سقوط الأسنان في الأساطير الشعبية

أوس ستار الغانمي

2025-10-20 03:25

في قلب الثقافة العراقية العميقة، تكمن عادات وتقاليد متوارثة عبر الأجيال، بعضها يتعلق بأبسط لحظات الحياة اليومية، مثل سقوط الأسنان اللبنية عند الأطفال. هذه اللحظة التي قد تبدو عادية في حياة الطفل، تحمل في المجتمع العراقي رمزية كبيرة وممارسات شعبية متجذرة تعكس اهتمام الأسر بمراحل نمو أبنائها وربطها بالخرافات والاساطير الشعبية.

في العديد من مناطق العراق، يُعتقد أن الطريقة التي يُسقط بها الطفل سِنّه يمكن أن تؤثر على مستقبله، على صحته، وحتى على حظه. ومن العادات الأكثر شيوعًا أن يقوم الطفل بوضع السن المخلوع تحت وسادته أو في قطعة من القماش، بينما يُتوقع من الوالدين القيام ببعض الطقوس البسيطة لجعل الحظ والبركة يصاحبان الطفل. فعلى سبيل المثال، في مناطق الوسط والجنوب، غالبًا ما يُلقى السن في الأرض بالقرب من جذور شجرة أو في الحديقة، مع ترديد عبارات محببة مثل: "تكبر وتطول مثل الشجرة"، في إشارة رمزية إلى نمو الطفل الصحي والسليم.

كما ترتبط بعض العادات بالجانب الترفيهي للطفل، حيث تقوم الأمهات ببعض الطقوس المرحة لجعل الطفل يشعر بالسعادة بدلًا من الخوف من فقدان السن. في بعض البيوت، تُهدى قطعة من الحلوى أو المال الصغير للطفل، وتُرافق هذه الهدية بحكاية شعبية أو أمثال متداولة تقول: "كل سن يذهب، فرحة جديدة تأتي"، ما يجعل الطفل مرتبطًا بالجانب الإيجابي للنمو والانتقال إلى مرحلة جديدة من عمره.

إضافة إلى ذلك، هناك اختلافات بين المحافظات العراقية في التفاصيل الدقيقة لهذه العادات، فبينما يفضل بعض الأهالي دفن السن، يقوم آخرون برميه فوق السطح أو وضعه في مكان مرتفع ليحظى الطفل بحظ جيد ونمو سليم. كما يحرص الناس على مشاركة هذه اللحظات مع الأقارب، لتعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية ولتأكيد الاستمرارية الثقافية عبر الأجيال. تلك التقاليد الشعبية ليست مجرد خرافات، بل تعكس جزءًا من التراث العراقي الذي يربط بين الطفولة والبيئة الاجتماعية والعاطفية، حيث يكتسب الطفل شعورًا بالانتماء والهوية منذ نعومة أظافره. 

ومع مرور الزمن، بقيت هذه الممارسات حية في ذاكرة العراقيين، كجزء من ثقافتهم الشعبية التي تعكس قيم العائلة، الاهتمام بالصحة والنمو، والحرص على إدخال البهجة والسرور في حياة الأطفال.

مقارنة بين الأساطير العالمية وتقاليد الرمي العراقي

تنفرد التقاليد العراقية بخصوصية ترتبط بالبيئة والتاريخ. في الغرب، تُعرف "جنية الأسنان" (Tooth Fairy) التي تأخذ السن المخلوع وتستبدله بعملة نقدية تحت الوسادة، مما يركز على الاستبدال المادي والمكافأة الفردية. أما في الثقافات اللاتينية والآسيوية، فيبرز دور "فأر الأسنان" (Ratoncito Pérez أو Tooth Mouse).

على النقيض، الطقس العراقي، كرمي السن نحو الشمس أو دفنه قرب شجرة، هو طقس ذو طبيعة أرضية ورمزية عميقة. عبارة "يا شمس خذي سن الحمار وأعطيني سن الغزال" (بتنوعات محلية) أو دفن السن قرب الجذور وقول: "تكبر وتطول مثل الشجرة"، تظهر ربطاً وثيقاً بـالطبيعة والنمو الصحي، حيث يُطلب من قوى كونية (كالشمس) أو حيوية (كالشجرة) التدخل لضمان سن بديل قوي. هذا التباين يسلط الضوء على أن التقليد العراقي هو تجسيد لـفلسفة جماعية ترى أن نمو الطفل هو جزء من دورة الحياة الطبيعية التي تشمل الأهل والبيئة، وليس مجرد علاقة فردية بين الطفل وشخصية خرافية.

بين الخرافة والتربية

من منظور علم النفس التنموي، تمثل لحظة سقوط السن اللبني أول تجربة للطفل في فقدان جزء من جسده، وهو ما قد يثير القلق أو الخوف من التغيير. تلعب الأساطير والطقوس الشعبية دوراً علاجياً وتربوياً حاسماً في هذه المرحلة.

عبر تحويل هذا "الفقد" إلى "مناسبة احتفالية" (تقديم الحلوى أو المال)، ومناسبة لتلقي الأماني والاهتمام الأسري المكثف، يتم إعادة تأطير التجربة في ذهن الطفل من تجربة سلبية إلى حدث إيجابي ومحمود. يتعلم الطفل أن التغيير جسدي ونفسي هو أمر طبيعي ومحفوف بالبهجة والمكافأة. كما أن مشاركة العبارات المحببة والأمثال مثل: "كل سن يذهب، فرحة جديدة تأتي"، يساهم في بناء مرونة نفسية وقدرة على تقبّل مراحل النمو والانتقال إلى مرحلة جديدة من عمره، مما يعزز شعوره بـالأمان الأسري والاحتواء الاجتماعي.

هل تصمد تقاليد الأسنان أمام تأثير السوشيال ميديا؟

يواجه التراث الشفوي تحدياً غير مسبوق في ظل ثورة الاتصال الرقمي. الجيل الحالي من الأطفال (جيل ألفا) هو جيل يستهلك قصصاً مرئية عالمية عبر منصات مثل يوتيوب وتيك توك، حيث تُروَّج فيها شخصيات خيالية عالمية مثل "جنية الأسنان".

هنا يبرز التساؤل: هل ستتحول الممارسة العراقية من طقس عملي (رمي السن) إلى مجرد محتوى عائلي رقمي يُصور ويُشارك على الإنترنت؟ قد يؤدي الانفتاح الرقمي إلى "غزو ثقافي ناعم" يقلل من قيمة الطقس المحلي لصالح الأسطورة المستوردة. ومع ذلك، هناك فرصة أيضاً لـ "التمكين الرقمي للتراث"، حيث يمكن للعائلات العراقية استخدام منصات التواصل الاجتماعي لتوثيق ونشر طقوسهم المحلية، مما يضمن استمراريتها بشكل جديد، ويحولها من ممارسة محلية إلى هوية ثقافية رقمية يُحتفى بها.

طقوس الانتماء والهوية للطفل العراقي في القرن الـ 21

في مجتمع متنوع ومركب كالمجتمع العراقي، تشكل الطقوس العائلية الصغيرة أدوات حيوية لغرس الشعور بالانتماء العميق عملية سقوط السن هي مناسبة اجتماعية مصغرة تتيح للأقارب المشاركة وتقديم الدعم والاحتفاء بالطفل.

هذا التقليد يعلم الطفل أنه ليس فرداً منعزلاً، بل هو حلقة في سلسلة الأجيال، وأن نموه الجسدي هو حدث تحتفل به العائلة والقبيلة. هذه اللحظات الجماعية، التي تتضمن لغة وتعبيرات متوارثة خاصة، تعزز لديه الهوية الثقافية وتجعله مرتبطاً بالموروث الشعبي منذ نعومة أظافره. وفي عالم يموج بالتغيرات، تظل هذه الطقوس بمثابة "مراسٍ ثقافية" تمنح الطفل شعوراً بالثبات والاستقرار والقيمة داخل محيطه الاجتماعي.

ذات صلة

مواكبة العصر ورهان المستقبلالديمقراطية التداولية مقاربة للحالة العراقيةفي معنى الاحتفاء بذكريات الوطنضعف دافعية التعلم: المشكلة المتجددةفلسفة الحرب بين المتنبي وهوميروس