منهجية المشاهد التصويرية والادب التصويري في الدعوة الى الله تعالى
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2016-03-12 07:55
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)([1])
ويقول جل اسمه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)([2])
ويقول عز اسمه ايضا: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)([3])
الحديث يدور حول احدى المفردات التي وردت في الآية الكريمة الاولى وهي مفردة (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) وحول سبل الدعوة وانواعها والتبليغ والانذار والتبشير، وسيظهر لنا في النتيجة وجه تأمل في علم المنطق وانه اما ناقص وقاصر كما هو كذلك واما هو مستطرد الى بحوث لا ترتبط به كما هو كذلك ايضا وسياتي الكلام ان شاء الله تعالى.
ضرورة تأسيس علم (الدعوة والإنذار والتبشير)
فنقول: ان العلوم التي يحتاجها رجل الدين وكل مبلغ بل كل مؤمن؛ لان المؤمنين جميعاً مكلفون بالوعظ والارشاد كل على حسب طاقته، كثيرة متنوعة وليس من الصحيح ان يكتفي المبلغ إضافة للفقه والأصول بدراسة علوم العربية والبلاغة والمنطق وحسب فانها لا تفي بتسهيل وتعبيد الطريق في الدعوة الى الله سبحانه، رغم ان (المنطق) يرتبط باللب والعقل والمدعى انه الموصِل بإعمال قواعده الى الصحيح من الافكار وقد عرفوه بانه: (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر).
بين (المنطق) و(البلاغة) وعلم (الدعوة)
ورغم ان (علم البلاغة) يرتبط بأسلوب التعبير. فـ(الـمنطق) لب و(البلاغة) شكل، أي هما مخبر ومظهر، فان هذين العلمين لا يفيان بالحاجة، فكان لا بد إما من توسعة علم المنطق كما بالفعل قاموا بذلك استطرادا الى صناعة الخطابة مثلاً مع ان هذا ليس من صلب موضوع المنطق فان موضوع المنطق هو المعرف والحجة، في حين ان الخطابة ليست حجة كما هو واضح من تعريفهم لها. إذ خرجوا عن علم المنطق كما في بعض الصناعات الخمس، واما من تأسيس علم جديد باسم (علم الدعوة والانذار والتبشير) يكون قائما بنفسه فان له أسسه وقواعده كما سنشير الى بعضها ان شاء الله تعالى.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)([4])
وقد ذكرنا في الاسبوع الماضي بان الدعوة لها أساليب وسبل بعضها قليل الطرق عندنا، وذلك يعد من اسباب الضعف النسبي للإرشاد والتبليغ.
ومن تلك السبل التي كان الانبياء والائمة (عليهم السلام) يتبعونها: الاعتماد على (المشاهد التجسيدية) وعلى (الادب التصويري) وان كان الثاني يجد له حيزا في تبليغنا وإرشادا بمقدار ما إلا انه ليس كافيا.
اما المشاهد التجسيدية فهي مهملة الى حد بعيد، مع انها مهمة الى درجة كبيرة وهي مؤثرة جداً حتى ان البعض من الناس قد لا يتحمل بعض ألوانها وأشكالها كما هو الحال في بعض المشاهد التجسيدية لواقعة الطف الخالدة.
حركة الأنبياء اعتمدت على المشاهد التجسيدية
ان حركة الأنبياء التبليغية اعتمدت في احدى اعمدتها الرئيسية على المشاهد التجسيدية، وقد نقلنا في ما سبق بعض منها، وهنا نذكر ايضا:
1) عصا موسى (عليه السلام)
كان نبي الله موسى (عليه السلام) من أعظم أنبياء الله تعالى وهو أكثر الأنبياء ذكرا في القران الكريم، وكانت دعوته دعوة فطرية وجدانية الى توحيد الله وعبادته.
وفي وسط دعوة موسى تأتي عصاه، لتشكل مشهدا تجسيديا حسيا تتركز فيه جوانب من قدرات موسى (عليه السلام)، قال تعالى: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ)([5]) مع ان موسى لا يحتاج الى العصا، بل كان يمكنه فعل ذلك بإذن الله تعالى بدعوة مستجابة أو بإشارة من يده أو غير ذلك.
والملفت أن القرآن الكريم يذكّر البشرية بالعصا في أكثر من ثمانية مواضع في ادوار محورية جوهرية في حركة موسى التبليغية الدعوية.
حتى ان الله تعالى بعظمته يسأل عنها وهي في يمين موسى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى)([6]).
وقد يتوهم متوهم: ما دخل ذلك في الحركة التبليغية لحجة الله على الخلائق وهو احد أنبياء أولي العزم وما هي أهمية هذا السؤال عن العصا التي بيد موسى (عليه السلام) ومدى أهمية جواب موسى (عليه السلام) عنها ليخلد في كتاب الله العظيم؟
الجواب: ان العصا إنما ذكرت كتمهيد لتجلي قدرة موسى (عليه السلام) وإعجازه عبر العصا إذ قد جرى التمهيد لها بتركيز ان العصا كانت مجرد عصا عادية تماماً، ثم كانت هي بنفسها الحجة الكبرى على الخصم.
فالعصا وما فعلته من معاجز، مشهد تجسيدي حي ومباشر تساق فيه الكثير من العقول المتحجرة والألباب الصدِئة نحو عالم اليقين والحقيقة المطلقة.
قال تعالى: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)([7])
وقال تعالى: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)([8])
فنبي الله موسى (عليه السلام) والعصا مشهد تجسيدي متكرر في القرآن الكريم، لكننا لا نجد الآن من يحمل العصا التبليغية من خطبائنا ومبلغينا!! فان أغلبنا يعتمد على المعاني المجردة والوعظ والإرشاد اللفظيين ومجرد الكلام الذي قد يؤثر وقد لا يؤثر:
2) من المشاهد التجسيدية: نزول النبي (صلى الله عليه وآله) من المنبر لاحتضان الحسنين (عليهما السلام)
واذا اتينا الى نبينا نبي الرحمة المصطفى محمد صلى الله عليه واله نجد ان المشاهد التجسيدية حاضرة في دعوته الى الله تعالى في تكريسه لأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) كقادة حقيقيين منصبين من قبل الله.
ففي الرواية ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يخطب في الناس واذا بالإمام الحسن او الامام الحسين (عليهما السلام) وكان طفلا صغيرا يدخل من الباب وهو يتعثر فما كان من النبي (صلى الله عليه وآله) وهو على عظمته ينزل من على المنبر ويشق الصفوف ثم يحتضنه:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهما السلام) وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نَظَرْتُ إِلَى هَاتَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا"([9])
كما ورد: "دُعِيَ النَّبِيُّ إِلَى صَلَاةٍ وَالْحَسَنُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَوَضَعَهُ النَّبِيُّ مُقَابِلَ جَنْبِهِ وَصَلَّى فَلَمَّا سَجَدَ أَطَالَ السُّجُودَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ فَإِذَا الْحَسَنُ عَلَى كَتِفِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ الْقَوْمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَجَدْتَ فِي صَلَاتِكَ هَذِهِ سَجْدَةً مَا كُنْتَ تَسْجُدُهَا كَأَنَّمَا يُوحَى إِلَيْكَ فَقَالَ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ وَلَكِنَّ ابْنِي كَانَ عَلَى كَتِفِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى نَزَل"([10]) و"كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَمْنَعُوهُمَا أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ دَعُوْهُمَا فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَضْعُهُمَا فِي حَجْرِهِ وَقَالَ مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ الْحِلْيَةِ ذَرُوهُمَا بِأَبِي وَأُمِّي مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هَذَيْن"([11])
وكان ذلك وما سبقه في الحقيقة مشهداً تجسيدياً عظيماً يهدف إلى تكريس مكانة الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام في نفوس الأمة الإسلامية على مر التاريخ.
وفي رواية اخرى: ابْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَمَصُّ لُعَابَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَمَا يَمَصُّ الرَّجُلُ التَّمْرَةَ"([12])
وهذه مناظر غير مألوفة خصوصا عند العرب الأجلاف والذين كانت طباعهم متوحشة وقاسية الى قدر كبير.
ومن وجوه الحكمة في ذلك ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يريد ان يركز في مخيلة الناس المحيطين به، شدة ووثاقة الارتباط والعلاقة الحميمة بل التلازم بينه (صلى الله عليه وآله) وبين أبنائه الإمامين الهمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وهو مما يبحث عنه في علم النفس تحت عنوان الاستجابة الشرطية.
3- النبي (صلى الله عليه وآله) يطرق باب علي وفاطمة تسعة أشهر!!
مثال آخر: عندما نزلت الآية الشريفة: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)([13])
"فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَجِيءُ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهما السلام) بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ([14]) تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ حُضُورِ كُلِّ صَلَاةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَيَقُولُ الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ وَمَا أَكْرَمَ اللَّهُ أَحَداً مِنْ ذَرَارِيِّ الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهَا وَخَصَّنَا مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْآلِ وَ الْأُمَّةِ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ"([15])
وهذا مظهر غريب وفريد من نوعه، ولم يقم به (صلى الله عليه وآله) تجاه أي شخص اخر من المسلمين بل لم يقم به نبي ولا عظيم بل ولا أي حكيم أو مسؤول أو حتى إنسان عادي مع آخر.
الا انه ليس بغريب على من يعرف طبيعة النفس البشرية، ولمن يعرف ضرورة التنويع لأساليب الدعوة فان هذا المنظر يُثبت للمسلمين أن اولوية النبي الاولى هي تكريس مكانة اهل بيته (عليهم السلام) من بعده، فهم القادة الحقيقيون وهو اوصياءه بالحق ولهم الشأن الكبير والمقام العظيم مما استدعى مثل هذه المشاهد التجسيدية الخالدة!.
4) المشاهد التجسيدية في دعاء العهد
من المستحبات المؤكدة ان يقرأ الإنسان المؤمن دعاء العهد لتجديد العهد بالإمام الحجة بن الحسن (صلوات الله عليه) وهو:
"اللَّهُمَّ بَلِّغْ مَوْلَانَا الْإِمَامَ الْهَادِيَ الْمَهْدِيَّ الْقَائِمَ بِأَمْرِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ الطَّاهِرِينَ عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بَرِّهَا وَبَحْرِهَا وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا وَعَنِّي وَعَنْ وَالِدَيَّ وَوُلْدِي وَإِخْوَانِي مِنَ الصَّلَوَاتِ زِنَةَ عَرْشِكَ وَمِدَادَ كَلِمَاتِكَ وَمَا أَحْصَاهُ كِتَابُكَ وَأَحَاطَ بِهِ عِلْمُكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُجَدِّدُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِي هَذَا وَمَا عِشْتُ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِي عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ فِي عُنُقِي لَا أَحُولُ عَنْهَا وَلَا أَزُولُ أَبَداً اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ وَالْمُسَارِعِينَ فِي حَوَائِجِهِ وَالْمُمْتَثِلِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَالتَّابِعِينَ [وَالسَّابِقِينَ] إِلَى إِرَادَتِهِ وَالْمُحَامِينَ عَنْهُ وَالْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ اللَّهُمَّ فَإِنْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْمَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلَى عِبَادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً فَأَخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي مُؤْتَزِراً كَفَنِي شَاهِراً سَيْفِي مُجَرِّداً قَنَاتِي مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدَّاعِي فِي الْحَاضِرِ وَالْبَادِي اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ وَاكْحَلْ مُرْهِي بِنَظِرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ وَعَجِّلْ فَرَجَهُ وَأَوْسِعْ مَنْهَجَهُ وَاسْلُكْ بِي مَحَجَّتَهُ وَأَنْفِذْ أَمْرَهُ وَاشْدُدْ أَزْرَهُ وَقَوِّ ظَهْرَهُ وَاعْمُرِ اللَّهُمَّ بِهِ بِلَادَكَ وَأَحْيِ بِهِ عِبَادَكَ فَإِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ فَأَظْهِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِيَّكَ وَابْنَ وَلِيِّكَ وَابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ رَسُولِكَ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى لَا يَظْفَرَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَّا مَزَّقَهُ وَيُحِقُّ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَيُحَقِّقُهُ اللَّهُمَّ وَاجْعَلْهُ مَفْزَعاً لِلْمَظْلُومِ مِنْ عِبَادِكَ وَنَاصِراً لِمَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِراً غَيْرَكَ وَمُجَدِّداً لِمَا عُطِّلَ مِنْ أَحْكَامِ كِتَابِكَ وَمُشَيِّداً لِمَا وَرَدَ مِنْ أَعْلَامِ دِينِكَ وَسُنَنِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَاجْعَلْهُ اللَّهُمَّ مِمَّنْ حَصَّنْتَهُ مِنْ بَأْسِ الْمُعْتَدِينَ اللَّهُمَّ وَسُرَّ نَبِيَّكَ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِرُؤْيَتِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى دَعْوَتِهِ وَارْحَمِ اسْتِكَانَتَنَا مِنْ بَعْدِهِ اللَّهُمَّ اكْشِفْ هَذِهِ الْغُمَّةَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحُضُورِهِ وَعَجِّلِ اللَّهُمَّ ظُهُورَهُ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين"([16]) والمشاهد التصويرية في هذا الدعاء العهد متعددة وملفتة للنظر ومعبرة:
ومنها: قوله (فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بَرِّهَا وَبَحْرِهَا وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا) فانه كان من الوافي بالمراد ان يكتفى بـ(عن جميع المؤمنين والمؤمنات) لكن الأدب التصويري والمشاهد التصويرية أبلغ وقعاً وأقوى في ترسيخ المفاهيم والمعاني والدعوات وتجسيدها في الأذهان لذلك كانت إضافة (فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بَرِّهَا وَبَحْرِهَا وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا)
ومنها: قوله "مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالتَّحِيَّاتِ زِنَةَ عَرْشِ اللَّه"([17]) ومن الملاحظ ان عرش الله ليس له وزن مادي كالمعهود بل انه قد يراد به علم الله تعالى ــ والعلم عند الله تعالى ــ الا ان هاهنا مشهد تجسيدي رائع يعبر عن كمية كبيرة من الصلوات على الامام المنتظر (عليه السلام) بعبارة تجسيدية أو بأدب تصويري.
كذلك في ختام الدعاء الآخر المبدو بـ"اللَّهُمَ رَبَ النُّورِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَ الزَّبُور" يستحب ان يضرب الإنسان بيده على فخذه ويقول: (العجل العجل يامولاي يا صاحب الزمان)
والوجه في ذلك: هو ابراز المشهد التجسيدي ليتركز تجديد العهد اكثر واكثر في النفس والروح، ذلك ان الكلام المجرد يرتسم في الذهن وحسب، في حين ان المشهد التجسيدي يتفاعل مع الاعضاء: مع اليد ومع الرجل، فتحس اللامسة وتبصر الباصرة وتسمع السامعة فتتجذر وتتعمق وتترسخ المواثيق والعهود!.
حتى ان طرق التعليم المتطورة الان في البلدان المتطورة تربويا تنتهج منهج ادخال جميع الحواس في العملية التربوية، اذ ان الطرق البدائية كانت مبنية على مجرد الكلام والسماع والاستماع، اما الاكثر تطورا منها فان تُكتب المعلومات وتُرسم على لوحات معينة (السبورات)، وهنا تدخل الباصرة لتساهم في عملية التعليم والتعلم.
ثم الطريقة الأكثر تطورا: ان تظم الى السامعة والباصرة سائر الحواس كالشامة مثلاً. كما هو الملاحظ في الحرم الحسيني المقدس حيث قاموا برش عطر خاص يضوع من الحرم الشريف يشمه الداخل إليه فيملأ عقله وقلبه بالرائحة الزكية الحسينية، وكذلك الحال في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ اختاروا نوع عطر خاص بالمشهد الشريف.
وحسب معادلة الاستجابة الشرطية فان ذلك يحدث في عالم اللاوعي ربطاً عميقاً بين الحرم المقدس وبين تلك الرائحة العطرة الخاصة، فكلما استشممت تلك الرائحة في أي بلد من بلدان العالم فان ذهنك ينتقل ــ بل وروحك أيضاً ــ الى المشهدين الشريفين وإلى ذلك المعنى الكبير العظيم الذي يجسده حرم الامير (عليه السلام) او الامام الحسين (عليه السلام).
وهكذا اذا اسهمت الذائقة وسائر الحواس الخمس في عملية التعلم والتعليم.
5) اسماء السور في القران مشاهد تجسيدية مؤثرة
ومن الرائع حقاً الاستشهاد بالمثال القرآني التالي: وهو ان أسماء السور في القران الكريم قد تبدو للجاهل بوجه الحكمة فيها، غريبة بعض الشيء!! مثل: سورة البقرة، سورة الفيل، سورة الجن وغير ذلك وهي اسماء وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى وليست من ابتكارات المفسرين أو غيرهم.
فما هو وجه الحكمة في ذلك؟
من الممكن ان تكون هناك العشرات من الحِكم ولكن قد يكون احدها: ان هذه الاسماء موزعة توزيعا فريداً يحتضن عوالم شتى ذات دلالات متنوعة: فبعضها ترمز الى عالم الحيون (الفيل، البقرة، النمل) وبعضها يرمز الى عالم الانسان (سورة محمد سورة الانسان سورة ابراهيم) وبعضها تتحدث عن عالم الغيب في هذا العالم كسورة (الجن) وبعضها عن عالم الغيب من ذلك العالم كسورة (القيامة) وبعضها تناغم الباصرة وبعضها تتجانس مع السامعة وبعضها غير ذلك، فمن الأسماء التي تتجانس مع الباصرة:
سورة (النور) فان النور مما يرى – فالاسم يستدعي للذاكرة مشهداً بصرياً واضحاً جلياً.
وكذلك (سورة عبس): فان العبوس مما يرى إذ يبدو على الوجوه، فالاسم بحد ذاته مشهد مصور تعكسه كلمة واحدة.
ومن الأسماء التي تتناغم مع السامعة: (سورة القارعة): فان القرع والطرق مما يسمع، فالاسم إذاً يستحث الحاسة السامعة.
وهناك أسماء ترتبط بأكثر من حاسة فهي تحس وترى، أي انها ترتبط باللامسة وبالباصرة والسامعة مثل سورة (الزلزلة).
كما يوجد – في الاتجاه الآخر - بعض الاسماء التي لا ترتبط باي من الحواس الخمس الظاهرة أو الحواس الباطنة، بل هي مما ترتبط مباشرة بالقلب، مثل سورة (الاخلاص) او التوحيد وهو اسم اخر لها، فان الاخلاص والتوحيد محطهما ومصبهما: القلب لا غير.
وما نريد ان نقوله: ان الله تعالى وزع اسماء السور في القران الكريم على الحقائق التكوينية والتشريعية، على الجواهر المشهودة والغيبية، وعلى الحواس الخمس وعلى الحواس الباطنة. وهي التي تعكس في الجملة مشاهد تجسيدية منوعة كما تجسد في الجملة الأدب التصويري أيضاً.
6) القصص القرآنية مشاهد تجسيدية ذات طاقة جبارة
اعتمد القرآن الكريم على القصص بشكل كبير في ابراز المعاني الحقة والمفاهيم القرآنية العالية والقصص هي مشاهد تجسيدية حقيقية وواقعية ذات طاقة تربوية جبارة.
والقران بذلك يعطينا مفتاحا للتربية والعليم، الا ان أكثرنا يهمل هذا المفتاح التعليمي المهم، لذا نجد ان القليل جداً من كتابنا الذين كتبوا في القصص القرآنية المختلفة على مستويات عديدة: للأطفال وللشباب والكهول والشيوخ وان كانت هناك كتابات تغطي بعض تلك الجوانب فتجد ان المطبوع منها لا يتجاوز الآلاف أو على أحسن الفروض عشرات الآلاف مع ان الحاجة هي للملايين بل لعشرات الملايين من الكتب.
الغرب سبقنا في ألوان القصص وأنواعها
ولقد تقدم الغرب علينا كثيراً جداً – وللأسف الشديد – وهذا نموذج واحد من بين مئات الشواهد: حيث انهم يستخدمون علم الاجتماع وعلم النفس في علم التربية، فيكتبون القصص مسترشدين بقواعد وأصول علمي النفس والاجتماع، كما ان عندهم ضوابط كمية ايضا، فالأطفال الصغار (5 سنوات مثلا) تكتب لهم قصص لا تتجاوز المفردات المستخدمة فيها (250) مفردة مثلا، وهي تلك التي تتناسب مع معرفة الأطفال اللغوية في ذلك السن، وهكذا الاطفال بسن (7) سنوات، تجد ان قصصهم لا يسمح ان تتجاوز مفرداتها الـ (600) كلمة مثلاً، وهكذا وصولا الى مستويات اعلى، وهناك لجنة تراقب الكتب القصصية المعدة لتربية الاطفال ومدى استيفائها للمعايير الموضوعية.
منهجية الغرب في غسيل الدماغ
ولقد طور الغرب من أساليب التوجيه وغسيل المخ الى ان وصل الى مجال الخيال العلمي وقصص المغامرات وأفلام الكارتون من خلال كل ذلك يزرعون الثقافة الغربية ومفاهيمها وأنماط تفكيرهم وطرائق معيشتهم وصنوف انحرافاتهم إلى عقول وأرواح الملايين من الناس من مختلف الثقافات والأديان.
وهذه القصص المشحونة بقيمهم تطبع منها ملايين النسخ، حتى ان كتب احدى الروائيات والمؤلفات القصص البوليسية([18]) طبع منها أكثر من مليار نسخة!، كما طبع مؤخرا كتاب من القصص الخيالية لأحد السحرة من سبع مجلدات([19]) بأربعمئة وخمسين مليون نسخة!
ومن خلال كل ذلك تتغلغل الثقافة الغربية الى اجيال الشباب الغربي او حتى الشرقي المسلم وتضخ عبرها نظريات فلسفية باطلة وعلمية مزورة وأخلاقية منحرفة بدءاً من نظرية انكار وجود الله ونظرية داروين ووصولاً الى الإرهاب وإلصاقه بالإسلام وانتهاءً بالتحلل والفساد الخلقي بل الى غير ذلك من المفاسد والمنكرات.
ان أساليب الدعوة والتوجيه وأساليب التأثير وغسيل المخ الأفراد والأمم تطورات وتعززت الا في عالمنا الاسلامي حيث بقيت دعوتنا على ماهي عليه منذ سنوات طويلة.
التأسي بالرسول (صلى الله عليه وآله) في بعض المشاهد التجسيدية
وقد سبق ان من الأساليب المهمة المغيبة في ثقافتنا هي المشاهد التجسيدية، فلو ان خطيبا شهيرا ارتقى المنبر في مجلس يضم عشرات الالاف من الناس ثم إذ كان منشغلا بإلقاء خطبته دخل إلى المجلس – مثلاً - طفل يتيم من ابناء ابطال الحشد الشعبي او أي مجاهد يقاتل تحت راية هدى، فإذا بادر هذا الخطيب، وسط دهشة الناس إلى النزول من المنبر واخترق الجماهير حتى وصل إلى ذلك الطفل عند الباب ثم احتضنه وحمله معه ورجع وهو يقرأ بصوت جهوري مؤثر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام):
"أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ [الْأَسْدَادِ]..."([20])
و"إِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَسَوَّغَهُمْ كَرَامَةً مِنْهُ لَهُمْ وَنِعْمَةٌ ذَخَرَهَا وَالْجِهَادُ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَحِصْنُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ وَشَمْلَةَ الْبَلَاءِ وَفَارَقَ الرَّخَاءَ و..."([21]) ألم يكن لهذا المشهد التجسيدي أبلغ الأثر في النفوس وألم يكن يتموج هذا الخبر على امتداد البلاد؟
ثم ان (المشاهد التجسيدية) ليست مما يصح استسهال شأنها بل هي فنّ بل وعلم قائم بذاته فيجب ان تدرس أنواع المشاهد التجسيدية وفنونها في المدارس والجامعات والحوزات، فكما ان الخطابة فن قائم بذاته وعلى الخطيب المبتدئ ان يذهب الى أستاذ قدير ليعلمه فن الخطابة ثم عليه ان يتمرن على الخطابة وان يصحح باستمرار اخطاءه ثم بعد ذلك يشرع بالخطابة لألوف الناس فكذلك يجب التتلمذ عند أستاذ قدير لتعلم فن المشاهد التجسيدية الضرورية في الدعوة الى الله تعالى وإلى قيم السماء.
7) بيعة الرضوان تحت ظل الشجرة
قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)([22]) والسؤال هو: ما هي القيمة المعرفية للشجرة؟ وما هو دخلها بالموضوع؟ يتضح الجواب عن ذلك مما سبق فان ربط البيعة بالشجرة أي بكونها تحت الشجرة لأجل إبراز مشهد تجسيدي حيوي مؤثر يبقى عالقاً في الاذهان الى يوم القيامة حتى لقد سميت تلك البيعة ببيعة الشجرة، مع اننا قد لا نعلم محل تلك الشجرة ونوعها أو مقاساتها أو غير ذلك.
8) المشاهد التجسيدية في قصة آدم (عليه السلام)
وقصة ادم (عليه السلام) هي الأخرى تحتوي على الكثير من المشاهد التجسيدية ومنها (الشجرة) قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)([23]) فقد اصبحت هذه الشجرة رمزاً لمعنى معين وهو إطاعة الله أو معصيته في أوامره مهما بدت المغريات كبيرة فالشجرة رمز ولا موضوعية لها، وقد عبر الشيطان عنها بشجرة الخلد (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)([24]) بينما ورد في بعض الروايات ان الشجرة هي شجرة الحسد فهي تجسيد مادي لذلك المعنى السامي وورد غير ذلك، وقد افصحت الرواية التالية عن الوجوه في ذلك:
"عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ما كانت، فقد اختلف الناس فيها؛ فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟ فقال عليه السلام: «كل ذلك حق».
قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: «يا أبا الصلت، إن شجرة الجنة تحمل أنواعا؛ وكان شجرة الحنطة وفيها عنب، وليست كشجر الدنيا، وإن آدم عليه السلام لما أكرمه الله تعالى ذكره، بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال في نفسه: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟
فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه: ارفع رأسك ـ يا آدم ـ فانظر إلى ساق عرشي؛ فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش، فوجد عليه مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم عليه السلام: يا رب، من هؤلاء؟
فقال عز وجل: يا آدم، هؤلاء من ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنة ولا النار، ولا السماء، ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري.
فنظر إليهم بعين الحسد، وتمنى منزلتهم، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة عليها السلام بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم عليه السلام، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما من جواره إلى الأرض"([25]).
والمهم ان الشجرة جاءت كمشهد تجسيدي مذكِّر يعبر منه إلى محور تدور حوله رحى الإطاعة والمعصية في قصة ادم وحواء عليهما السلام.
9-10) فنّ الرسم والنحت في الدعوة الى الله تعالى
ومن الفنون الضرورية في الحركة الدعوية: فن الرسم وهو فن عالمي له آلياته وأدواته لكنا متأخرون جدا في هذا المجال ولذا لاتشاهد الرسومات المعبرة عن مختلف أحداث واقعة الطف إلا قليلاً جداً، كما لا تجد رسوماً عن واقعة الفيل أو طوفان نوح أو عصى موسى وفلقه البحر أو عيسى وإحيائه للموتى، او عن ولادة الامام علي (عليه السلام) في مكة المكرمة او غير ذلك، مشروطاً ذلك طبعاً بالحفاظ على كامل قدسية الشخصيات الإلهية.
كذلك فنّ النحت فانه هو الاخر يعطي انطباعات تجسيدية عالية للمتلقين وهو مؤثر الى حد كبير حتى ان اليهود والمسيحيين أسسوا عدة متاحف على مستوى العالم ومن ذلك متحف الشمع اذ يعتبرونه معلما من المعالم العالمية.
كذلك المتحف الشهير المسمى بالهولوكوست وقد زرته ذات مرة لأرى أساليبهم في التأثير على الرأي العام، وهو متحف كبير يزوره الملايين من الناس ليروا ــ بزعمهم ــ ظلامات اليهود وما حل بهم على ايدي النازية.
لكن هل هناك متحف واحد يعكس ظلامات الشيعة؟!!
وهي ظلامات عظيمة ومذهلة فمثلا هل هناك متحف يعكس ظلامة زيد الشهيد (عليه السلام) وما صنعوا به وبصحبه.
مناطق فراغ في علم المنطق
عودا على بدأ:
من المعروف انه لابد لطالب العلم ان يدرس علم المنطق وتعريفه كما سبق: (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) لكن ههنا إشكالات ونواقص؛ اما النواقص ومناطق الفراغ:
أين ضوابط عصمة الفكر عن الخطأ في الفهم؟
منطقة الفراغ الأولى: اين موقع الآلة القانونية التي تعصم الإنسان عن الخطأ في (الفهم)؟ وذلك لأن الفهم والفكر أمران مختلفان والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فقد يفهم الانسان ولا يفكر وقد يفكر طويلا ولا يفهم؛ وذلك لأن:
(والفكر حركة من المبادي... ومن مبادي الى المرادِ) إذ قد يفهم الإنسان من غير إعمال فكر وروية وتأمل وتدبر وتفكر، وقد يفكر وهو غير فهِم، فهما شيئان مختلفان.
والمنطق يتكفل بعصمة الفكر والحركة من المبادئ الى المراد عن الخطأ من حيث العلة الصورية لكنه لا يتكفل بعصمة الفكر عن الخطأ في الفهم.
وقد أسس بعض علماء الغرب من المحدثين الجدد ما أسموه بعلم (الهرمنيوطيقا) لملئ هذا الفراغ وسد هذه الثغرة لكنهم زادوا الطين بلةً، وكان ينبغي لنا ان نسبقهم اليه او نطور علم المنطق بحيث يضطلع بهذا الدور أيضاً.
وحسب احدى المذاهب في علم الهرمنيوطيقا: فان احدى مهام هذا العلم هو ان يكتشف (أو يعالج) العلل التي تؤدي الى الخطأ في الفهم، والتي منها: التراكمات المعرفية والخلفيات النفسية، وهذا جارٍ في النص المعاصر كما هو جار في النص المكتوب قبل مئات السنيين إذ قد نفهم منه مالم يفهمه السابقون مع ان الكلام نفسه والدليل هو هو، لكن الفهم قد يكون مختلفاً، لكن ايهما هو الحق؟ بل ان الافهام تتعدد – كما قالوا – بتعدد الأشخاص ذوي الخلفيات المعرفية والنفسية المختلفة.
وعليه: فلا بد ان يكون لدينا علم يعصم الذهن عن الخطأ في الفهم وحيث وجد هذا الفراغ حاول علماء الغرب ملأه فهيأوا له (حشواً) من آرائهم وزخرفوها وبرعوا في تسويقها ولذا نجد ان الكثير من شبابنا الجامعي متأثراً بهم بل متحولاً إليهم([26]).
بل اننا نلاحظ ان بعض مدعي العلم متاثرون الى حد كبير بنظرياتهم واطروحاتهم.
وأين قواعد عصمة الفكر عن الخطأ في الإفهام؟
منطقة الفراغ الثانية: ماهي الآلة القانونية التي تعصم الإنسان عن الخطأ في الإفهام؟
فقد يكون البيان قاصرا فلا يوصل مراده الى الطرف الاخر فيفهم منه غير مقصده!!
هذا مما لا يتكفل به علم المنطق، وله ضوابط محددة ومعينة، بعضها مذكور في علم البلاغة لكن بعضها غير مذكور، والشاهد انه لم تصل كتاباتنا فيه الى المستوى المطلوب، ولعلنا نتكلم عن ذلك في مجال آخر.
من الإشكالات على علم المنطق
واما الإشكالات فهي كثيرة نشير إلى احدها اليوم:
الإشكال الأول: ان القدامى من المناطقة وتبعهم الجدد منهم استطردوا في علم المنطق الى بحث بعض الصناعات الخمس، فانه لا شك ان (البرهان) هو صغرى (الحجة)، فهو من علم المنطق دون شك بكل ألوانه (الإني، اللّمي، الشبيه باحدهما).
اما المغالطة فيمكننا ان ندخلها في علم المنطق بنحو ما كأن تكون المناسبة هي علاقة التضاد بين البرهان والمغالطة فانه يمكن ان تعرف الأشياء بأضدادها.
كما يمكن ان ندخل الجدل بذلك النحو أيضاً.
أجنبية الخطابة والشعر عن علم المنطق
ولكن – وهنا موطن الشاهد – لا ربط للخطابة بالمنطق، الا ان استطرادهم إليها لا بأس به نظراً لعدم وجود علم يتكفل بها، فكانت من الصناعات الخمس في علم المنطق.
توضيحه: ان الخطابة حسب تعريفهم: صناعة علمية([27]) الغاية منها اقناع الجمهور قدر المستطاع؟. وحسب البعض: (صناعة علمية بسببها يمكن إقناع الجمهور في الأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الإمكان)([28])
ومعنى ذلك ان الغاية للخطابة بما هي خطابة ليست هي الوصول الى الواقع والحق بل المهم هو اقناع الجمهور بأية طريقة كانت فهي ليست بما هي خطابة من الحجج ولا متقوّمة بالحجج.
نعم قد يستعين الخطيب بالحجج والادلة لكن الخطابة بماهي خطابة ليست من الحجج وليست غايتها إقامة الحجج ولا مقومها الحجة والحجج.
وكذلك لا ربط لصناعة الشعر بعلم المنطق فانه هو الاخر ليس من الحجج فان الشعر حسب تعريفهم هو: كلام مخيل مقفى مسجع موزون([29])، فأين هو من الحجة؟.
من مفردات آليات علم الدعوة
وهنا نقول: اذا أقحمنا هاتين الصناعتين (الخطابة والشعر) في علم المنطق فلماذا لا نقحم فيه ما لا يقل عنهما أهمية مثل:
أ- فن المشاهد التجسيدية (المسرح) ب- والادب التصويري ج- فن الرسم د- فن علم سرد القصص بأنواعها، وكذلك سائر الفنون الاخرى.
نعم نحن لا نفضل إقحام هذه الفنون في علم المنطق، بل نفضل – كخيار أول - ان يستحدث علم جديد نسميه (علم الدعوة الى الله والتبشير والانذار) وفيه تدرج الخطابة والشعر ويدرج أيضاً ما ذكرناه في هذا البحث من العلوم والفنون التي يمكن من خلالها ان ننشر الدعوة الى الله ورسوله.
وختاماً: فان الدعوة الى الله تعالى لها آليات واساليب تتطور بمرور الزمن، فعلينا ان نضع ذلك نصب العين كي نكون قد أمتثلنا هذا الواجب الكفائي الذي صار فرض عين بعد ان لم يقم به من فيه الكفاية، وذلك حسب الطاقة وبالقدر الذي يوفقنا الله سبحانه وتعالى إليه بعد استفراغ الوسع بالنحو الأمثل، ولا حول ولا قوة الى بالله العلي العظيم.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين