القصدية في كتاب تقريب القرآن الى الاذهان
د. حازم فاضل البارز
2015-02-04 09:21
قبل الخوض في مضمار القصدية فلا بد من التمعن في تعريفه، فهو يعني: قدرة العقل على ان يوجه ذاته نحو الاشياء ويمثلها، وهي خاصية للعقل يتجه عن طريقها الى الاشياء في العالم او يتعلق بها، والحالات العقلية تكون قصدية بمعنى انها تكون حول شيء ما وموجهه نحو شيء ما، وتمثل شيئا ما [1]، وفي هذا التعريف الموجز تتضح ثلاث افكار، الاولى هي خاصية عقيلة والثانية هي توجه او تعلق والثالثة هي التمثيل العقلي.
وهي: تلك الخاصية لكثير من الحالات والحوادث العقلية التي تتجه عن طريقها الى الاشياء وسير الاحوال في العالم او تدور حولها او تتعلق بها [2].
وهي ايضا: قصدية المنتج توفير التضام والتقارن في النص، وان يكون اداة لخطة موجهة الى هدف [3]، والتضام: يمثل الاجراءات المستعملة في توفير الترابط بين عناصر ظاهر النص كبناء العبارات والجمل واستعمال الضمائر، وغيرها من الاشكال البديلة [4].
والتقارن: يشتمل الاجراءات المستعملة في اثارة عناصر المعرفة من مفاهيم وعلاقات، منها علاقات منطقية كالسببية، ومنها معرفة كيفية تنظيم الحوادث، ومنها ايضا توفير الاستمرارية في الخبرة البشرية [5]
ويتمحور اهتمام القصدية حول اتجاه منتج النص الى ان تؤلف مجموعة الوقائع نصا متضاما متقارنا ذا نفع عملي وفكري في تحقيق مقاصده، اي في نشر معرفة او عدة معارف او بلوغ هدف او عدة اهداف، يتعين من خلال خطة معدة من منتج النص [6]
ان التضام في ظاهر النص، والتقارن في باطنه يعدان اكثر معيارين وضوحا في معايير النصية، وهما يظهران كيفية تآلف العناصر المكونة للنص، وافادتهما معنى، غير انهما يعجزان عن تزويدنا بحدود فصل مطلقة تميز بين النصوص وغير النصوص في الاتصال الواقعي، ففي وسع الناس استعمال نصوص تبدو، لأسباب مختلفة، غير مستكملة التضام والتقارن، وهم يقومون بذلك فعلا، ولذا يتوجب ادخال اتجاهات مستعملي النص ضمن معايير النصية، ولا غنى لأية تشكيلة لغوية، يراد استغلالها في التفاعل الاتصالي، عن توافر القصد (القصدية) بان تكون نصا، وعن قبولها بهذا الاعتبار [7].. ان القصدية بالمعنى الاوسع لهذا المصطلح، تشير الى جميع الطرق التي يتخذها منتجو النصوص في استغلال النصوص من اجل متابعة مقاصدهم المتعددة، وتحقيقها بشكل كامل، ويحاول علماء النفس توكيد قصد منتج النص في توجيه وعي المستقبل (بالكسر)، ويدافع الفلاسفة عن منتج النص الذي يعني شيئا من ذلك النص، انما يقصد من منطوق النص الى احداث تأثيرات في جمهور ما عن طريق التعرف على مقصده، وكذلك يهتم الباحثون في ميدان الذكاء بأهداف الناس وخططهم من اجل تحسين تحليل معاني الكلمات التي تكمن دقتها فيما تستند اليه من مقاصد، وليس فيما لها من تجليات مادية، وقد كان ابلغ ما تأثر به علماء اللغة هو المدخل الفلسفي الذي صرف جهده الى كيفية قيام الترابط بالفعل بين المقاصد من جهة، وبين معاني المنطوقات، وشكل اخراجها من جهة ثانية [8].
ويعد الادب حاملا لقصدية المبدع (المرسل)، التي يريد ايصالها الى القارئ (المرسل اليه) بوسائل التأثير المناسبة.
ازاء الكلام المتقدم عن القصدية التي يتخذها منتجو النصوص، يبرز تساؤل مهم امامنا: هل نجد في القرآن الكريم قصدية اتبعها خالقه ومنتجه الحق تعالى وفق منظور كتاب تقريب القرآن؟ والاجابة عن هذا التساؤل هي نعم من خلال ما قاله الغرناطي الكلبي ايضا بقوله: اعلم ان المقصود بالقرآن دعوة الخلق الى عبادة الله، والى الدخول في دينه، ثم ان هذا المقصد يقتضي امرين لابد منهما، واليهما ترجع معاني القرآن كله، احدهما: بيان العبادات التي دعا الخلق اليها، والاخرى: ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وترددهم اليها[9]
وبعبارة اخرى ما قاله اية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): المعيار (القصدية) الذي يعرف به الدين (النص القرآني) هو في معرفة مدى استيعاب الانسان لمفاهيم القرآن [10]
ويقول (قدس سره): من هنا فرق العلماء والمختصون بين حالتين للغة او الكلام، فثمة كلام او لغة مجردة معدة سلفا للسماع فقط من اجل تحقيق اهداف محددة ربما تكون فكرية او دينية او علمية او غيرها، وثمة لغة اخرى (القصدية) ينبغي ان تقرن بالفعل المرادف لها، بمعنى ان مثل هذه اللغة سيكون تأثيرها محدودا في حال عدم إقرانها بالفعل (القصد) المشابه لها او المحقق لمضمونها [11]، فالكلام هنا واضح جدا، اذ لا قيمة للكلمات ما لن تدعمها سيرة عملية على ارض الواقع [12]، كقصص الانبياء وغيرها.
وثمة مقاصد خاصة تتمظهر في نصوص القرآن الكريم، فالقصص القرآني له مقاصد كأخذ الموعظة والعبرة، والاطلاع على اخبار الانبياء والامم السابقة، وتثبيت فوائد النبي الاكرم صلى الله عليه واله وسلم، الى غير ذلك، كقوله تعالى: (وكلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) [13]
وبهذه الآية القرآنية وغيرها اشار اية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) الى القصدية في كتابه تقريب القرآن بطريقة غير مباشرة عبر تفسيره للقرآن الكريم، حيث نكتفي بنماذج من النصوص القرآنية، لان المجال لا يسع لذلك، ففي هذه الآية يرى (قدس سره) كلا من هذه القصص المتقدمة (نقص عليك) ونخبرك (من انباء الرسل) اخبارهم، كيف بلغوا، وكيف وقف قومهم ضدهم واذوهم؟ (ما نثبت به فؤادك) اي نقوي به قلبك، حتى اذا رأيت اعراضا واذى من قومك، لم يسبب ذلك يأسك عن البلاغ، وليس معنى ذلك انه لم يكن للنبي صلى الله عليه واله وسلم ثبات، وانما استمرار الثبات هو بيد الله سبحانه وتعالى (وجاءك) يا رسول الله (في هذه) القصص السالفة (الحق) فكل ما حكي كان حقا مطابقا للواقع (و) جاءتك في هذه
(موعظة) تعض بها الجاهلين وتبعد لها الناس عن المعاصي (وذكرى للمؤمنين) تذكرهم بالله وبآياته وبالأخرة[14]
وايضا اشار (قدس سره) بقوله: نخبرك بقصص صبر الانبياء السابقين عليهم السلام امام اذى الكفار (القصدية) يوجب تقوية قلب المصلح امام ما يلاقيه من الصعوبات [15] وهناك من نبه الى قصدية القصص القرآني بقوله: فان قيل: ما الحكمة من تكرار قصص الانبياء في القرآن؟ فالجواب من ثلاثة اوجه، الاول انه ربما ذكر في سورة من اخبار الانبياء ما لم يذكره في سورة اخرى، ففي كل واحدة منها فائدة زائدة على الاخرى، الثاني انه ذكرت اخبار الانبياء في مواضع على طريقة الاطناب، وفي مواضع على طريقة الايجاز، لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين، الثالث ان اخبار الانبياء قصد بذكرها مقاصد، فتعدد ذكرها بتعدد تلك المقاصد، فمن المقاصد بها اثبات نبوة الانبياء المتقدمين بذكر ما جرى على ايديهم من المعجزات وذكر اهلاك من كذبهم بأنواع من المهالك [16]
ومنها اثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه واله وسلم لاخباره بتلك الاخبار من غير تعلم من احد، والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: ((.... ما كنت تعلمها انت ولا قومك من قبل هذا......) [17]
حيث يرى (قدس سره) ان تلك الاخبار التي قصصناها عليك من تفصيل احوال نوح (عليه السلام) وقومه (من انباء الغيب) اي اخبار ما غاب عنك يا رسول الله معرفته (نوحيها اليك) وليس في التوراة والانجيل لهذه الكيفية والتفصيل والنزاهة (ما كنت تعلمها انت) يا رسول الله (ولا قومك) قريش، او العرب، او الناس المعاصرون لك، فان لفظ (قوم) يستعمل بمعنى كل ذلك، ولا غضاضة في ان لا يعلمها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وهل علم الرسول الا من علم الله سبحانه ووصيه فهو قبل ذلك لا يعلم شيئا (من قبل هذا) اي من قبل الوحي، او من قبل القرآن (فاصبر) يا رسول الله على اذى قومك كما صبر نوح عليه السلام (ان العاقبة) المحمودة (للمتقين) الذين يخافون الله ويعملون بأوامره، كما كانت العاقبة لنوح والمؤمنين به [18]
ومنها اثبات الوحدانية، الا ترى انه لما ذكر اهلاك الامم الكافرة قال: (..... فما اغننت عنهم الهتهم التي يدعون من دون الله من شيء....) [19]، حيث يرى (قدس سره) لم تنفعهم ولم تفدهم (الاهتهم اصنامهم البشرية كفرعون) والحجرية كالأوثان التي كانوا يعبدونها و(التي) كانوا (يدعون) ها (من دون الله) ويتخذونها اربابا (من شيء) متعلق به (ما اغنت عنهم) اي لم تنفعهم شيء في دفع العذاب عنهم [20]
ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدة العاقبة لمن كفر، ومنها تسلية النبي صلى الله عليه واله وسلم من تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدم من الانبياء كقوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك) [21]، حيث يرى (قدس سره) انه ذكر سبحانه تسلية للنبي لانه ليس باول رسول يكذب (ولقد كذبت رسل من قبلك) ليس تنكير (الرسل) لأنه ليس هناك رسول يكذب، حتى ينافي قوله: (يا حسرة على العباد ما ياتيهم من رسول الا كانوا به يستهزءون) [22]، المفيد لتكذيب كل رسول، وانما الكلام جرى مجرى التسلية كان يكفي ذلك الالماع الى ان هذا الجنس ايضا في معرض التكذيب والازدراء [23] ومنها ايضا تسليته صلى الله عليه واله وسلم ووعده بالنصر كما نصر الانبياء الذين من قبله، ومنها تخويف الكفار بان يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم، الى غير ذلك مما احتوت عليه اخبار الانبياء من العجائب والمواعظ، مثلما كان للقصص القرآني مقاصد، فان للحوار والخطاب والوصف مقاصد معينة تجلت في النص القرآني، وعلى وفق ذلك نجد القرآن الكريم يلح على الابانة، اي ايضاح المقاصد التي ينبغي من خلالها اقامة الحجة على الناس اجمعين، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين.
ظهرت هذه القصدية بشكل واضح وجلي في كتاب تقريب القرآن الى الاذهان من خلال النصوص القرآنية عبر التمظهرات المتعددة فعندما يذكر الباري جل شأنه ما ينتظر المؤمنين الصالحين من جنات ونعيم فان قصدية النص القرآني هي ترغيب الناس في طاعة الله والايمان والعبادة، وعمل الخير والصلاح، قال تعالى:((تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) [24]، حيث اشار (قدس سره) الى ذلك بقوله (تلك) التي بينت في امر الارث (حدود الله) اي الحدود التي جعلها الله سبحانه لمقادير الارث فلا يجوز التجاوز عنها (ومن يطع الله ورسوله) بتطبيق اوامرهما والاجتناب عن مخالفتهما (يدخله) الله سبحانه (جنات تجري من تحتها الانهار) اي من تحت قصورها واشجارها (خالدين فيها) فلا زوال لهم عنها بالموت او الاخراج او ما اشبه (وذلك) اي نيل الجنة والخلود فيها (الفوز) والفلاح (العظيم) الذي لا يماثله شيء فلا يحسب احد ان الفوز ببعض التركة ظلما شيء يعتد به فانه لا فوز كفوز الجنة الدائمة [25]، وعندما يذكر ما اعد للكافرين والجاحدين من وعيد وعذاب فان قصده من ذلك هو ترهيب هؤلاء الناس، ليرتدوا عمّاهم فيه من غي وضلال، قال تعالى)) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون) [26]
حيث اشار (قدس سره) الى ذلك بقوله (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) فلم يؤمنوا بعد ان تمت عليهم الحجة، ولعل هذا سر قوله (كذبوا) بعد (كفروا) اذ الكفر لا يلازم التكذيب، اذا كان عن قصور (اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون) ابدا ولا يخفى ان المقصر المعاند خالد ابدا اما غيره فيمتحن هناك [27] ونجد القرآن الكريم يذكر خلق الله للكائنات بأنواعها المختلفة، وقدرته على التصرف في هذا الكون الفسيح، وتسيير الكواكب والنجوم، وتسخير الرياح، وغيرها من الآيات الكونية، نجده يسرد كل هذه الامور، والقصدية القرآنية من ذلك هي وصف قدرة الله تعالى وآياته في الكون، كقوله تعالى ((واية لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون))[28]، حيث اشار (قدس سره) الى ذلك بقوله: (واية لهم) اي دلالة على وجود الله، وسائر صفاته، لهؤلاء المنكرين لله سبحانه (الليل نسلخ منه النهار) فكأن النهار كان جلدا على جسم الليل، فاذا جاء الليل، كانه سلخ النهار من الليل، حتى يبدو الليل، كما يسلخ جلد الشاة منها، فيبدو جسمها، فهو كقولنا – لحم الشاة نسلخ منه الجلد – (فاذا هم مظلمون) داخلون في الظلام، (والشمس تجري) كل يوم، لان يأتيهم بالنهار (لمستقر لها) اي الى محل – عند الناس – وهو تحت الارض، او الى وقت قرار لها، وهوم يوم القيامة (ذلك) الاجراء (تقدير العزيز) في سلطانه، فما اراد كان (العليم) بالمصالح، فيعمل ما فيه صلاح للبشر والكون، (والقمر قدرناه) اي قدرنا له (منازل) ففي كل يوم في منزل، فان للقمر ثمانية عشر منزلا، كما ذكر علماء الفلك، او المراد المنازل المرئية من هلال وقمر وبدر، وفي احوالها المختلفة زيادة ونقيصة (حتى عاد) القمر في اخر الشهر (كالعرجون القديم) العرجون هو العذق اليابس المقوس، فان القمر في اخر الشهر يعود كما بدأ هلالا ضعيفا مقوسا، (لا الشمس ينبغي لها) اي لا تتمكن (ان تدرك القمر) في سيرها فان الشمس تقطع دورة الفلك في سنة كاملة، والتي يقطعها في شهر، او ان حركتهما في افلاكهما نظمتا بحيث لا يصطدم احدهما بالآخر، وهذا بيان لحكمة الله سبحانه، في انه نظمهما، بحيث لا يتلاقيان، ويسببا فساد الانظمة الكونية (ولا الليل سابق النهار) بان يأتي الليل قبل تقضي وقت النهار، كالإنسان الذي يسبق الاخر الذي يأتي حتى يلحقه، ثم يترادفان في المسير حتى يتقدم ذلك المتأخر، فان الليل لا يزاحم النهار في افق واحد، حتى يرى الانسان ليلا ونهارا في حال واحد، ثم يتقدم الليل، ويتأخر النهار، وهذا كناية عن دقة التنظيم الذي لا يتزلزل (وكل) من الشمس والقمر (في فلك) ومدار خاص (يسبحون) كالذي يسبح في الماء بكل سهولة ويسر والاتيان بضمير العاقل، اما من باب ان لهما عقلا – وذلك غير بعيد – ويؤيده ما ورد في الدعاء من خطاب القمر و بـ (ايها الخلق المطيع) واما من جهة انه حيث نسب اليهما السباحة، وهي من فعل العاقل، ناسب الاتيان بضمير العاقل [29].
وحينما يصف القرآن الكريم ما سيؤول اليه الكون يوم القيامة، وما سيلقاه المؤمنون من نعيم وحبور، وما سيلقاه الكافرون من عذاب شديد فان القصد من ذلك هو وصف احوال يوم القيامة ومشاهده، كقوله تعالى (فاذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة. ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة. اولئك هم الكفرة الفجرة) [30]
حيث اشار (قدس سره): (فاذا جاءت الصاخة) هي من اسامي القيامة، بمعنى الصاكة، لانها تصك الاسماع أي تبالغ في اسماعها، من اصواتها الشديدة، كصوت النفخة، وصوت النار، واصوات الملائكة وما اشبه، والجواب محذوف، أي يكون الناس يومئذ قسمين، وقد دل على الجواب ما ياتي في قوله وجوه، ثم بين وقت مجيئها بقوله: وذلك (يوم يفر المرء) أي كل احد (من اخيه) خوفا بان يبتلى به، بان يطلب منه شيئا، او يلقى عليه بعض تبعته، (وامه وابيه) حذرا من ان يكون قصر في حقها، او يطالبانه بشيء، (وصاحبته) أي زوجته، وهو من باب المثال والا فالزوجة ايضا تفر من زوجها (وبنيه) أي اولاده، والمراد انه يفر من اعز اقربائه وعشرائه، (لكل امرئ منهم) أي من هؤلاء الفارين، او كل من حضر في القيامة (يومئذ شأن) أي امر عظيم (يغنيه) عن شؤون غيره لأنه مبتلى بحساب نفسه يشغله عن الاهتمام بالآخرين.
(وجوه يومئذ) أي يوم القيامة، وهي وجوه المؤمنين (مسفرة) أي مشرقة مضيئة، من اسفر بمعنى ظهر فإنها تظهر عليها اثار الفرح والسرور و(ضاحكة) من السرور (مستبشرة) استبشرت بالخير والثواب أي فرحت وتهللت، (ووجوه يومئذ) أي يوم القيامة، والمراد بها وجوه الكفار والعصاة (عليها غبرة) أي سواد وكأبة وحزن، مشتق من الغبار وهو التراب المتصاعد الذي يعلو الاشياء، (ترهقها) أي تعلو تلك الوجوه وتغشاها (قترة) وهي ظلمة الدخان، فالغبار والدخان وعبوس النفس كلها تظهر على وجوههم، ولا يجليها رضوان الله ورحمته وكما يجلي وجوه المؤمنين، لو فرض مرورها من محلات القيامة المغبرة، (اولئك) الذين وصفوا بتلك الاوصاف السيئة (هم الكفرة) جمع كافر (الفجرة) جمع فاجر أي العاصي، يعني ان الكفار والفجار هم الذين تكون على وجوههم غبرة وقترة [31]
وهكذا الامر في وصف احوال الناس والانسان، وفي التشريع، وفي وصف القرآن، فان النصوص القرآنية في كتاب تقريب القرآن الى الاذهان ارتبطت بقصدية الخطاب القرآني الذي يرينا ان ثمة وحدة فكرية متلازمة للترغيب والترهيب، ووصف قدرة الله وآياته في الكون، ووصف مشاهد يوم القيامة ووصف احوال الناس والانسان، والتشريع، ووصف القرآن الكريم من منظور الهي وبكيفيات مختلفة و من اجل تحقيق المشروع القرآني في اقناع الناس وافهامهم لتحقيق استجابتهم، وان هذه النصوص مكيفة فكريا وفنيا وقصديا لمخاطبة العقلية الانسانية، ومن ثم افهامها وجذبها الى طريق الحق [32]
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث