذج الدولة الريعية، تحلل الورقة الأزمة الراهنة التي تمتد جذورها إلى فترة حكم هوغو تشافيز اليسارية التي ورثها نيكولاس مادورو في أعقاب تراجع أسعار النفط ومن ثم عائداته، وانعكاس ذلك التدهور الاقتصادي على الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد. وتوقعت الورقة عددًا من السيناريوهات المحتملة للأزمة الراهنة؛ فإما أن ينجح مادورو في إنهاء حالة الفوضى ويوطد نظامه السياسي بالاستفادة من دعم روسيا والصين، وإما أن يتخلى الجيش عن تأييده ويطيحه بانقلاب عسكري، وإما أن ينجح خوان غوايدو في إطاحة النظام الحالي وإجراء الانتخابات، سواء بتنحي مادورو طوعًا أم بنجاح الضغوط الداخلية والخارجية خاصة منها الأميركية.
تمهيد
تتسم الاقتصاديات الريعية بتأثرها الشديد بالمتغيرات والتقلب الدائم لأدائها بين النمو والركود، الأمر الذي ينعكس على الاستقرار السياسي للدول التي تعتمد اعتمادًا رئيسًا على عوائد الريع المتغيرة، بدلًا من اعتمادها على الاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج، ومن ثم، تكون أكثر عرضة لعدم الاستقرار؛ بسبب اندلاع الأزمات السياسية والاقتصادية فيها. وكذلك الحال في الدول المنتجة للنفط التي تعتمد بشدة على عائدات النفط، ونجحت في تحقيق طفرات، بفضل ارتفاع أسعار النفط، ثم وقعت في مأزق عند انخفاضها. تدرس هذه الورقة أسباب تفاقم الأزمة الفنزويلية، بوصفها نموذجًا للدولة الريعية التي تأثرت باضطراب أسعار النفط، فاضطربت أوضاعها، داخليًا وخارجيًا، في عهد مادورو، على النقيض من الطفرة التي شهدتها فنزويلا في عهد سلفه تشافيز.
نموذج الدولة الريعية
وفقًا للأطر النظرية التي تناولت نموذج الدولة الريعية، فإن الدولة تصاب بما يطلق عليه "لعنة الموارد"، خاصة الدول النامية المنتجة للنفط؛ إذ ساهمت إيرادات النفط في تحقيق طفرة من النمو لدى هذه الدول، من دون أن تصاحبها تنمية حقيقية، أو إصلاح سياسي ومؤسسي، فالدولة تعتمد في الحصول على مواردها على إيرادات النفط، من دون وجود إنتاج حقيقي، ومن ثم يكون اقتصادها معتمدًا كليًا على سعر النفط[1]، وتوظف تلك العائدات لتكسب ولاء المواطنين الذين يتحولون إلى رعايا منتفعين بما توفره لهم من خدمات، فتتجنب ضغوطات الشعب ومطالبه، من خلال علاقة زبونية، تمنح الدولة شرعيتها للاستمرار في الحكم مع استمرارية ارتفاع مستوى معيشة المواطنين، وانخفاض الريع يهدد شرعية النظام واستقراره. وينتج من الريعية غياب المحاسبة والشفافية في ضوء عدم الاعتماد على تحصيل الضرائب من المواطنين، بوصفها موردًا رئيسًا للدولة[2]، فضلًا عن الفساد في توزيع العائدات النفطية على الدوائر المقربة من السلطة الحاكمة[3]، ومن ثم يتسبب نموذج الدولة الريعية في تعزيز السلطوية، وعرقلة الديمقراطية في الدول النامية الضعيفة مؤسسيًا[4].
جذور الأزمة
شهدت أسعار النفط العالمية بدايات ارتفاعها في عام 2000، وبلغت أعلى قيمة لها في عام 2008، وهو ما منح نظام تشافيز طفرة هائلة في موارده، كان من المفترض أن تنعكس إيجابيًا على أداء الاقتصاد والنظام السياسي، وتحقق تنمية حقيقية، لو أُحسنت إدارتها، وتوافرت أطر وسياسات داعمة لاستمراريتها، في ظل اقتصاد حقيقي قائم على الإنتاج وتعدد الموارد. إلا أن النظام الشعبوي وظف الريع النفطي في تمويل سياسات الدعم الاجتماعي الهادفة إلى استمالة الفقراء، وكسب ولائهم؛ كي يمنحوا شرعية لنظامه السلطوي الذي يعتمد على حكم الفرد، مقابل الضعف المؤسسي، وغياب الحقوق والحريات، متسترًا بشعارات الثورة "البوليڤارية"[5].
تعكس مؤشرات أداء الاقتصاد الكلي الأثر الريعي وتبين حقيقة أداء الاقتصاد الفنزويلي المعتمد على النفط، على الرغم من نموه بنسبة 94 في المئة، بعد ارتفاع أسعار النفط في الفترة 2003-2008[6]، فارتفعت معدلات التضخم؛ ليبلغ أعلى مستوياته (63.40) في نهاية حكم تشافيز، وتدنّت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، لتسجل قيمًا سالبة في بعض الفترات، وبلغ متوسط قيمته خلال تلك الفترة 2.53، وأدت السياسات الحكومية المركزية المتدخلة في الاقتصاد بغرض تحقيق الضمانات الاجتماعية للفئات المقهورة، إلى إرهاق موارد الدولة، من دون أن تسهم في حل إشكاليات الفقر، وانعدام المساواة؛ فقد ظلت معدلات الفقر مرتفعة، وبلغت في عام 2013 نحو 32.1 في المئة. وأضرت تلك السياسات باستقرار الاقتصاد، وحالت دون توفير مناخ جاذب للاستثمار الأجنبي، فقد عانت فنزويلا انخفاضًا في تدفقات رؤوس الأموال[7].
تبنّى تشافيز سياسات "الحق في الغذاء"، إلا أنها لم تتمكن من ضمان استمرارية إنتاج الغذاء وتوفيره للمواطنين، فقد اعتمد على الثروات لتوفير الدعم الغذائي للفقراء، عبر إنشاء "مهمات" غذائية تختص بتوزيع الغذاء المجاني، إضافة إلى إنشاء أسواق مملوكة للدولة، توفر المواد الغذائية في المناطق الفقيرة بأسعار مدعومة. وأسهمت تلك السياسات في توفير حلول على المدى القصير جدًا، لكنها فشلت في الحفاظ على ديمومة توافر المواد الغذائية المتناقصة باستمرار، بسبب سوء الإدارة الاقتصادية لتشافيز التي تفتقر إلى الإصلاح ودعم الإنتاج الزراعي الذي تضرر بسبب سياسات ضبط الأسعار، والتهديد بمصادرة الأراضي الزراعية، على نحوٍ فتح الباب للسوق السوداء[8].
اليسار في مأزق
تبنّى تشافيز سياسات تأميم الثروة النفطية لتحريرها من الهيمنة الأجنبية، لكن القطاع النفطي تأثر سلبيًا بالتدخل الحكومي وسيطرة شركة فنزويلا للبترول على الإنتاج، وهي شركة حكومية مملوكة للدولة، تحقق نحو 89.6 في المئة من العائدات الحكومية من النفط، وهو ما يمثل نحو 33.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتسببت تلك السيطرة الحكومية في الإضرار بالعائدات النفطية، بسبب عدم توفير المناخ التنافسي الجاذب للاستثمار الأجنبي، إضافة إلى الفساد والمحسوبية في توزيع تلك العائدات، وتوظيفها سياسيًا لصالح الموالين للنظام الحاكم، والمقربين منه، وحرمان الدولة من توظيفها لتحقيق التنمية[9]. وارتفعت معدلات الدين العام والعجز في الموازنة، بسبب سياسات الإنفاق الحكومي غير الرشيدة، إلا أنها لم تؤدّ إلى أزمة، كما حدث في عهد مادورو، وذلك بسبب طفرة إيرادات النفط التي بدأت في التراجع بعد عام 2008[10].
أما سياسيًا، فتحوّل نظام تشافيز الشعبوي نحو السلطوية، وتبنى سياسات استبدادية انتهكت الحقوق والحريات، ومارس تضييقًا على المجال العام والإعلام، واعتدى على الحقوق المدنية والسياسية، عبر تبنّيه الديمقراطية الشعبية التي تساوم بين الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية، من خلال تحسين مستوى المعيشة مقابل التخلي عن الحقوق والحريات، وعانت المعارضة الإقصاء والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، ورسخت ممارساته الشعبوية حكم الفرد، وأدت إلى تقويض المؤسسات، وتهميش دورها، فضعفت السلطات التشريعية والقضائية والعسكرية، ووسائل الإعلام، والنقابات العمالية، وجماعات المجتمع المدني[11].
فرضت الولايات المتحدة الأميركية عددًا من العقوبات على نظام تشافيز؛ فهي لم تكن على وفاق مع سياساته اليسارية التي تمثل تحديًا لها، إضافة إلى توجهاته نحو صحوة حكومات دول الجنوب في مواجهة الممارسات الأميركية للاستغلال والهيمنة الرأسماليَين[12].
فشل نظام تشافيز في إدارة موارد البلاد الاقتصادية، وكاد أن يودي بها إلى أزمة طاحنة، لولا ارتفاع أسعار النفط[13]. وحظي تشافيز، على الرغم من ذلك، بالدعم والتأييد الشعبيَين بفضل قيادته الكاريزمية، وتبنيه سياسات شعبوية في إطار الثورة "البوليڤارية" الداعية إلى المساواة، ومناصرة الفقراء، ودعم الدولة لهم. وساعده في ذلك طفرة أسعار النفط التي وظفها لتستمر شرعيته في الحكم، ويضمن الولاء الشعبي له، عبر خطاباته الحماسية التي مثلت تحولًا عن الجمود السياسي للأحزاب التقليدية[14].
بدايات الأزمة الراهنة
تولى مادورو الحكم بعد وفاة تشافيز في عام 2013؛ إذ كان نائبًا له. لكنه، على النقيض منه، لم يكن يحظى بشعبية وقبول مثله؛ فهو يفتقر إلى السمات الكاريزمية التي تمكنه من الحصول على تأييد واسع من الشعب الفنزويلي، إضافة إلى أنه قد فاز في الانتخابات على منافسه بفارق بسيط[15]. وتبنى مادورو الأسس والأفكار التي قامت عليها سياسات تشافيز، على نحو جعل حكمه استمرارًا لنهج "التشافيزية" نفسه اقتصاديًا وسياسيًا. إلا أن مادورو لم تتوافر لديه المقومات التي أسهمت في استمرارية تشافيز في الحكم، على الرغم من مساوئه، ففنزويلا، بوصفها دولة ريعية، تأثرت بشدة بتراجع أسعار النفط عالميًا، منذ عام 2014[16]، ومن ثم تدهور أداء الاقتصاد الفنزويلي، فارتفعت معدلات التضخم بدرجة غير مسبوقة، حتى بلغت، وفقًا لتقديرات البرلمان الفنزويلي، نحو 1,300,000 في المئة نهاية عام 2018، علمًا أن توقعات صندوق النقد الدولي تفيد استمرار ارتفاعها في عام 2019[17]. وفقدت العملة المحلية 95 في المئة من قيمتها أمام الدولار، وهذا ما دفع مادورو إلى اتخاذ سياسات خفض قيمتها، وإصدار عملة جديدة (البوليفار السيادي)، واللجوء إلى القروض، ورهن سندات شركة النفط الفنزويلية، وغيرها من الثروات؛ بسبب تعثر الحكومة[18]. وارتفعت معدلات الدين المحلي لتبلغ 159 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018[19]، ومن ثم، اتضحت حقيقة هشاشة الاقتصاد الفنزويلي، وما كان يعانيه من فشل وضعف تمتد جذورهما إلى فترة حكم تشافيز، لكنها تفجرت في عهد مادورو.
وقد عجز مادورو عن توفير التمويل اللازم لبرامج الإنفاق الاجتماعي التي تعتبر العامل الأساس لشرعية النظام واستقراره، وضمان الولاء الشعبي، وخفوت حدة المعارضة، إلا أن الأزمة الاقتصادية أدت إلى أزمة إنسانية لعدم قدرة الحكومة على توفير السلع والحاجات الأساسية للمواطنين؛ بسبب افتقارها إلى البنية التحتية للإنتاج والخدمات[20]، فارتفعت معدلات الفساد، لتحتل فنزويلا المرتبة 168 من أصل 180 دولة، على مستوى العالم، في تصنيف مؤشر مدركات الفساد لعام 2018[21]، وانعكس ذلك الفساد على ممارسات السوق السوداء، واحتكار السلع الضرورية؛ للتكسب منها، في ضوء اتباع الحكومة سياسات غير فاعلة في تحديد الأسعار، وفساد سبل توفير السلع الضرورية المدعمة[22] وتدنت مستويات المعيشة؛ بسبب ارتفاع معدلات التضخم، وارتفعت نسبة الفقراء لتبلغ 87 في المئة من جملة المواطنين، وعانى 61.2 في المئة من المواطنين الفقر المدقع في نهاية عام 2017[23]، وعانى المواطنون نقص المواد الغذائية وارتفاع معدلات الجوع وسوء التغذية[24] لتحتل فنزويلا المرتبة 49 من أصل 119 دولة في مؤشر الجوع العالمي لعام 2018[25]، إضافة إلى نقص في الأدوية والخدمات الصحية أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض الخطِرة[26]، مع تناقص الخدمات الأساسية، من غاز وكهرباء ومياه[27]. وتصاعدت معدلات الجريمة وخرق القانون، عبر جرائم القتل والعنف وممارسات عصابات المافيا، من اختطافٍ واتجارٍ بالأسلحة والمخدرات وغيرها، وتراجعت الثقة بالشرطة، بسبب انتشار الفساد، وصعوبة سيطرة السلطات على الأوضاع[28]، إلى حد تصنيف فنزويلا واحدةً من أخطر الدول في العالم[29].
انعكاس الوضع الاقتصادي على المشهد السياسي
دفع تدهور الأوضاع الإنسانية داخل فنزويلا معدلات الهجرة والنزوح إلى دول الجوار إلى التزايد، إلى حد يهدد بأزمة إنسانية جديدة للمهاجرين واللاجئين، تستحوذ على اهتمام المجتمع الدولي وجهده، فنزح كثير من الفنزويليين إلى كولومبيا والبرازيل والإكوادور وبيرو والأرجنتين وبنما. وتقدر منظمة الهجرة الدولية أنّ عدد المهاجرين والنازحين من فنزويلا بسبب الأزمة الأخيرة، سيبلغ نحو 5.3 ملايين فرد في نهاية عام 2019[30].
وفي الإمكان فهم أسباب تفاقم الأزمة الحالية من خلال قراءة تلك العوامل والمؤشرات؛ إذ أسهم النظام السياسي الحاكم في تفاقم الأزمة بسبب ممارساته القمعية ضد أصوات المعارضة المتصاعدة، إضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية والإنسانية؛ ففي عام 2017 انطلقت تظاهرات تطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وحماية الجمعية الوطنية (الهيئة التشريعية) ذات الأغلبية المعارضة من انتهاكات النظام، إلا أن قوات الأمن قمعتها على نحو أفضى إلى مقتل 130 متظاهرًا، واعتقال الآلاف، منهم ضباط الجيش المعارضون لمادورو.[31] وشدد النظام قبضته الأمنية لإسكات المعارضة، وتضييق الخناق على المجال العام، وقمع الحقوق والحريات، وفرض الرقابة على وسائل الإعلام، وفرض حالة الطوارئ، والاستخدام المفرط للقوة من جانب رجال الأمن، وتوظيف القضاء سياسيًا ضد المعارضين، وإخضاعهم للمحاكمات العسكرية[32].
أدت سلطوية النظام الحاكم إلى انتهاك الفصل بين السلطات، وهيمنة السلطة التنفيذية عليها، وتدخلها في شؤونها، وعرقلة عمل الجمعية الوطنية التي تمثل السلطة التشريعية وتهيمن عليها المعارضة، إضافة إلى فقدان السلطة القضائية استقلالها[33]. وضعفت المؤسسات السياسية المنتخبة ديمقراطيًا للتعبير عن إرادة الشعب، فالمؤسسة الديمقراطية الوحيدة هي السلطة التشريعية التي قوضتها الحكومة السلطوية. وسجلت فنزويلا في المؤشر الإجمالي لاستقرار حالة الديمقراطية 2.5 من 10، على نحو يعكس خطورة الوضع، ويهدد دور المؤسسات، في ضوء تعاظم السلطة الاستبدادية للحاكم الفرد المطلق المقوض لأي سلطة قد تهدد نفوذه وتعرقل استمراريته في الحكم[34].
وتسببت تلك الأزمات في تهديد شرعية النظام وبقائه في السلطة، في ضوء حالة عدم الاستقرار، وانفراط زمام الأمور من يده، بما يجعله يتشبث بالسلطة بالسبل كافة؛ كي يحتفظ بشرعيته الانتخابية، محل الشك، ويقمع المعارضة، ويعرقل محاولات التداول السلمي للسلطة، وجميع المطالب بإجراء انتخابات مبكرة. وإزاء انغلاق السبل السلمية للتغيير، لم تجد المعارضة سبيلًا للتعبير عن نفسها سوى الانشقاق عن النظام الذي فقد شرعيته لديها، فأعلن غوايدو، رئيس الجمعية الوطنية المعارض، نفسه رئيسًا للبلاد إلى حين إجراء انتخابات مبكرة[35].
الدور الخارجي
تدخلت واشنطن لتدعم غوايدو وتعترف به. ورفض مادورو تلك الممارسات، وألقى باللائمة على الولايات المتحدة في تعقيد الأزمة بتدخلها في شؤون فنزويلا الداخلية[36]؛ فقد لوّحت إدارة دونالد ترامب بإمكانية التدخل عسكريًا بسبب تصاعد الأزمة الإنسانية، وفرضت عقوبات على النظام الحاكم[37]. ورفض مادورو التدخل الأميركي حتى من خلال تقديم المساعدات[38]. وتصاعدت الاتهامات ضد الولايات المتحدة بدعوى أن تسييسها المساعدات الإنسانية[39] وتسييس أسعار النفط يؤثّران في سوق الطاقة العالمية[40].
في المقابل، تساند روسيا والصين الرئيس مادورو، وترفضان تدخلات ترامب. وتبلور موقفهما من خلال تصويتهما ضد المشروع الأميركي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلق بالأزمة الفنزويلية، والذي يدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة[41]. وتسعى روسيا لتقديم الدعم السياسي للنظام اليساري الحاكم؛ نكاية بالولايات المتحدة، إضافة إلى الدعم العسكري والاقتصادي عبر التعاون مع قطاع إنتاج النفط في مواجهة العقوبات الأميركية[42]. أما الصين، فتحرص على حماية مصالحها وصعودها الاقتصادي، بوصفها منافسًا للولايات المتحدة، وتسعى إلى تعزيز وجودها في أميركا اللاتينية، من خلال استثماراتها ونشاطها التجاري[43]. وبرزت الصين والهند، بوصفهما سوقين بديلتين للنفط الفنزويلي، توفران دعمًا اقتصاديًا لنظام مادورو، بعد إعلان العقوبات الأميركية على شركة النفط الوطنية[44]، إضافة إلى الدعم المالي، عبر القروض والاستدانة من الحكومة الصينية[45].
المسارات المستقبلية للأزمة الفنزويلية
من خلال استعراض أحد نماذج الدولة الريعية، يتضح مدى تأثير الأداء الاقتصادي المعتمد على المورد الريعي اعتمادًا رئيسًا في الأداء السياسي، والأوضاع الإنسانية والاجتماعية؛ إذ إن شرعية تلك النظم تُعزَّز بقدرتها على توفير الرفاه الاجتماعي، وعندما تعجز الدولة عن أداء دورها؛ نظرًا إلى تدني العائدات الريعية، تتفاقم الأزمات، ويُهدَّد استمرار النظام وشرعيته، والأزمة الفنزويلية خير دليل على ذلك.
وإزاء انقسام المشهد السياسي الراهن، ما بين حاكم متمسك بشرعيته، وآخر منشق يسعى لإجراء انتخابات مبكرة، تنبئ الأزمة بعدد من السيناريوهات المحتملة مستقبلًا؛ فإما أن ينجح مادورو في مقاومة تلك التحديات، ويستمر في منصبه، لا سيما مع بدء ارتفاع أسعار النفط من جديد، مطلع عام 2019، امتثالًا لسياسات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في خفض إنتاج النفط، ويتوقف ذلك على مدى قدرة مادورو على الاحتفاظ بمؤسسات الدولة، وسيطرته على مواردها الاقتصادية، ونجاح الدعم الخارجي، لا سيما من الصين وروسيا اللتين تحرصان على أداء دور مؤثر، والحضور بقوة في الساحة الفنزويلية، وعدم تركها للولايات المتحدة منفردة بموجب طروحات مبدأ مونرو، والتعامل الأميركي مع تلك القارة باعتبارها حديقتها الخلفية.
وقد ينساق مادورو للمطالب بإجراء انتخابات مبكرة، ويقبل بالتداول السلمي للسلطة، ويرضخ للضغوطات الداخلية والخارجية، حين يعجز عن مواجهتها، إلا أن ذلك الخيار يظل ضعيفًا في ضوء ارتكاز نظام مادورو على دعائم تسهم في بقائه حاكمًا، ومقاومة رياح التغيير، مثل استمرار دعم الجيش له، حتى الآن، والدعم الخارجي له من الجانب الروسي، بعد تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الرافضة للتلويح الأميركي بالتدخل العسكري؛ لإطاحة نظام مادورو، باعتباره خرقًا للشرعية الدولية، والإصرار الروسي والصيني على إنهاء الأزمة عبر الحلول التفاوضية بمشاركتهما.
وقد يعجز مادورو عن حل الأزمة، وتستمر حالة الفوضى، وفي الوقت نفسه ينجح غوايدو في توطيد سلطته؛ لإسقاط نظام مادورو، وإجراء انتخابات مبكرة، مستغلًا دعم المجتمع الدولي له، خاصة دعم ترامب الذي يخشى تفاقم الأزمة الإنسانية في فنزويلا، وما قد تمثله من تهديد لأمن الولايات المتحدة، من خلال ارتفاع معدلات الهجرة والنزوح. ويعتمد ذلك على نجاح العقوبات الأميركية في تحقيق هدفها بسحق نظام مادورو اقتصاديًا، إضافة إلى تحركات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وخطاباته بشأن الأزمة الفنزويلية، والتلويح الأميركي باللجوء إلى الحل العسكري لإسقاط نظام مادورو بالقوة، وما تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها في الإقليم اللاتيني، بفرض عقوبات اقتصادية ضد النظام الحاكم.
وقد يتخلى الجيش عن دعم مادورو، وينحاز للمطالب الشعبية التي تنادي بإسقاط النظام الحاكم، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته بالانشقاقات في صفوفه وموالاة المعارضة بزعامة غوايدو، ومحاولة الانقلاب الفاشلة أخيرًا.
عمومًا، يظل عامل سعر النفط حاسمًا في إنهاء النزاع لمصلحة أحد الطرفين، ولكن عنصر الحسم الأساس الذي يرجح كفة طرف ما على الطرف الآخر هو الجيش الذي يساند حتى الآن مادورو، وبتغير موقفه قد يغير مجريات الأحداث في الساحة الفنزويلية. ولكن من دون إغفال دور القوى الخارجية ومصالحها المتعارضة تجاه فنزويلا، لا سيما التنافس الأميركي الصيني الروسي الذي قد يؤثر في مستقبل الأزمة الفنزويلية، وسبل حسمها سلميًا، أو بالتدخل، مع الأخذ في الاعتبار صعود اليمين السياسي في أميركا اللاتينية، وتراجع سياسات اليسار، وإخفاقها في التغلب على ما تواجهه من تحديات، وهو ما أدى إلى خسارتها ما كانت تتمتع به من قبول وتأييد شعبيَين سابقًا.