التحليل القرآني لروايات مقامات المعصومين (عليهم السلام)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2016-11-10 08:06
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([1]).
كان الحديث حول العوالم التي تؤثر في الانسان او يتأثر بها مطلقا او في الجملة بشكل او باخر وهي عالم الاشياء وعالم الاشخاص وعالم الافكار، وكذا عالم الغيب وعالم القيم، ومضى الكلام فيها.
من خواص عالم الأشياء: أنها عامل نزاع وتناحر وتفكك
ومن خواص عالم الأشياء أنه يفرق ما ينبغي ان يجتمع وهذا بعكس عالم الافكار حيث أنه يشكل رباط الوحدة وهو عامل التوحد والاجتماع فإننا نجد في عالم الاشياء ملاكات التفرقة والنزاع والتناحر، والسر في ذلك هو أن عالم الأشياء محدود وطمع الإنسان غير محدود ومن هنا نجد أن أكثر الصراعات والنزاعات والحروب في العالم تدور حول هذه الأشياء المحدودة الضيقة، حتى إنا قد نجد مثلاً أخوين في بيت واحد يختلفان حول إرث ما وقد يتطور ذلك إلى نزاع ثم إلى عراك بل وإلى تقاتل وسفك دماء.
والحال عينه في اللونيات كالأبيض والأسود والأحمر من الشعوب أو القوميات فانها جميعاً أشياء طبيعتها الفرقة والتفرقة والبينونة والتباين.
من خواص عالم الأفكار والقيم: أنها عامل وحدة ورباط أُلفة
وأما عالم الافكار والعقائد – والمقصود طبعاً الأفكار والعقائد الصائبة – فانه هو عالم الجمع والأُلفة والتوحد فإن المسلم وهو في العراق يحس بوشائج الصلة الفكرية والاعتقادية بذاك المسلم الآخر الموجود في الهند أو الصين أو غيرها رغم انه لا يعرفه أبداً ورغم بُعد الدار وتغاير الطبائع والأحوال.
والسر في ذلك هو أن عالم الأفكار وعالم العقائد والقيم يرتبطان بالروح والروح واسعة وبالعقل والعقل جامع وبالإنسانيات والإنسانية مشتركة، وذلك كالإحسان فان العقل يحكم بحسنه حتى عقل الكافر وكذلك في العدل فان العدل يعمّ المؤمن والكافر والبر والفاجر.
وهي ترفع الإنسان إلى أعلى، عكس الأشياء
ثم إن من مميزات عالم الأفكار ان الفكرة والقيمة تشدّ الإنسان وترفعه إلى أعلى وهذا بخلاف عالم الأشياء الذي يسحب الإنسان إلى الأسفل. فمن المعروف أن (البطنة تذهب بالفطنة) فإن الإنسان إذا أكل إلى حدّ التخمة تصاعدت الأبخرة إلى دماغه فذهب ذلك بقدرته الفكرية وإبداعه الخلاق كما أن التخمة تميت القلب وتقضي على الخشوع والشوق للعبادة.
وعليه فانه إذا أراد الإنسان ان يستشعر لذة العبادة والمناجاة والقرب إلى الله تعالى فلابد أن يذهب خاوي البطن إلى محراب العبادة وإلى المسجد أو الحرم، وهذا بخلاف ما يفعله البعض حيث يملأ بطنه بطعام الغداء أو العشاء ثم يذهب إلى أماكن العبادة كالحرم أو المسجد فيصطدم بأن يجد نفسه ضعيفة الإقبال على العبادة وروحه كَدِرة غير شفافة، فان البطنة بذاتها تؤثر سلباً على التوجه إلى الخالق وعالم الملكوت، وكذلك الإنسان الذي يستلذ النوم في مكان مريح وفي فراش وفير فانه يميل إلى التكاسل وينشد أكثر فأكثر إلى عالم الأشياء المحدود وستضعف معنوياته وقيمه على امتداد الخط.
الخليفة العثماني يقتل اخوته كافة ثم يغرق في بحر الشهوات!!
ومن أبرز الشواهد على ما يفعله عالم الأشياء بالإنسان: ما صنعه أحد ملوك العثمانيين وهو محمد الثالث والمتوفى 1603 م، فانه عندما وصل إلى ما يسمى بالخلافة العثمانية وأصبح الملك والخليفة على هذه الامبراطورية الواسعة، بادر في أول يوم استلم فيه زمام الأمور بإصدار قرار بقتل اخوته بأجمعهم!! ثم بعد ذلك غرق في بحر الشهوات ونسي إدارة شؤون المملكة وارخى العنان للوزراء ولكبار الضباط حتى انهم كانوا يبيعون المناصب والرتب، على اختلاف مستوياتها، مقابل مقدار من المال! مما أدى إلى ذلك الانهيار العجيب في هذه الامبراطورية العظمى.
وهذا هو ما نجده اليوم في بعض الدول والممالك إذ نشهد أن بعض المناصب تباع في قبال المال أو غيره، حتى أضحى الفساد المالي والإداري ينخر جسد هذه الدول بشكل غريب.
وذلك ما شهدناه من قبل في الامبراطورية الأموية والعباسية التي شوهت حضارة الإسلام وتاريخ المسلمين بسبب غرق ملوكهم وحواشيهم في بحار عالم الأشياء واللذات والشهوات.
عالم الأشياء هو عالم التخلف الحقيقي
ثم ان عالم الاشياء هو عالم التخلف الواقعي فان الاشياء إذا تجردت عن القيم أدت بالمجتمعات إلى التفكك والاضمحلال والانحطاط والرجعية؛ فإن الشخص وإن كان يمتلك أفضل سيارة أو أفضل جيش ومنزل وخدم لكنه مادام مجردا عن القيم فانه ومن أجل الوصول إلى المزيد من المال والقدرة والشهوات سيسعى إلى الفساد والافساد، ولذلك نجد أن بيع السلاح إلى الحكومات المستبدة صار من أبرز مظاهر أعمال وانجازات الدول الغربية الديمقراطية!
الهيمنة لابد ان تكون لعالم القيم والغيب والمرجعية للأفراد الكُمّل:
سبق أن عوالم القيم والأفكار والغيب هي التي ينبغي أن تكون مهيمنة على عالم الأشخاص والأشياء، إلا أن هذا القانون يستثنى منه استثناء هام عام وهو عالم الأشخاص المطهرين من كل دنس المعصومين من كل رجس فانهم هم المدار وعليهم الاعتبار في العوالم كلها، قال تعالى: (إنَّمَا وَليّكم اللَّه وَرَسوله وَالَّذينَ آَمَنوا الَّذينَ يقيمونَ الصَّلَاةَ وَيؤْتونَ الزَّكَاةَ وَهمْ رَاكعونَ) و(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)([2]) فان أهل الطهر والقدس هم المثل الأعلى والمقياس المطلق بدءً من سيدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وصولاً للمهدي المنتظر من آل محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فانهم منزهون عن الخطأ والنسيان والغفلة والسهو والآثام والمعاصي، ومن هنا فإن الدين كل الدين والحق كل الحق يدور مدار هذا الوجود الذي أصبح مطلق الخير متجسدا فيه. ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَار"([3])
أهل البيت (عليهم السلام) يستدير عليهم محكم القرآن!
وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق رواية لابد من تحليلها بمقتضى ما ذكرناه من قاعدة سابقة، والرواية هي قال: "إن الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن، وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن، وبها نوهت الكتب ويستبين الإيمان، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقتدى بالقرآن وآل محمد، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر، والثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما- فلن تضلوا ما تمسكتم بهما"([4]) فان مضمون الرواية قد يبدو غريباً لمن لم يفقه منزلة أهل البيت وموقعهم في عالم الإمكان ذلك أن القرآن هو قطب كل شيء فكيف تكون ولاية أهل البيت هي القطب ويكون المدار عليها؟ فما معنى ذلك وهل يعقل ذلك؟.
تحليل رواية: على الولاية يستدير محكم القرآن
وهناك مجموعة من الإضاءات والنقاط التي يتضح عبرها فقه الرواية الشريفة
النقطة الأولى: هم خلفاء الله وفيهم أودعت كافة العلوم
ان الله سبحانه وتعالى جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) والأنبياء (عليهم السلام) هم خلفاءه على الكون كله فيكون من الطبيعي أن يكون هذا الخليفة هو الذي يفسر رسالة الله الى خلقه، وعليه فهو المرجع وحوله يستدير بيان القرآن وتفسيره وتأويله وظهره وبطنه؛ إذ هو اللسان الناطق والبلاغ المبين..
قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ)([5]) وهذا الجعل الإلهي مطلق غير مقيد بشيء أو جهة، والسبب في ذلك يظهر من أ- آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)([6]) فإن هؤلاء الخلفاء والأولياء أصبحوا المرآة الناصعة التي ينعكس فيها النور الإلهي والحكم الرباني، إذ ظهّرهم من كل خطأ وجهل ورجس وسهو ودنس، ب- كما يظهر من آية تعليم الأسماء: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)([7])، وعليه فإن القيم والفضائل تقتبس منهم، وهم الدليل عليها والمقياس للصحيح عن الخطأ منها، ومعه فهم من يفسر القرآن إذ هم من يعلمون علما مطلقا شاملاً بمشيئة الله، بكافة العوالم والبواطن والمقاييس والمصادر والموارد. ج- ويظهر من قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)([8]).
وهناك رواية أخرى في الكافي الشريف تلقي الضوء على جانب من الإجابة، فعن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: "قَدْ وَلَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَنَا أَعْلَمُ كِتَابَ اللَّهِ وَفِيهِ بَدْءُ الْخَلْقِ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الْأَرْضِ وَخَبَرُ الْجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ أَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا أَنْظُرُ إِلَى كَفِّي إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ"([9]).
النقطة الثانية: استدارة محكم القرآن عليهم في معاريضه وتأويله ونظائرهما
التفسير والتأويل والتنزيل
إن هناك عناوين متعددة لكل منها مجال ونطاق ومفاد ومدلول وساحة وحدود، ولابد من معرفتها والتمييز بينها كي نعرف فقه القرآن والحديث وكي يتضح المراد من هذا الحديث الشريف:
فلدينا عنوان التفسير كما لدينا عنوان التأويل وهناك آخر هو عنوان التنزيل، والذي هو تنزيل شيء منزلة شيء آخر كما في قوله (عليه السلام) "الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاة"([10]) وكما في (ولد المسلم مسلم) وكما في قوله (عليه السلام): "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"([11]) على أحد الوجوه فانه (صلى الله عليه وآله) نزّل في معركة الخندق أمير المؤمنين (عليه السلام) منزلة الإيمان كله، ومنه أيضاً ما أطلق عليه (عليه السلام) من "عَيْنَ اللَّهِ النَّاظِرَةَ وَيَدَهُ الْبَاسَطَة"([12]) وما اشبه.
والتنزيل يدخل في باب الانشائيات فهو قسيم للتفسير الذي هو من الاخباريات والذي منها التأويل أيضا.
المعاريض والتورية والمجاز والكناية والرمز
ولدينا أيضا عنوانان آخران وهما المعاريض والتورية، وهما غير التأويل وقسيميه، كما يوجد أيضا عنوان المجاز، وهناك أيضاً عنوان الكناية والذي وقع الخلاف في انه حقيقة أو مجاز، والمنصور لدينا هو انه حقيقة نظراً لاستعمال اللفظ فيه في معناه الموضوع له ليفهم معنى اخر من خلال الانتقال وليس الاستعمال، وهناك أخيراً عنوان الرمز. وهذه عناوين متعددة لكل منها معنى ونطاق ومجال وضابط، ومعرفتها تغني حقول المعرفة وتثري فقه الحديث والتفسير.
ثم إن القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه، وهما من دائرة عالم التفسير كما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)([13]) والمراد من المتشابه ما أشبه بعضه بعضا من حيث الكلام أو المراد، أو المراد به ما اشتبه المراد به ولعله يعود للأول؛ فلأنه أشبه اشتبه فتدبر.
محصّل معنى الرواية
ومعه فنقول ان القرآن محكم في تفسيره، وعليه فالمراد من كونهم (عليهم السلام) قطب رحى القرآن انه على الولاية يدور محكم القرآن في معاريضه وأيضاً يدور محكم القرآن في تأويله وكذا عليهم يدور محكم القران في رموزه فان كل هذه العناوين والاساليب بمعانيها العميقة المستنبطة انما تدور بقطب الرحى الذي هو المعصوم (عليه السلام) فان المعصومين (عليهم السلام) هم الخلفاء وهم عيبة علم الله وسر الله وخزنة علم الله وباب مدينة الحكمة.
ومعه فالتأويل والتنزيل والرمز والمعاريض وغيرها كلها تدور مدار بيانهم وشرحهم ولا بد أن يكون عن طريقهم.
رواية أخرى تحلل معنى (فَلَمَّا آسَفُونَا...)
إن بعض الآيات القرآنية تصرح بغضب الله (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)([14]) و(غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ)([15]) وكما هو معلوم فان الغضب دليل الحدوث فانه متجدد وما كان محلاً للحوادث فهو حادث، والله ليس بحادث فلا يكون محلا للحوادث، فكيف يصف الله تعالى ذاته بصفة الغضب والأسف ونظائرهما، قال تعالى ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ)([16]) والأسف مستحيل في حقه تعالى لأنه قريب من معنى الندم على شيء مضى مزيجاً بالغضب وهو ممتنع عليه.
والحاصل: ان الغضب والانتقام والاسف كلها من صفات الممكنات الحادثة والتي منشؤها القوة الغضبية وذلك محال في حقه تعالى، وعليه فلا بد من البحث عن المعنى الحقيقي والمراد الجدي من الآية، فقد فسرها العديد بـ(انه لما فعلوا بنا فعل المؤسِف لغيره) إلا انه لا يخلو من نوع غرابة وتعمّل وصعوبة، ولكن لو راجعنا الروايات لوجدنا أنها تفسر الآية بمعنى أسلس وأوضح ويعود إلى المجاز بالحذف والمحذوف هو المقدر أي (آسفوا أوليائنا) فالمحذوف أولياءنا بين (آسفوا) وضمير (نا) وليس من المجاز في الكلمة أي في ضمير (نا) ليكون غريباً أنه كيف يكني عن الأولياء والرسول والأئمة بضمير الله تعالى (نا)؟
وذلك هو ما بيّنه الإمام الصادق (عليه السلام) برواية صحيحة في الكافي الشريف حول قول الله عز وجل: " (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فَقَالَ (عليه السلام): إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْسَفُ كَأَسَفِنَا وَلَكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَيَرْضَوْنَ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رِضَا نَفْسِهِ وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ إِلَيْهِ وَالْأَدِلَّاءَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ صَارُوا كَذَلِك"([17]) فهم الادلاء إليه والدعاة له فرضاهم طريقي وليس موضوعياً.
ثم ذكر الامام (عليه السلام) مقربات لإيصال المعنى إلى الذهن بأقرب الطرق حيث قال (عليه السلام) في قول الله عز وجل: " (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْسَفُ كَأَسَفِنَا وَلَكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَيَرْضَوْنَ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رِضَا نَفْسِهِ وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ إِلَيْهِ وَالْأَدِلَّاءَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ صَارُوا كَذَلِكَ وَلَيْسَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ كَمَا يَصِلُ إِلَى خَلْقِهِ لَكِنْ هَذَا مَعْنَى مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَدَعَانِي إِلَيْهَا وَقَالَ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ)([18]) وَ قَالَ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)([19]) فَكُلُّ هَذَا وَشِبْهُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ وَهَكَذَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَغَيْرُهُمَا مِن الْأَشْيَاءِ مِمَّا يُشَاكِلُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ الْأَسَفُ وَالضَّجَرُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمَا وَأَنْشَأَهُمَا لَجَازَ لِقَائِلِ هَذَا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْخَالِقَ يَبِيدُ يَوْماً مَا لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَهُ الْغَضَبُ وَالضَّجَرُ دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ وَإِذَا دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْإِبَادَةُ ثُمَّ لَمْ يُعْرَفِ الْمُكَوِّنُ مِنَ الْمُكَوَّنِ وَلَا الْقَادِرُ مِنَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَلَا الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ عُلُوّاً كَبِيراً بَلْ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ لَا لِحَاجَةٍ فَإِذَا كَانَ لَا لِحَاجَةٍ اسْتَحَالَ الْحَدُّ وَالْكَيْفُ فِيهِ فَافْهَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"([20]) ورواية " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً" رواية معروفة عند العامة أيضاً، ومَن قَبِل هذه فليقبل تلك؛ فانه هل يستطيع احد أن يبارز الله أصلا؟ إذ أين الفقير المحض من الغني المطلق، فهو مجاز إذاً أي فكأنه بارزني بالمحاربة أو فقد بارز رسلي وأوصيائهم بالمحاربة، وقريب من هذا الباب استشهاده (عليه السلام) بقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) اذ نمط العلاقة طولي وليس بمجاز. وقال تعالى أيضاً (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)([21]).
مرجعيتهم (عليهم السلام) في علم التأويل والمعاريض وغيرهما
وقد قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([22]) إذاً العلوم القرآنية بل كل العلوم عند الرسول (صلى الله عليه وآله) وعند أهل البيت (عليهم السلام) للأدلة الكثيرة ومنها: "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا"([23]) ومن ذلك علم المعاريض وعلم التأويل كما أن ضوابط علم الـتأويل تأخذ منهم أيضا فما ذكروه نتقيد به وما لم يذكروه نتوقف عنده.
وبتعبير آخر: التأويل تعبدي فإن هذه التأويلات القرآنية في معاني الآيات والتي تؤول الى بطن اول وثاني وثالث بل الى سبعين على نحو الكثرة هذه تؤخذ منهم (عليهم السلام) ومن هنا فعلى الأئمة (عليهم السلام) يستدير محكم القرآن في بطونه وتأويله ومعاريضه وغيرها.
واما استدارته عليهم في تفسيره فسيأتي الكلام عنه بإذن الله تعالى.
شاهد هام: (إلهين) أي إمامين بعلم المعاريض لا التفسير
ذكرنا في كتاب المعاريض والتورية ان التورية على أقسام إذ تارة يستر الظاهرُ الباطنَ وهذا هو معنى التورية المعروفة وهو أن يستر بالظاهر الباطن واحيانا يستر بالظاهر الظاهر، وأحيانا أخرى يستر الظاهر بالباطن وقد يستر الباطن بالباطن([24]) وتفصيله في محله.
ولنستشهد على ذلك برواية آخرى من تفسير العياشي عن ابي بصير قال سمعت ابي عبد الله (عليه السلام):
" (ولا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يعني بذلك: ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد"([25]) والآية هي محكمة من محكمات الكتاب، وقد يتوهم أن الإمام يفسر حسب هذه الرواية الالهين بالإمامين والاله الواحد بالإمام الواحد فقد يعترض بان المجاز لا مساحة له هنا اذ ان لفظ الاله لا يصح التجوز به من الناحية اللغوية والعرفية عن غير الله وإن كان لا مانع عقلي ولا استحالة في ذلك كما لو قال الله انني تجوزت بهذا أو كنيت عن هذا بذاك بل ذلك واقع، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)([26]) إذن فهو صحيح ذاتاً وواقع قرآنياً لكنه يحتاج إلى قرينة، وكلام الإمام (عليه السلام) دليل فوق القرينة، ولكن مع ذلك فالظاهر أن الإمام (عليه السلام) في هذه الرواية دخل في دائرة فقه المعاريض وليس في دائرة التفسير او غيره، وعالم المعاريض هو ما استظهرناه من انه يراد به تلك المعاني التي تقع في عرض المعنى الموضوع له وهي موازية له فهي ليست موضوعاً لها ولا هي مستعمل فيها، بل انما تتحصل بالانتقال دون الاستعمال وهذا بخلاف التورية التي تقع في طول الموضوع له.
والظاهر: ان الامام (عليه السلام) يريد ان ينتقل من هذا المعنى إلى معنى آخر حسب معادلات فقه المعاريض وليس انه يفسر الإلهين بالإمامين. والواو المذكورة في الرواية "ولا تتخذوا" لها أهمية كبرى وهي أكبر شاهد على أن المراد ليس تفسير الآية بل معاريضها حيث ان الامام (عليه السلام) أضاف الواو فأفاد بها وجود الجامع بين أمرين؛ فكما ليس من الصحيح أن تتخذوا إلهين كذلك ليس من الصحيح أن تتخذوا إمامين بل هو إمام واحد وهذا من المعاريض لا من التفسير.
وقد ذكرنا في كتاب المعاريض والتورية (إنّه بناء على فقه المعاريض: إن الإمام لم يقصد تفسير الآية ولا تأويلها، بل قصد معاريضها، أي: المعاني الموازية المشابهة للمعنى الأصلي. فكأنه قال: كما أنَّه (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) كذلك (لاتتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد) والدليل على ذلك – إضافة للاعتبار – الواو في الرواية، فإنّ موقعها ومعناها دقيق؛ إذ قال: "يعني بذلك ولا تتخذوا... " ولم يقل: (يعني بذلك لا تتخذوا) فالواو العاطفة تفيد أنّ هذا معنى إضافي مقارن يستفاد من ملاحظة الآية وعبرها، لا من الآية نفسها.
والحاصل: الانتقال من هذا إلى ذاك لا استعمال هذا في ذاك)([27]).
ونقرب ذلك بمثال لطيف للتقريب الى الذهن: فلو سألكم أحدهم هل من المستحسن ان ننصب رئيسين في بلد واحد وعلى أرض واحدة؟ أو رئيسين لشركة واحدة؟ فقد تجيب: قال الله تعالى (ولا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) وواضح انك لا تريد انطباق كلي الآية على صغرى المقام وأن الرئيس إله والآية تشمله بعمومها!!، بل كل ما في الأمر هو عملية انتقال من قضية جزئية مسلّمة (ولا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) إلى جامع مشترك ثم من الجامع المشترك إلى (الرئيسين على الشركة) والجامع المشترك انه كما ان ذاك موجب للفساد (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)([28]) كذلك هذا وليس كما أن ذلك غير ممكن ذاتاً كذلك هذا غير ممكن ذاتاً.
وضابط الانتقال من الجزئي إلى الجامع المشترك ثم إلى الجزئي هو ما يبينه نفس الامام (عليه السلام) إذ هناك جوامع عديدة محتملة لا نعلم أن أيها كان هو الملاك للحكم، ومن هنا يستدير محكم الكتاب في معاريضه عليهم أيضا فلا يصح ان ننسج على منوال ما نسجوا (عليهم السلام)([29]) إلا إذا ذكروا لنا الجامع والملاك؛ ذلك ان الملاك القطعي الجامع ليس بأيدينا، وأما لو كان ظنيا فانه يدخلنا في تفسير القرآن بالرأي وهو محرم بل هو مما يسبب أن يتبوأ هذا الإنسان مقعده في نار جهنم والعياذ بالله، وللبحث تتمة وصلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين